تل رفعت تجسد مسيرة الثورة السورية من نضال سلمي إلى مسلح

رغم تساقط الصواريخ فإن المقاتلين لم يتركوا أماكنهم في انتظار الجنود الموالين للنظام

اثنين من مقاتلي الجيش السوري الحر في نوبة حراسة في تل رفعت («نيويورك تايمز»)
TT

اندفع عبد الحكيم ياسين، قائد مجموعة من المقاتلين المناهضين للنظام السوري، بشاحنته ليقف أمام مجمع سكني محاصر يستخدمه كقاعدة لتنفيذ معارك الشوارع. وكان مقاتلوه ينتظرون أوامره بتنفيذ هجوم قبيل الفجر على نقطة تفتيش تابعة للجيش في مدخل حلب، التي تعد أكبر المدن السورية. تم إعطاء الرجال الذخيرة وأدوا صلاتهم. وكانت القنبلة شبه معدّة. وفي تلك اللحظة كان القائد إزاء مفاجأة، فقبل ذلك بدقائق، اتصل والده الذي تم إلقاء القبض عليه في نقطة التفتيش ذاتها في يوليو (تموز) ليخبره بأن معتقليه أطلقوا سراحه، وأنه بحاجة إلى وسيلة تنقله من حلب سريعا.

وصاح الرجال: «الله أكبر». وصعدوا إلى الشاحنات، وحشوا أسلحتهم بالذخيرة وانطلقت بهم الشاحنات وسط الظلام على طرق شبه مقفرة باتجاه المدينة الواقعة تحت الحصار، من أجل استعادة واحد منهم.

كان ياسين مستغرقا في التفكير وقلقا من أن تكون المكالمة هدفها جذبه ورجاله إلى فخ. وقال: «عادة ما يفعل النظام ذلك، وعادة ما يكون ذلك كمينا». وقال إنه أرسل شاحنة لا تحمل أحدا من أجل اكتشاف الطريق، لكنه لم يبطئ أبدا. وسمح ياسين ومجموعته، «أسود التوحيد»، لصحافيين اثنين من «نيويورك تايمز» خلال 5 أيام في الأسبوع الماضي بالإقامة والتنقل معهم وهم يخوضون المعارك الرامية إلى خلع بشار الأسد.

وتعمل هذه المجموعة تحت قيادة «لواء التوحيد»، الذي تم تشكيله مؤخرا في محافظة حلب لتوحيد المجموعات المختلفة والقتال تحت لواء الجيش السوري الحر، الذي يضم مجموعات متنوعة من الثوار المسلحين. وفي الوقت الذي يصعب فيه معرفة الوضع بشكل كامل من مجموعة مقاتلة واحدة في مجتمع معقد، ترسم الأنشطة والقصص الإنسانية لهؤلاء الرجال، الذين هم خليط من المدنيين الذين حملوا السلاح وعدد من المنشقين عن الجيش السوري انضموا إليهم، لنا صورة مكثفة للثورة، والزخم والحماس في خوض معارك الشوارع.

كان ياسين، الذي يبلغ من العمر 37 عاما، قبل الحرب، محاسبا مهندما، يعيش حياة هادئة مع زوجته وطفليه. أما الآن فقد باتت له لحية كثّة وله سمت هادئ رزين وسط النيران، فقد اشتد عوده على نحو لم يتخيله بفعل الحرب.

إنه يتجول في حلب مع عدد كبير من الرجال المسلحين للتمويه والتخطيط للهجمات بالتعاون مع قادة آخرين والتهرب من الضربات الجوية، ومقابلة مهربين وصانعي قنابل من أجل الحصول على المزيد من الأسلحة، والتناوب على القيام بمهام الخطوط الأمامية في حملة تجوب الشوارع. ويفضل النوم نهارا والقتال ليلا. وجاء مقاتلوه من مختلف المناطق في البلاد المنقسمة على ذاتها؛ من هؤلاء وكيل عقارات ومزارعون وعمال بناء وممرض يملك مطعما صغيرا. إن هؤلاء الرجال يقاتلون إلى جانب بعضهم مع قيادات انشقت عن الجيش السوري، الذين يقولون إن النظام الذي كانوا يخدمونه يوما يجب أن يسقط.

بدأ المدنيون بأحجار وأسلحة نارية اشتروها من أجل الصيد. وكان أول سلاح قوي يمتلكونه منجنيق يطلق قنابل مولوتوف وبعض القنابل البسيطة يدوية الصنع. ومع انضمام الجنود المحترفين إليهم، بدأوا يحصلون تدريجيا على بنادق عادية وبنادق آلية وقنابل صاروخية ويدوية. ولديهم حاليا سيارة مدرعة ودبابتان. ومع تزايد عددهم وقوتهم، بدأوا ينظمون صفوفهم في شكل كتلة تجمع بين الانضباط شبه العسكرية والشرطي المدني والشريعة الإسلامية ومقتضيات الضرورة القاسية وبرود ساحة المعركة والدهاء الكامل. وبات لديهم مخبرون وجواسيس ويتنصتون على اتصالات الجيش التابع للنظام، في الوقت الذي يحاولون فيه تشكيل حكومة ناشئة بأنفسهم على الأرض التي سيطروا عليها. مع ذلك، يتوقون إلى القتال ويسعون لتقويض نظام الأسد وقواته التي تفوقهم في التسليح بأي طريقة. ثقتهم الجمعية بأنهم سيهيمنون في النهاية هي ما تجمعهم معا، وتخبرهم بأن هذا هو زمنهم؛ من الاحتجاجات إلى الأسلحة.

بالنسبة إلى سكان مدينة تل رفعت، الذي يبلغ عددهم نحو الألفين، ويعيشون في بيئة زراعية، انتقلت الثورة من مرحلة المظاهرات السلمية إلى الحرب المفتوحة. وبدأ الأمر باحتجاجات في بداية عام 2011، حاول النظام قمعها. وشكّل عبد الحكيم ياسين في منتصف صيف العام الماضي خلية مكونة أقل من 10 سكان لتخوض حرب شوارع. وبدأوا بأربعة بنادق خرطوش وبنادق صيد في مواجهة نظام لديه قوات شرطة كبيرة وجهاز استخبارات قوي وجيش قوامه مئات الآلاف من القوات.

وفرّقت قوات الأمن مظاهرة في مستودع قطارات بإطلاق النيران في سبتمبر (أيلول) مما أسفر عن إصابة 83 شخصا، ومقتل شاب يدعى أحمد محمد حميد يبلغ من العمر 32 عاما. وقال ياسين إنه كان يعلم بأن الحرب بدأت. وقال: «تم توزيع الجميع في تل رفعت في فرق». ومع تنظيم المسلحين للكمائن، عاد فنيو الآلات والميكانيكيون إلى العمل، حيث يعرفون كيفية إعداد المواد المتفجرة وتصنيع قنابل منها. وجاء التمرد في تل رفعت وكذلك في المناطق الأخرى كرد فعل لتنكيل النظام. وبحلول فصل الربيع الحالي، ومع قدوم الجيش لاحتلال تل رفعت، أصبحت المدينة، التي تعد حاليا مدينة خبيرة بشؤون الحرب، خاوية على عروشها. وكانت هناك لافتة تحمل عبارة «الأسد وإلا فلا». فرد الثوار عليها بكتابة عبارة «لن نركع إلا لله».

وكما يحدث في حروب الشوارع منذ قديم الأزل، مع تزايد العدد، تتفق المجموعة الأساسية على الانشقاق وتكوين مجموعات قتالية متصلة ببعضها، تبدأ في تقبل المنشقين عن الجيش. وفي تلك اللحظة انضم جمال أبو حوران، جندي المشاة في الجيش السوري، الذي رفض ذكر اسمه بالكامل، إلى ياسين. وجاءت رحلة جمال أبو حوران من مواطن سوري شريف ومجند متطوع في الجيش السوري إلى مقاتل ضد نظام الأسد بعد إعادة الشاب البطل اكتشاف بلاده مع اندلاع العنف حوله. لقد كان طالبا يدرس الأدب العربي في جامعة البعث في حمص، حيث درس الشاعر الفلسطيني المناهض لإسرائيل والأنشطة العسكرية الغربية في الشرق الأوسط، محمود درويش. ومنذ عامين، استدعاه الجيش من أجل أداء الخدمة العسكرية، وترك كتبه طوعا من أجل التدرب على التكتيكات العسكرية وأسلحة المشاة.

ومع اتساع نطاق الثورة ولجوء النظام إلى ارتكاب المزيد من أعمال العنف لقمعها، بدأ الشعور بعدم الراحة تجاه جيشه يساور جمال أبو حوران. وكان من المقرر أن تنتهي فترة تجنيده بداية العام الحالي، لكن الجيش مد فترة خدمته من دون موافقته وأسند له مهمة قيادة فرقة مشاة في إطار سياسة الطوارئ التي تهدف إلى الحفاظ على القوة البشرية من أجل مقاومة التمرد المتنامي. ولم يفلح الأمر، ففي بداية أبريل (نيسان)، اتصل جمال أبو حوران، بصديق له في حمص وأخبره بأن الجنود اغتصبوا فتاة عمرها 11 عاما، واستحال شعوره بالنفور إلى الاشمئزاز.

وقال: «لقد كنت أعتقد أن الجيش مهمته الدفاع عن البلاد والتصدي للخطط الغربية في الشرق الأوسط، لكنني اكتشفت أننا كنا جميعا نخدم في جيش لا يحمي شعبه». اتصل أبو حوران باستخدام برنامج «سكايب» بناشط من تل رفعت دعاه إلى الانشقاق عن الجيش والتوجه إلى قرية قريبة، لتقله بعد ذلك سيارة تنتظره هناك. وسرعان ما شغل موقعا سريا في معارك الشوارع. وأخبر النشطاء أنه درس الأسلحة وطلب الانضمام إلى قتال الثوار. واتصل ناشط هاتفيا بياسين، الذي سرعان ما ظهر أمامه. ويتذكر جمال الكلمات الأولى لقائده الجديد الذي قال: «إنك أخي، ودمك عندي أغلى من دمي». وكان رد جمال أبو حوران هو ما حدد مسار حياته الجديدة. وقال: «آمل أن يمنحني الله القوة للدفاع عن أشخاص مثلك». لقد كان هذا عهده بعد أن بدّل موقعه.

في منتصف أبريل كان يعمل تحت إمرة ياسين، الذي شكّل مؤخرا مجموعته المسلحة؛ تسعة من المسلحين، في الوقت الذي كان الجيش يفعل ما يحلو له في ريف حلب. من المهام الأولى لأبو حوران هي التجنيد، حيث كان الإقناع وسيلة لشن الحرب، فكلما زاد عدد الجنود التي يمكن للثوار إقناعهم بالانشقاق، أضعف ذلك الجيش وقوى شوكتهم هم. وقال: «لقد بدأت الاتصال بأشخاص كنت أعرفهم من الجيش. وأقنعت 12 فردا بالانشقاق». ومع تزايد عدد القوات المقاتلة من الثوار، برز دور أبو حوران، حيث أصبح واحدا من معاوني ياسين المقربين، وقاد فرقا صغيرة في هجمات وأدار شؤون مستودع الأسلحة، حيث كان يوزع الأسلحة ويجمعها بانضباط، وباستخدام السجلات المضبوطة فيما يشبه حياته في الجيش الذي دربه».

مشاهد عند نقطة تفتيش بحلول الصيف مع تنامي حركة الانشقاقات من الجيش وتطور أداء الثوار، تراخت قبضة الجيش. وكانت المجموعات المختلفة في المنطقة تبعد القوات التابعة للنظام من الريف. وحافظت الوحدات العسكرية على وجودها في قاعدة ميناخ الجوية بالقرب من تل رفعت وفي مدرسة المدفعية بالقرب من حلب. انتقل القتال إلى المدينة، حيث يقاتل معا عدد كبير من المجموعات، من بينها مجموعة ياسين، تحت «لواء التوحيد»، الذي يعد حديثا نسبيا ويسعى لتنظيم وتوحيد مجموعات الثوار المتنوعة في المحافظة.

ومع هذا التشكيل الجديد زاد التنسيق. وبدأت مجموعة ياسين تبادل الأدوار على الخطوط الأمامية. وفي منتصف أغسطس (آب) عاد المقاتلون إلى تل رفعت للاستعداد لتنفيذ هجوم أسنده المجلس العسكري الثوري للمحافظة به، ويهدف إلى تدمير نقطة تفتيش تابعة للجيش على الطريق الشمالي خارج المدينة.

جمع لواء التوحيد معلومات استخباراتية من أجل العملية. كان بنقطة التفتيش سيارتان مدرعتان صناعة روسية تحمي نحو 30 جنديا في مبان صغيرة. وكان هؤلاء الجنود يحتمون خلف حواجز ترابية تجبر أي سيارة تقترب بالإبطاء والتلويح. كان أكثر من 50 جنديا يشاهدون ذلك من مستشفى على مقربة من نقطة التفتيش.

عاش كثير من الفلسطينيين في الحي الذي يقع بالقرب من نقطة التفتيش. وكان الثوار يعتقدون في ولاء تلك الأسر لنظام الأسد، الذي استضافهم لعقود. ولم يتمكن الثوار من اختراق منطقة الفلسطينيين.

إضافة إلى ذلك، كان سلاح الجو، الذي يستطيع حشد مروحيات وطائرات للهجوم البري، يدعم نقطة التفتيش. وكانت تكلفة الهجوم ستكون باهظة وربما تودي بحياة كثير من الثوار. مع ذلك لم يتوقف الثوار عن التفكير في شنّ هجوم على نقطة التفتيش، فطالما ظل النظام مسيطرا على تلك النقطة، ستكون الطرق التي تربط المدينة بما حولها محدودة، ويمكن للجنود كشف كل المدنيين الذين يتنقلون على الطريق واعتقال أي شخص يريدونه.

كان لياسين تجربة شخصية في هذا الصدد، ففي يوليو (تموز) تم القبض على والده جمال من قبل الجنود في تلك النقطة بالتحديد. وشك في أن يكون ذلك بسبب معرفة النظام بأن ابنه يقود مجموعة مسلحة. وقال إنه توقع أن يتم قتل أبيه، وقال إنه من الضروري تدمير نقطة التفتيش هذه. وترك ياسين بداية الأسبوع الحالي مقاتليه في المجمع السكني من أجل حضور اجتماع للقادة. وأصدر أوامر لهم بالاستعداد لتنفيذ الهجوم عند عودته. وعاد قبل منتصف الليل، وقال إن الهجوم يجب أن يتأجل، فوجم المقاتلون. وفي مساء اليوم التالي وصلت شاحنة عليها معتقل شاب. وقال المقاتلون إن الرجل، الذي كانوا يدعونه أبو هلال، تبين أنه من الشبيحة الموالين للنظام، تم اعتقاله وأسره من قبل الثوار في مدينة معرة التي تبعد بضعة أميال. كان أبو هلال رجلا طويلا نحيلا حليق الرأس، جفل وجبن مع تجمع المقاتلين حوله. وظهرت على جسده آثار ضرب مبرح، حيث كانت ذراعه اليسرى متورمة بفعل الكدمات. وكان يعرج على الدرجات الحجرية، وجلس وهو منهك نفسيا وبدنيا.

كان الثوار يكنون كراهية شديدة للشبيحة، وحال أحد المقاتلين ويدعى عنتر بين أبو هلال والمقاتلين الآخرين لحمايته، واقتاده إلى المطبخ حيث خلع ديب ملدعون، ممرض مدرب يعمل مع الثوار طاهيا وممرضا، ملابس أبو هلال من أجل فحص جروحه. وكانت الكدمات تغطي ظهر أبو هلال وساقه اليسرى. وقف ياسين لدى الباب ودعا المعتقل للاستراحة. وسأله: «هل تريد الاستحمام؟»، فأجابه أبو هلال قائلا: «لا، شكرا». وقال ياسين: «ستنام جيدا إذا فعلت ذلك».

وقدم المقاتلون لأبو هلال الخبز والمربى والسجائر، وقال إنهم سيحضرون له بطاقة هوية حتى يستطيع السفر بمجرد إطلاقهم سراحه. وتدريجيا فقدوا الاهتمام به، وجلس القرفصاء وحيدا على أرض المطبخ، وأخذ يدخن السجائر.

في مكتبه بجانب الباب، بدا على ياسين الاستغراق في التفكير. وكان يدخن السيجارة تلو الأخرى. كان أبو هلال نزيلا في سجن النظام قبل الثورة، وتم إطلاق سراحه من أجل دعم الشبيحة على حد قوله. واعترف في محكمة الثوار بارتكابه جريمة اغتصاب و6 جرائم قتل كما أفاد الثوار. وأصدرت المحكمة بحقه حكما بالإعدام. وقال ياسين إنه عارض إعدام الرجل. وقال إنه طلب من الثوار تسليم أبو هلال له حتى يرتب عملية تبادل للأسرى أو للحصول على فدية في شكل أسلحة مقابل تسليمه للنظام. وقال: «إنه رجل طالح، لكن فلنجعله مفيدا للثورة».

عفو غير متوقع وفي تلك الليلة، ذهب عبد الحكيم ياسين لحضور اجتماع آخر يناقش الهجوم على نقطة التفتيش، وحصل جمال أبو حوران على الأسلحة والذخائر، ثم قام الثوار بأداء الصلاة.

وعاد ياسين مسرعا وهو يطلق نفير سيارته، وصاح قائلا إن والده قد اتصل به وقال له إنه خرج من السجن بشكل غير متوقع، ولذا كان يتعين عليهم الذهاب بسرعة لاستعادته. وهلل الرجال وقفزوا على شاحناتهم واتجهوا جنوبا باتجاه حلب.

وفي الشاحنة التي تسير في المقدمة، حاول ياسين مرارا الاتصال بصديق له كان قد أرسله بزي مدني في شاحنة بضائع فارغة للتأكد من الأمر. وكان ياسين يتوقع أن يكون في الأمر خدعة، ولذا كان يريد من سائق السيارة الأمامية أن يتأكد من أن والده قد خرج من السجن فعلا، وأن الأمر ليس فخا منصوبا لهم، حتى يتمكن المقاتلون من التقدم.

وفي ضواحي المدينة، وصل ياسين إلى الرجل الآخر الذي قال إنه كان مع جمال ياسين، واتجها ناحية الشمال. وبدا ياسين في لحظة ما ابنا أكثر منه قائد حرب عصابات، حيث أنهى المكالمة وقاد السيارة في صمت، ثم قال: «الله أكبر».

وفي الظلام الحالك في ذلك الطريق المهجور، اقتربت الشاحنة الأخرى، ثم توقفت، وخرج منها جمال ياسين الذي كان منتصب القامة وقوي البنية وحليق الرأس، وكان يبدو أنه لم يصب بأذى.

وسارع المقاتلون باصطحابه إلى المقعد الأمامي في الشاحنة الأولى، وجلس بجانب نجله، واتجهت السيارة إلى مدينة تل رفعت.

وقال جمال ياسين إنه لم يتعرض للتعذيب، ولكن زنزانة السجن كانت صغيرة ومكتظة لدرجة أنه لم يكن يتمكن من النوم تقريبا. واعترف عبد الحكيم ياسين بأنه كان قلقا للغاية، مضيفا: «كنت متأكدا بنسبة 99 في المائة أنه كان كمينا». وكان الوالد يستمع بهدوء، ثم قال بلطف: «ولكن هل كنت تعتقد أنه لو كان كمينا كنت سأتصل بك؟ لم أكن لأقوم بذلك ولو ذبحوني».

ورد عبد الحكيم قائلا: «أبي، أقسم بالله أنني أعاني من ضغط كبير»، وقال الأب: «تعامل مع الأمور بسهولة يا بني، لا توجد أي ضغوط».

هجوم مخطط له منذ فترة طويلة واصطحب عبد الحكيم ياسين والده إلى منزل شقيقه في مدينة تل رفعت، ووقف المقاتلون بالخارج وهم يشعرون بسعادة كبيرة بعدما تم لم شمل الأسرة مرة أخرى، وشكروا الله على ذلك. وسحب ياسين مسدسه وأفرغه في الهواء، وقال وهو يبتسم ابتسامة عريضة: «دعنا نذهب».

ولم يكن قد تم الهجوم على نقطة تفتيش حتى الآن، ولكن ياسين كان يريد الاحتفال أولا بعودة والده. وعندما عاد إلى القاعدة، قدم لمقاتليه المثلجات، وكانوا يستمتعون بمذاقها الرائع، وشكروا الله على تلك المفاجأة وعودة الوالد مرة أخرى. وقال ياسين: «اعتقدت أنني قد لا أرى والدي مرة أخرى».

واستأذن ياسين من مقاتليه وعاد إلى مكتبه للقاء قائد آخر لمناقشة التفاصيل الأخيرة للهجوم الوشيك على نقطة التفتيش، ونظرا إلى خريطة مرسومة باليد، وقال ياسين إن الهجوم سيبدأ قبل نحو ساعة من الفجر، حيث غالبا ما يكون معظم الجنود التابعين للنظام نائمين. وعاد المقاتلون إلى الصلاة، أو لأخذ قسط من الراحة.

وجلس أبو هلال، السجين، مستندا إلى الجدار، يشاهد ما يحدث. وقبل أن يرحل، تم اقتياده معصوب العينين للخارج، ثم تم وضعه في المقعد الخلفي لإحدى الشاحنات الصغيرة. وقال ياسين: «سوف تحدث عملية التبادل الليلة».

وسار ياسين بسرعة عن طريق حفرة كبيرة في الجدار الخلفي للمجمع، واقترب من شاحنة نصف نقل مفتوحة من كلا الجانبين ومن الخلف. وكانت أرضية الشاحنة تحتوي على كومة من الأنابيب السميكة المحملة بالمتفجرات محلية الصنع، وكانت الأسلاك الكهربائية تبرز من خلفها. وكانت تلك المتفجرات والأسلاك تجتمع في حلقة اتصال مباشرة، بحيث تكون الشاحنة مفخخة يتم تفجيرها عن بعد.

وقال ياسين: «يصل وزنها إلى 300 كيلوغرام». وكشف ياسين عن بعض التفاصيل الأخرى من خطته، فبما أن الثوار لا يملكون الأسلحة الثقيلة التي تمكنهم من الاستيلاء على نقطة التفتيش بعد معركة مباشرة مع قوات النظام، فيجب على الكثير منهم ارتداء ملابس مدنية ثم يقومون بنقل الشاحنة الملغومة بالقرب من نقطة التفتيش وتفجيرها، وسيكون هذا إشارة للهجوم على الأرض.

ولكن كان هناك مشكلة واحدة، حيث قال «أسود التوحيد» إنهم لا يريدون استخدام مقاتليهم كانتحاريين. وقام اثنان من المقاتلين بسكب الوقود على خزان الغاز الخاص بالشاحنة، في حين قام الممرض ملدعون باقتطاع فروع من الشجيرات ووضعها على القنبلة حتى يتم إخفاؤها.

وبدأت خيوط الخطة الحقيقية تتكشف، حيث كانت تعتمد على السجين أبو هلال. وكانت الضمانات بشأن الإفراج عنه مجرد خدعة، حيث كان المقاتلون ينوون وضعه خلف عجلة قيادة الشاحنة الملغومة قرب نقطة التفتيش ويطلبون منه أن يقود السيارة إلى الأمام، في عملية لتبادل للأسرى.

وقام عادل ملدعون، وهو عامل في مجال تصنيع الإسمنت ويشغل منصب أحد نواب ياسين وشقيق الممرض، بتشغيل الشاحنة المفتوحة، واتجه بها ناحية الطريق الترابي على الطريق الرئيسي، واتجهت الشاحنات الصغيرة بعيدا، وكانت تكتظ بالمسلحين.

وقال ملدعون: «إلى حلب». وضغط ملدعون بقوة على دواسة الوقود للحاق بركب قائده. وذهبت القافلة، وكان أبو هلال يجلس على أحد المقاعد وهو معصوب العينين، ويتجه نحو موت محقق.

لعبة القدر وبعد وقت قصير من شروق الشمس، عاد المقاتلون وهم يرتدون زيا نظيفا لا تظهر عليه قطرات الدماء، وكان الأمر يبدو وكأنهم لم يحاربوا. وقام عدد قليل منهم بهز رؤوسهم، وشقوا طريقهم إلى الداخل لكي يعيدوا أسلحتهم إلى جمال أبو حوران.

ووقف قائدهم بسيارته، وخرج منها وكان وجهه تعلوه أمارات الأسى والاكتئاب، وكانت عيناه متعبتين، ولم يقترب المقاتلون، الذين كانوا بانتظاره، منه. وفي النهاية، قال القائد: «لقد فشلنا»، وأضاف أنهم وصلوا بالقرب من نقطة التفتيش، وبدا كل شيء مثاليا للقيام بالهجوم، وكان معظم الجنود نائمين، في حين كان عدد قليل منهم يجلس على طاولة يلعب الورق. وأخذ مقاتلوه مواقعهم المحددة لهم وكانت الأمور تسير في مسارها الصحيح.

وقال عبد الحكيم ياسين: «قلنا لأبو هلال: (اذهب وقد السيارة بهذا الاتجاه وستجد والدك ينتظرك هناك، ولا تقم بأي شيء سيئ في المستقبل). وكان سعيدا للغاية، وقاد السيارة كما طلبنا منه».

وأوقف أبو هلال الشاحنة عند نقطة التفتيش، وضغط عبد الحكيم ياسين على الزر لتفجير الشاحنة التي تحتوي على أكثر من 650 رطلا من المتفجرات عن بعد، التي ستكون هي الإشارة لتقدم مقاتليه، ولكن لم يحدث أي شيء.

وضغط ياسين على الزر مرة أخرى، ولكن الشاحنة لم تنفجر. وانتاب ياسين شك في أن نقطة التفتيش مجهزة بجهاز تشويش يمنع حدوث الإشارة والتفجير.

والآن، يجلس ياسين في مكتبه ويشعر بخيبة أمل إزاء فشل العملية، وتبدو عليه علامات الإرهاق والتعب. وكان جميع الأشخاص الذين توقع أن يلقوا حتفهم (والده وسجينه والجنود عند نقطة التفتيش) ما زالوا على قيد الحياة. وقال ياسين: «إنها لعبة القدر».

مواجهة في المدينة وبعد بضع ساعات، عاد عبد الحكيم ياسين إلى التمويه وقاد مقاتليه إلى مدينة حلب. وانتهت مهمتهم عند نقطة التفتيش، وكان من المقرر عودتهم إلى الخطوط الأمامية.

وسار القائد في طريق آخر أطول من الطريق المؤدي لنقطة التفتيش، مما دفع الشاحنات إلى الانتشار والسير بسرعة كبيرة للحد من تعرضها لهجوم طائرات هليكوبتر والمقاتلات الأخرى.

وبمجرد دخول المدينة، شقت الشاحنات طريقها على نحو متعرج وسط الأحياء السكنية حتى وصلت إلى مجموعة من المباني الخاضعة لسيطرة الثوار. وقام المقاتلون بإخفاء المركبات في ظلال الأشجار ومشوا إلى الداخل بهدوء، وانتقلوا إلى شقة مهجورة كان يقطن بها في السابق ضابط شرطة برتبة نقيب ولكنه تركها وهرب. وكان هذا المكان ملائما للبقاء به حتى يحل الظلام.

وهناك، شاهد المقاتلون الأخبار التي بثها التلفزيون الحكومي، حيث قال مقدم النشرة الإخبارية إن هجوما بالقنابل قد وقع في العاصمة دمشق. وكان الأمر مسليا لياسين الذي كان يتكئ على أريكة النقيب الهارب وهو حافي القدمين ويغلبه النعاس بعدما قضى ليلة من دون نوم. وقال ياسين مازحا: «ربما يكون أبو هلال قد قاد الشاحنة إلى دمشق!».

وكان المقاتلون يفتشون في الشقة، ووجد أحدهم جهاز التحكم في جهاز تكييف الهواء وقام بتشغيله. وقام آخرون بالتفتيش في أسطوانات الـ«دي في دي» المهربة والخاصة بعائلة النقيب الهارب، في حين قام البعض الآخر بتجميع الكتب الموجودة في الشقة لنقلها لمنازلهم. وقام أحد المقاتلين بإعداد الطعام على موقد النقيب، وقدم كوبا من الشاي إلى القائد في كوب النقيب.

وجاء أحد المقاتلين إلى ياسين، وقد وجد ألبوم الصور الخاص بزفاف النقيب. وقام ياسين بتصفح الألبوم ببطء، صفحة صفحة، وتوقف قليلا عندما رأى نساء في الحفل يرتدين ملابس تتعارض مع ذوقه الريفي المحافظ، وقال: «هذا اللباس قصير للغاية».

وسرعان ما غلبه النعاس على أريكة عدوه، ليأخذ قسطا من الراحة ويستعد للمهمة المقبلة التي سيكلفه بها «لواء التوحيد».

وبينما كان المقاتلون ينامون نوما خفيفا بالخارج بانتظار الانتقال إلى الخطوط الأمامية في تلك الليلة، قامت طائرة هليكوبتر وطائرة هجومية خفيفة بتمشيط المكان وإطلاق صواريخ على المدينة، وسرعان ما انفجرت قذائف «الهاون» وقذائف الدبابات بشكل متقطع، ولكن الرجال لم يهتموا كثيرا بذلك.

وبدأت الأحداث تعيد نفسها مرة أخرى، حيث استيقظ ياسين قبل غروب الشمس، ولم يكن يصوم خلال شهر رمضان، ولذا تناول الطعام بسرعة وتوجه للاجتماع مع القادة الآخرين. وعاد عندما حل الظلام ومعه بعض الأوامر، وقام بتنظيم صفوف مقاتليه إلى فرق. وقام المقاتلون، بدورهم، بتوزيع الذخيرة وشكلوا قافلة سارت عبر حلب باتجاه أحد المباني السكنية في المدينة، الذي كان يحترق.

وهناك، قامت وحدة أخرى من الثوار، على حد قولهم، بنصب كمين لقافلة حكومية، مما أدى إلى تعطيل المركبات ومحاصرة كثير من الجنود. وقام مقاتلو ياسين بمساعدة الثوار الآخرين وقطع أحد الطرق التي قد يهرب منها الجنود الموالون للنظام.

وعندما اقترب الثوار، تم سماع دوي الرصاص، واتجهت القافلة باتجاه أحد المجمعات الصناعية، وقفز المقاتلون من الشاحنات وأوقفوها قبالة المستودعات التابعة للمجمع الصناعي وانتشروا.

وكان ياسين يراقب الوضع عن كثب، وظله يمتد وسط الحرائق المحيطة به، وقام أعداؤه، المحاصرون في مكان قريب، بإلقاء قذائف الهاون على المجمع وسط دوي الانفجارات، ولكن ياسين لم يكن يبالي بما يحدث.وكان هناك طائرة أخرى تحلق في السماء، وكانت غير مرئية في تلك الليلة غير المقمرة، ولكن كان يمكن سماع صوت محركها. وسرعان ما شنت هجوما ضاريا هي الأخرى باتجاه المجمع، وأطلقت عددا من الصواريخ جو - أرض. وانسحب الطائرة لبعض الوقت، ثم عادت للتحليق مرة أخرى وأطلقت الصواريخ التي سقطت عند حافة المجمع.

وفي هذا المناخ الذي يشهد كثيرا من الصراعات، يمكن رؤية الوضع على أنه مواجهة مشؤومة وغير متكافئة بالمرة، حيث لا يستطيع المقاتلون رؤية الطائرات، وحتى لو تمكنوا من رؤيتها، فليس بأيدهم أي شيء للرد على تلك القذائف على نحو فعال. وكان الطيار يهاجمهم في أي وقت يريد، مدعوما بلهيب الجحيم المستعر عبر الشارع، والذي كان يضيء محيط المجمع الذي يختبئ به المقاتلون.

وعلى الرغم من تساقط الصواريخ، فإن المقاتلين كانوا لا ينصرفون من أماكنهم، وكانوا ينتظرون الجنود الموالين للنظام في مكان قريب، متأكدين من أن قوة عدوهم تضعف ليلة بعد الأخرى وأن ثورتهم تكتسب مزيدا من القوة والزخم بمرور الوقت.

وبعد كل انفجار، كان ياسين، الذي كان يعمل محاسبا في السابق، ولكن الحرب فرضت عليه القيام بهذا الدور، يضغط على جهاز الإرسال والاستقبال الذي كان بيده، وكان رجاله جاثمين في الظلام يمسكون بأسلحتهم بانتظار الأوامر، أو للقيام بمزيد من العمليات ضد الحكومة التي يؤمنون بأنها قد انتهت بالفعل.

* خدمة «نيويورك تايمز»