يوميات السوريين: البقاء في المنازل إلا في المناسبات.. والحزن يخيم على الجميع

«الشرق الأوسط» تلتقي سكان دمشق.. وقالوا إن الموت يتجول في شوارع العاصمة

صورة مأخوذة من مقطع فيديو على «يوتيوب» لدخان يتصاعد من القصف على من حي القدم في دمشق (أ.ف.ب)
TT

شعرت هيفاء بالإحراج عندما سألتها صديقتها «ماذا تحضرين اليوم طعاما للإفطار؟»، فبدأت إجابتها بمقدمة طويلة عن اجتماع إخوتها وأبنائهم في منزلها، والذي هو منزل العائلة.

وهيفاء، التي تجاوزت الخمسين من العمر، غير متزوجة.. ولا تزال تسكن بيت العائلة في حي الصالحية مع شقيقتها الأصغر، بينما أشقاؤها الستة الآخرين موزعون في دمشق وضواحيها، بالإضافة إلى اثنين مغتربين منذ عقدين.. إلا أنهم حرصوا دائما على الاجتماع ببيت العائلة في المناسبات والأعياد.

هذا العام كان صعبا جدا ولم يلتئم شملهم كما درجت العادة في المناسبات، وإنما حصل واجتمعوا لأن الأشقاء القاطنين في ضواحي دمشق اضطروا للنزوح من منازلهم في المناطق المتوترة إلى بيت العائلة، وتزامن اجتماعهم مع اضطرار أحد الأشقاء المغتربين لزيارة شقيقاته.

ومع أن ظروف الاجتماع ليست اعتيادية، إلا أن هيفاء اقترحت أن يحتفلوا بهذا الاجتماع ووافقت على اقتراح شقيقها بتحضير إفطار مشاوي على الفحم.. كبة ولحمة وكباب وتبولة. حاولت هيفاء تبرير ذلك لصديقتها التي صمتت أمام كل تلك المقدمة «هو طعام إفطار؛ وليس احتفالا».. واستدركت «بالتأكيد لا أحد لديه قدرة على الفرح، فالحزن مخيم على نفوس كل الناس».

واقترن شواء الكبة واللحمة في المنازل بمظاهر الفرح والاحتفال عند السوريين، لذا فإن غالبيتهم باتوا يجدون حرجا بممارسة أي نشاط ينم عن البهجة، فالبلاد كلها حزينة ومتألمة، ويتعرض من لا يبالي بمشاعر الآخرين للانتقاد المباشر وغير المباشر.

داني، شاب منخرط في العمل الإغاثي وعلى تماس يومي بالمآسي التي يعيشها النازحون، عبر عن استيائه الشديد من جيرانه الذين أقاموا حفل عرس كبير في إحدى الصالات بالحي، ووصفهم بـ«تبلد المشاعر وانعدام الإحساس.. فمن غير المقبول الرقص علنا على إيقاع الموسيقى الصاخبة والأنوار الملونة بينما يقتل العشرات يوميا والحزن يعم قلوب الأمهات».. ويضيف: «أنا لا أحتج على فرح الآخرين.. من حقهم أن يعيشوا الفرح لكن عليهم أن يراعوا مشاعر المنكوبين وأن تكون احتفالاتهم مستورة».

ويتابع داني، الذي يعيش في حي التجارة، أن عائلته «تشعر بالملل الشديد» بسبب الاعتكاف بالمنزل نتيجة الأوضاع الأمنية المتوترة، وقد اضطر والده للمكوث في المنزل غالبية اليوم، بعدما بات الذهاب إلى مكان عمله في الضواحي صعبا. كما أن لديهم مشكلة مع أشقائه الأطفال أثناء العطلة الصيفية، حيث لا يمكن ارتياد المسابح بشكل اعتيادي، أو أي مكان عام. وباتت التسلية الوحيدة التلفزيون والفيديو وألعاب الكومبيوتر، مما خلق جوا ضاغطا داخل البيت.

دائما هناك شجارات، ومع ذلك يقول داني: «نجد حرجا كبيرا من التنزه في الأماكن العامة رغم حاجتنا لذلك»، ويؤكد «ذلك غير ممكن حتى لو لم يكن هناك قصف أو اشتباكات، فما من عائلة إلا وفقد أو أصيب لها ابن أو قريب؛ أو فقدت بيتا.. نحن محاطون بالموت والدمار حتى لو لم نصب به مباشرة». ويضيف: «أول من أمس كنت على مقربة من انفجار وقع عند فندق (سميراميس) في حي المرجة، وقد وجدت نفسي وسط إطلاق نار كثيف.. الرصاص كان يسقط على الأرض كحبات البرد، شيء مذهل». ويؤكد داني أن «الموت يتجول بالشوارع».

أما ميساء، صديقة داني وجارته وزميلته في العمل التطوعي الإغاثي، فتختلف معه في الرأي، وترى أنه لا «يمكن للحياة أن تتوقف». وتتساءل: «ما ذنب الأطفال كي يختنقوا في المنازل؟ وكما يبدو أن الأزمة ستطول وعلينا التعايش معها».

وشجعت ميساء فكرة سكان البناء بتهيئة السطح للاجتماع وقضاء ساعات المساء معا وكأنهم في متنزه، وتقول: «كانت فكرة رائعة عندما قرر جارنا أبو صبحي تمضية بعض الوقت على السطح بعد الإفطار، لينضم إليه الجيران تباعا، وكل يأتي بمشروبات ومسليات وأرجيل مع عائلاتهم. ولا تخلو الجلسات من مرح ونكات.. ومن دموع».

وترى أنه حل نموذجي؛ فعدا كونه اقتصاديا، يمتن العلاقات الاجتماعية ويقرب وجهات النظر بين الجميع. لكن هذا الحل ليس متاحا دائما، فعندما تنشب اشتباكات بشكل مفاجئ أو يسمع دوي انفجارات وإطلاق مدفعي على أحياء جوبر والقابون وبرزة - القريبة من حي التجارة - يلوذ كل ببيته.

هيفاء، وبعد انكفاء أسابيع في المنزل منذ وصلت الاشتباكات إلى قلب العاصمة، قررت أخيرا أنها لن تموت في بيتها من الخوف، وستعود لتلبية دعوات صديقاتها لتبادل الزيارات، لكنها لن ترتاد المقاهي والمطاعم كما كانت تفعل في السابق.

إلا أنها اضطرت لتلبية دعوة صديقتها إلى مطعم «الشرق»، وتقول هيفاء: «دعتني صديقتي إلى إفطار في مطعم (الشرق)، أحد أقدم وأشهر مطاعم دمشق، بمناسبة عيد ميلاد ابنتها وأيضا لوداعها قبل السفر إلى كندا. فوجئت بأن المطعم كان شبه فارغ، علما أنه كان في السابق من المطاعم التي يحتاج دخولها إلى حجز مسبق قبل يومين أو ثلاثة».. وتتابع: «الطاولات المشغولة لم تتجاوز أصابع اليدين، كما خيم على الأجواء وجوم عام فرضته طبيعة الأحاديث وأخبار من قتل ومن اعتقل ومن اختطف، وأين نصبت حواجز جديدة وأي الطرق أفضل وأي المناطق هادئة وأيها تتعرض للقصف، وماذا حل بعائلة فلان وإلى أين نزح فلان وطرق الوقاية من القصف والقذائف».

وتقول هيفاء: «الطريف أنه حتى النكات تكون عن الرعب والقتل والمغامرات اليومية عند الحواجز وأثناء المداهمات».. وتروي أن أحدهم أخبرهم كيف اختطف ابنه من قبل إحدى العصابات في ريف دمشق، وكان هو على خصام مع ولده لسوء سلوكه، وحين طلب منه الخاطفون فدية 5 ملايين ليرة قال لهم: «لست بحاجة لابني احتفظوا به.. وإذا كان لديكم 5 آلاف ليرة أرسلوها لي».. وتضحك هيفاء، موضحة أنه كان صادقا فيما يقول، فهو «فعلا تخلى عن ابنه وكذلك الخاطفون.. إذ سرعان ما أطلقوا سراحه». تلك القصص التي تنتزع ضحكاتنا لا تبدد الكآبة، والخوف من المجهول.

آمال معلمة الثانوي، غادرت العاصمة إلى بلدتها القريبة من مدينة الضمير خلال عطلة الصيف في ريف دمشق، لتجدها وقد اكتظت بأكثر من 2500 عائلة نزحت من دوما وعربين وحرستا. وبعد يومين قضتهما بالملل والكآبة حبيسة داخل جدران المنزل مع والدتها المسنة، فكرت في القيام بعمل ما يخرجها من حالة الركود التي تعيشها، فتعاونت مع صديقاتها لوضع قاعدة بيانات للعائلات النازحة مع قائمة بأهم الاحتياجات، بهدف تنظيم العمل الإغاثي الذي مازال عفويا ويعاني من الفوضى.

هذا العمل أكل معظم ساعات يوم آمال، وتشير إلى أنه «لا يمكن الانكفاء في المنزل بينما البلد يحترق، نحن أمام كارثة إنسانية كبيرة». وسبق لآمال العمل في مجال الإغاثة في العاصمة لكنه كان نشاطا محدودا، بعد دوام في المدرسة. وتقول: «عندما كنت في دمشق كانت الساعات بعد انتهاء الدوام تمضي بلا جدوى، وسيطر علي شعور بالعجز، فكل يوم نسمع أصوات التفجيرات ونراقب تزايد أعداد النازحين في شوارع دمشق وحدائقها ومدارسها، ولا نستطيع فعل شيء لوقف تفاقم الكارثة.. حاولت المشاركة في المظاهرات لكن وحشية قوات الأمن جعلتني أتردد في الاستمرار بالتظاهر، سيما أنني شابة أعيش بعيدا عن عائلتي». حاولت آمال تمضية الوقت في تصفح الإنترنت والتواصل عبر «فيس بوك»، لكن رداءة الإنترنت «جعلتني أكره حياتي»، وشعورها باليأس «أيقظ في جسدها كل الأوجاع»، حتى القراءة تقول آمال إنها أقلعت عنها لعدم القدرة على التركيز.

طبيب الأطفال رضوان، الذي يسكن وسط العاصمة، بينما عيادته في قدسيا في ريف دمشق، يعاني من الملل أيضا؛ فهو حبيس البيت معظم الوقت منذ اضطراب الوضع في قدسيا وبدء القصف عليها. ومع أنه مثابر على ارتياد ناد رياضي 4 مرات في الأسبوع، إلا أن ذلك لا يملأ الفراغ الذي أحدثه إغلاق العيادة في حياته وحياة أسرته.

ويقول إنه متزوج منذ 20 عاما ولم يحصل أن تشاجر مع زوجته أو أولاده، لكن في الفترة الأخيرة التي مكث فيها إلى جانبهم في المنزل «كل يوم هناك مشكلة، وكل يوم جدل حاد حول حقوق كل منا، جميعنا يشعر بأن حقه مغبون لأنه لا يمارس حياته الاعتيادية». ويشير إلى أن زوجته «صارت تتسامح مع الأولاد إذا رغبوا باللعب مع أولاد الجيران في بيت الدرج عندما لا تتوفر الفرصة لذهابهم إلى النادي بسبب الوضع الأمني، وكان هذا سابقا من الممنوعات لديها.. فهي أيضا لم تعد تتحمل ضجيجهم في المنزل طوال اليوم». إلا أنه يؤكد أنه «حتى اللعب في بيت الدرج ليس متاحا دائما، فعزرائيل يتجول في شوارعنا طوال الوقت».

* «الشرق الأوسط» تتحفظ على أسم مراسلها في دمشق حفاظا على سلامته