مدينة بنغالور الهندية تصارع للحفاظ على تراثها

تشهد عصرا سريع التغير مع ازدهار شركات التكنولوجيا الحديثة

الأسواق التجارية ذات الواجهات الزجاجية (واشنطن بوست)
TT

يبدو أن الطريق الرئيسي في مدينة بنغالور، التي تشتهر بتكنولوجيات المعلومات، يتغير كل يوم، حيث حلت الأسواق التجارية ذات الواجهات الزجاجية والمباني متعددة الطوابق محل المتاجر القديمة التي كانت تمتلكها العائلات في الماضي، بينما تتسبب الازدحامات الفوضوية في حدوث اختناقات مرورية كبيرة في هذا الشارع، الذي كان هادئا ومنظما منذ عقدين فقط من الزمان. وفي الموقع الذي وجدت فيه قديما دار عرض سينمائية عمرها 90 عاما، توجد الآن حفرة عملاقة يتم تجهيزها لتشييد محطة مترو أنفاق.

يقول بهوبالام سريناث (54 عاما) الذي يقع متجر الملابس الذي يمتلكه في شارع المهاتما غاندي في مواجهة محطة مترو الأنفاق الجديدة: «أريد لمدينتي أن تنمو وتزدهر، ولكنني لم أكن أدرك أن مدينتي الهادئة التي تمتلئ بالحدائق سوف تنفجر هكذا»، مضيفا: «لقد كان هناك شارع عريض تصطف على جانبية الأشجار في وسط المدينة، ولكنه اختفى الآن».

لقد اختفى هذا الشارع ويخشى كثيرون أن يتم نسيانه قريبا. وبينما تؤدي الوتيرة المتسارعة للتحول الاقتصادي في الهند إلى إعادة تشكيل الأماكن الطبيعية وتغيير طبيعة الحياة في البلاد، يشعر الناس في مختلف المدن الهندية بمشاعر الضياع والقلق حول الأشياء التي قد تحل محل أساليبهم القديمة. يقول المؤرخون الاجتماعيون إنهم يحاولون جاهدين تجميع وحفظ القصص الخاصة بالأشياء التي تختفي في المدن الهندية والثقافة التي أصبحت غربية في البلاد.

يقوم بعض المؤرخين بتسجيل ذكريات الأشخاص عن الأحياء القديمة والمؤسسات الثقافية والأحداث والصراعات السياسية، بينما يقوم آخرون بمساعدة الشركات على الاحتفاظ بسجلاتهم أو استخدام مواقع الإنترنت التي تشهد إقبالا كبيرا كوسيلة لتجميع ذكريات الناس.

ويقول إنديرا شودهوري، رئيس «مركز التاريخ العام» في «كلية سريشتي للتصميم والفن والتكنولوجيا»، التي تقوم بتسجيل التاريخ الشفهي للسكان المحليين الذين يعيشون ويعملون على طول طريق المترو الجديد في مدينة بنغالور: «نحن في خضم عملية التغيير، والجميع يحاولون التكيف مع هذه الحقيقة بطرق مختلفة».

يضيف شودهوري: «غالبا ما يبدأ الناس بالقول: (كل شيء كان أفضل في السابق، والأمور باتت أسوأ الآن)، ثم يتحدثون عن فقدان أشياء كثيرة. ولكن عندما يقومون بتذكر الأيام السابقة، يبدأ الناس في الحديث عن دورات التغير الأخرى التي حدثت في المدينة في الماضي، وهو ما يساعدهم على التكيف مع الاضطرابات الحالية وعدم الخوف من التغيير».

شاركت كلية سريشتي في مشروع التاريخ الشفهي للمناطق الحضرية الذي أجراه «مركز التاريخ العام»، الذي يترأسه شودهوري، في يناير (كانون الثاني)، والذي تحدث عن التغييرات التي شهدها متجره على مدى 44 عاما. يتذكر مشارك آخر، وهو صاحب مقهى يواجه خطر الإغلاق، عندما كان يقوم بتوفير القهوة لنحو 25.000 أسير حرب إيطاليين، الذين تم التحفظ عليهم في هذه المدينة خلال الحرب العالمية الثانية، بينما يتذكر آخرون مشاهدة الإيطاليين وهم يلعبون كرة القدم مع الفرق المحلية وانتشار مطاعم البيتزا في المدينة عقب انتهاء الحرب.

وفي بعض المدن الأخرى، بما في ذلك جمشدبور وكلكاتا الواقعتين شرق الهند، يتجمع الجيران مع بعضهم البعض لتسجيل ذكرياتهم والحفاظ على الصور الفوتوغرافية التي تظهر أحياءهم التي تتغير بوتيرة كبيرة. قام قليل من الشركات الكبرى بتعيين بعض المؤرخين وموظفي الأرشيف لتسجيل بداياتهم الأولى والدور الذي لعبوه في بناء الأمة بعد فترة وجيزة من حصول الهند على استقلالها من الاستعمار البريطاني في عام 1947.

وعلى مدار العقد الماضي، كانت بنغالور هي المثال الحي على قصة النجاح الهندية، حيث كانت مركزا لوظائف التعهيد الخارجي ونقطة انطلاق لأصحاب مشاريع تكنولوجيا المعلومات نظرا لاحتوائها على القوة العاملة الشابة والمتعلمة، مما أدى لاجتذاب المئات من شركات التكنولوجيا المتطورة حول العالم.

أصبحت بنغالور أيضا نموذجا مصغرا للتحديات التي تواجه الهند، حيث تضاعف عدد سكان المدينة تقريبا في الـ10 سنوات الماضية، ليزيد على 9.5 مليون نسمة. أدى سوء البنية التحية والحوكمة غير الفعالة وارتفاع الدخل وزيادة التوقعات إلى إثارة حالة من الفوضى في المدينة. ونتيجة للتطور الذي تشهده البلاد، تحاول بنغالور، مثل كثير من المدن، اللحاق بركاب التقدم، حيث باتت الطرق المتهالكة والمباني التاريخية المدمرة ووسائل النقل العام غير الكافية والتلوث والاختناقات المرورية ومناطق البناء هي ما تميز المدينة.

أكد أنوشا ياداف، وهو مصور وثائقي الذي بدأ في مشروع عبارة عن بوابة ذاكرة بصرية خاصة بالتعهيد الجماعي تدعى «مشروع الذاكرة الهندي»، أنه على الرغم من ارتفاع مستويات الدخل، قام الهنود بإهدار الفرصة لتحسين نوعية حياتهم والمدن التي يقطنون بها، وبدأوا بدلا من ذلك في النظر إلى الماضي كوسيلة للهروب من الحاضر.تحول الموقع الإلكتروني إلى مجموعة من الصور والقصص العائلية التي تؤرخ لبعض الأشياء التي تلاشت في الوقت الراهن مثل الطقوس القديمة الخاصة بموضة الساري والحرب والزواج والهجرة والسكك الحديدية وحركات التحرر.

ويقول ياداف (37 عاما): «لقد جاءت الثروة والنمو الكبيران بصورة مفاجئة لدرجة أنه لم يكن هناك وقت كاف لتحدث بصورة صحيحة ومنظمة. لقد أردنا الانتقال سريعا إلى السيارات الأكبر.. المنازل الأكبر.. والمراكز التجارية الأكبر.. والمدن الأكبر. أما الآن، يغيب حكم القانون في الوقت الذي يستشري فيه الفساد في البلاد. تختنق مدننا بأعداد كبيرة من السيارات، في ظل غياب إمدادات المياه والكهرباء. لقد تسببنا في فوضى كبيرة، لذا يحاول الناس استرجاع ذكرياتهم القديمة كنوع من المواساة».

قام أنوبام مكرجي (36 عاما)، مؤسس موقع للعبة الكريكيت، مؤخرا برفع صورة لتجمع عائلي في منزل جده في كلكاتا تعود إلى عام 1970.

يقول مكرجي: «ترجع هذه الصورة لوقت كانت فيه الأمور أكثر هدوءا والحياة أكثر بساطة والناس أكثر رضا، ولكن أنظر كيف أصبح الوضع الآن. في كل مرة أذهب فيها للتنزه، أرى أن شيئا مألوفا لي قد اختفى بسبب بناء جديد، وأرى زيادة حالة الغضب بين الناس وأنهم باتوا على استعداد للعراك في كل مكان. وكل ما يمكنك رؤيته في سائر المدن الهندية قد حدث مسبقا في بنغالور».

وبالنسبة لكثيرين من سكان بنغالور، تمثل إحساسهم الأكبر بالخسارة عندما بدأت المدينة في حفر الشارع المركزي الذي تصطف على جانبية الأشجار لإنشاء خط مترو جديد، الذي تم افتتاحه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يقول السكان إن ذلك الشارع المليء بالأشجار كان يوما المكان الذي يقوم فيه السكان بالتنزه والغناء ولعب الشطرنج.

يتذكر كثيرون من السكان كبار السن رؤية الأزواج البريطانيين يتنزهون في هذا الشارع ممسكين بأيدي بعضهم البعض قبل الاستقلال. وفي ستينات وسبعينات القرن العشرين، كان ينظر إلى هذا الشارع على أنه القلب النابض للمدينة، قبل أن يصبح في وقت لاحق مقرا لمهرجان الفنون السنوي الذي تنظمه المدينة.

وفي مايو (أيار)، تجمع كثير من المؤرخين من شتى أرجاء الهند في بنغالور لتأسيس أول جمعية للتاريخ الشفهي في الهند، التي تهدف إلى تشجيع المبادرات الوطنية التي تقوم بتسجيل التجارب المعاصرة للسكان. وفي العام القادم، يخطط هؤلاء المؤرخون لتسليط الضوء على التاريخ الشفهي في أحد المؤتمرات الوطنية التي ستعقد في مدينة لوكناو بشمال البلاد.

يهدف مشروع «قصص البحيرة»، وهو أحد المشاريع الأخيرة التي قام بها تلاميذ شودهوري، إلى تسجيل حكايات السكان المحليين حول التغيرات التي طرأت على علاقاتهم بالبحيرات سريعة التلاشي الموجودة في المدينة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»