أوراق الخارجية المصرية: حتى لا تتكرر الأخطاء القاتلة

سياسة مصر الخارجية بين 1948 و 2011 (1): الحديث عن اضمحلال الدور المصري والخلط بين السياسة الخارجية والدبلوماسية المنفذة لها

طائرة مصرية اسقطها الاسرائيليون على شاطئ تل ابيب في حرب 48
TT

تولى أحمد أبو الغيط، وهو دبلوماسي محترف تدرج في سلك الخارجية المصرية، حقيبة وزارة الخارجية في فترة مليئة بالأحداث والتقلبات منذ يوليو (تموز) 2004 حتى مارس (آذار) 2011، أي بعد ثورة 25 يناير بفترة قصيرة, وخلال مسيرته، اطلع على كثير من الملفات من خلال المناصب التي تولاها، وبينها مندوب مصر لدى الأمم المتحدة. ومنذ خروجه من الحكومة ومطبخ السياسة الخارجية، بحكم دخول مصر في عهد جديد، ظل صامتا تقريبا.

وفي 6 مقالات تبدأ نشرها «الشرق الأوسط» اعتبارا من اليوم، يقدم أحمد أبو الغيط رؤيته حول مرتكزات السياسة الخارجية المصرية؛ أسبابها ودوافعها والظروف التي دفعت إلى اتخاذ بعض القرارات والسياسات والعوامل التي تحكم صاحب القرار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المصرية.

كثر الحديث خلال السنوات الأخيرة قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وبالتأكيد زاد بعد هذا التاريخ، عن اضمحلال الدور المصري على مستوى الشرق الأوسط، بل والعالم، وأخذ بعض كتاب الرأي وأساتذة الجامعات على مدى هذه السنوات يتناولون بالتعليق السياسة الخارجية المصرية، مع كثير من الخلط بين السياسة الخارجية والدبلوماسية المنفذة لها، وتركزت الكتابات على ما قدره البعض بـ«كمون» الدور المصري وعدم تحمل مصر لمسؤولياتها مثلما يفرضها الموقع المصري في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وتحدث البعض الآخر عن انحسار مصر وأخذ يلقي بالتالي على السياسة الخارجية المصرية كل إخفاقات العالم العربي، بل الإسلامي، وأخذ الكثيرون يقولون إن مصر كُسرت بتوقيعها إطارات السلام المسماة بإطارات كامب ديفيد في سبتمبر (أيلول) 1978 في واشنطن، وإنها بالتالي أصبحت تابعة للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، ودعت كل هذه الآراء مصر بأن ترفض القيود التي تفرض ثقلها عليها وأن تعود إلى حركتها الدؤوبة للدفاع عن إقليمها، وأن تعمل وبسرعة على نقل مفاهيم ثورتها إلى بقية الإقليم لكي تستعيد دورها وفاعليتها، وفي كل ذلك لم يقتصر أمر الانتقادات على السنوات الأخيرة فقط من فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك، بل امتد إلى كل فترة رئاسته وتجاوزها إلى سنوات حكم الرئيس السادات، وأخذ الحديث يدور حول استعادة الدور وفرض السطوة المصرية والعمل على إنقاذ العرب والمنطقة، بل والإسلام من العثرات التي تواجهنا، وكانت الدعوة تدور حول ضرورة قيام السياسة الخارجية المصرية بلعب تأثيرها التاريخي المطلوب والخروج بمصر سريعا، بل وفورا إلى منطقتها وإقليمها حاملة رسالة الثورة وبهدف تأمين مستقبلها (أي الثورة) ومستقبل المنطقة التي هي مسؤوليتنا.

واستشعرت القلق مما أخذت أقرأه وأطلع عليه في هذه الكتابات خشية أن تعود مصر إلى تكرار أخطاء قاتلة على مدى قرنين من الزمان نجحت خلالهما في الخروج إلى منطقتها وجوارها، فبنت الإمبراطورية، وإن كانت قد سقطت تحت الاحتلال البريطاني، ثم عاودت الكرة، وتحملت المسؤولية ولعبت تأثيرها ودورها، وحصلت على الاعتراف الدولي والإقليمي بأهميتها، ثم وقعت في براثن هزائم عسكرية واحتلال أراض لها في سيناء.

وأملي هنا أن لا أُفهم خطأ أو كأنني أتبنى رؤية انكماشية لمصر المنطلقة في منطقتها وعلى مستوى العالم، أو أنني أرفض دورا لمصر أو أقلل من شأن تاريخنا الممتد في هذا الإقليم الواصل من وسط القارة الأفريقية ومدخل باب المندب في البحر الأحمر وسواحل الصومال في الجنوب إلى مياه الخليج العربي وبحر العرب في الشرق، بما يشمل ذلك من الساحة الإسلامية في منطقة الهضبة الإيرانية وأواسط آسيا، أو العلاقات والاهتمامات المصرية التقليدية في مناطق الجوار المباشر، وهو الجوار ذو التأثير الحيوي على المصالح المصرية المستقرة على مدى ما يقرب من 4 إلى 5 آلاف عاما من التاريخ المصري، وأقصد بذلك منطقة فلسطين وسوريا، وصولا إلى الأناضول وآسيا الصغرى، من هنا وبطبيعة الحال فإنني وإن كنت أتحمس لدور وفاعلية وتأثير لمصر وسياستها الخارجية في هذا الإقليم وعلى مستوى العالم، فإن تحسبي ينطلق من الخشية، مثلما قلت، من تكرار أخطاء سابقة يكون لها عواقبها على مستقبلها، من حيث التعجل للخروج برسالتها دون الإعداد والتجهيز اللازمين، أو استفزاز قوى خارجية تتربص بمصر والإقليم، أو أخطاء الحساب تجاه أطراف إقليمية من المفترض أن الجهد المصري يستهدف خدمتها في إطار قومي و/ أو ثقافي إسلامي عريض.

من هنا، وفي مواجهة هذه الكتابات التي تطالب بالتصدي والتحدي وتأخذ المنهج الإيراني للسياسة الخارجية أسلوبا رأيت أنه قد يكون من المناسب أن أكتب عدة مقالات من جانبي أطرح فيها رؤية مقابلة لهذه الكتابات التي أشرت إليها، لعلي أساهم في التوصل إلى وفاق مصري عريض بشأن السياسة الخارجية المصرية وأولوياتها، من هنا أيضا قدرت أهمية التطرق إلى التجربة المصرية في السياسة الخارجية والتفاعل مع إقليم الشرق الأوسط وأحداثه والقوى الكبرى ذات التأثير في أوضاعه في إطار زمني ممتد، وهو ما أنتوي التطرق إليه في هذا المقال الأول، ثم أحاول في المقالين التاليين أن أتناول الظروف التي وجدت مصر نفسها فيها بعد هزيمة 67، والحاجة للعمل الدبلوماسي النشط ثم المواجهة العسكرية الصعبة وما تبعها من جهد سياسي وعسكري للتوصل إلى استعادة أراضي مصر في سيناء، وهنا ستكون الصراحة والصدق الصفتين اللتين ينبغي التمسك بهما وصولا إلى حقائق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، والظروف الصعبة التي أوصلت مصر إليها، وفي المقال الرابع سوف أحاول مناقشة مفهوم تسويات كامب ديفيد وتأثيرها على مكانة مصر ودورها، وحتى نستطيع أن نحكم بموضوعية وحساب صحيح على الأعوام الـ40 الأخيرة بشأن السياسة الخارجية المصرية، وأخيرا أنهي هذه السلسلة من المقالات بمقالين يتطرقان إلى المؤسسات المصرية العاملة في حقل السياسة الخارجية في ظل حكم 3 رؤساء مصريين، وأخيرا توصياتي للسياسة الخارجية المصرية، ومؤسساتها في أعقاب 25 يناير 2011. وسوف يلاحظ القارئ الكريم أنني أحث صاحب القرار اليوم على أن يتدبر، ويقيس، ويزن الأمور والمنطلقات بأكبر قدر من الدقة والتدقيق حتى لا تضع مصر نفسها، مرة أخرى، في مواضع تؤثر عليها بشكل بالغ في سلبيته أو انعكاساته على مستقبل هذا الوطن الذي يشهد التاريخ بديمومة تأثيره ورسالته الإنسانية والسلمية.

وفي كتابتي لهذه الكلمات أقول إن على صاحب القرار المصري اليوم أن يعمل على إشراك نخب المجتمع المصري بكل توجهاتها، وربما تناقضاتها، للاتفاق على رؤية محددة لما يمكن، أو يجب القيام به، والأهداف المطلوب تحقيقها، ومدى قدرة المجتمع المصري في تحقيقها دون مبالغة أو ادعاء.

وينبغي أن ندرس مليا وبعمق الأوضاع الإقليمية والدولية في عالم اليوم، ومن هم أصدقاؤنا وخصومنا الحاليون أو المحتملون، كما يجب أن ندرس كل عثراتنا في تاريخنا الحديث؛ سواء مع بداية الدولة الحديثة وعصر محمد علي، أو ربما مع علي بك الكبير في الربع الأخير من القرن الـ18.

ومن المؤكد أيضا أنه من الأهمية بمكان أن نتعمق بصدق، وبكل صراحة وإخلاص في دراسة أخطائنا الكثيرة في إدارتنا للصراع مع إسرائيل، خاصة أثناء حرب فلسطين الأولى في عامي 1948 و1949، أو سلسلة الحروب التالية في أعوام 1956 و1957 وأخيرا في معركة 1973.

لقد حاربت مصر في معارك كثيرة على مدى قرنين، وكان لها انتصارات، ولكن أيضا هزائم وانكسارات، وفقدت مصر خلال هذه المعارك أجيالا من شبابها، ونخبا دفعت ثمن الهزائم.

من هنا وجبت النصيحة، وقول الصدق، والمعالجة الصريحة لكل المسائل والمشكلات حتى لا نكرر الأخطاء، وحتى نحقق أهدافنا المتفق عليها بما يصون بلادنا من شرور من لا يرغب لنا بالخير.

يستدعيني هذا النقاش إلى محاولة تناول تفصيلي لبعض المسائل المرتبطة بالدور المصري، والفاعلية، في هذا الإقليم، وحتى نستخلص الدروس والعبر ونحصن أنفسنا من أي خطأ في المستقبل عندما نتحرك، مثلما يفرضه علينا تاريخنا وقدرنا، نحو تحقيق خدمة إقليمنا وتأكيد قيمتنا في خدمة قضايا أمتنا العربية والإسلامية.

أولا: وقد يكون من المهم، بل والضروري في هذا المجال، استرجاع التجربة المصرية لدى محمد علي باشا، بل وأيضا علي بك الكبير في نهايات القرن الـ18 والأعوام الـ40 الأولى من القرن التاسع عشر، وفي هذا السياق، لا أجد حاجة لتأكيد القول إن حكام مصر تفهموا، وبالذات محمد علي، قيمة مصر وقدراتها وموقعها وشعبها، ومن ثم إمكانية استخدام هذا الموقع المتميز في التأثير على الإقليم المحيط من خلال بناء دولة حديثة إلى حد بعيد تقوم على أعمدة عصرية للسلطة. وفي سعيه لتحقيق أهدافه، عمل محمد علي باشا، مثلما هو معروف لنا جميعا، على توظيف المنافسات الدولية بين القوى الرئيسية في عالم هذا اليوم لتنفيذ مخططاته، من هنا حاول الاستفادة من فرنسا، القوة البرية الرئيسية المضروبة بعد سقوط نابليون، في تمكين مصر من التعرف على العلوم الحديثة وبناء القدرات العسكرية والبحرية المصرية، إلا أنه وفي هذا الجهد اصطدم بمخططات القوى الكبرى في عالم القرن التاسع عشر (بريطانيا العظمى، روسيا القيصرية، إمبراطورية النمسا والمجر، وأخيرا الرجل التركي المريض)، وأجهض المشروع المصري الذي مثله محمد علي باشا، مثلما أفشل مسعى علي بك الكبير في محاولته الفكاك من السيطرة العثمانية ومحاولته الاستفادة من الطموحات والمناورات القيصرية الروسية ضد الباب العالي في إسطنبول، وصولا إلى المياه الدافئة والانفتاح على البحر الأبيض المتوسط، وكان لبريطانيا، القوة البحرية الأعظم في ذاك العهد، مسؤوليتها المباشرة في هزيمة المحاولتين المصريتين على مدى هذين القرنين. لقد سبح جنود مصر في مياه خليج عدن، وسواحل السودان، وامتدادها في مناطق إريتريا؛ عصب ومصوع، وظهرت وحدات عسكرية مصرية ليس فقط في الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، وقد ترك ذلك آثارا بالغة السوء في النفسية السعودية تجاه أي ظهور مصري، من قريب أو بعيد، في المشرق في مستقبل الأيام، ولكن أيضا في مياه الخليج كتعبير عن سطوة وسلطان هذا الظهور المصري، وكشفت هذه التجربة، فيما كشفته من حقائق، أن القيادة المصرية، وأطلق عليها ذلك مجازا، لأنها كانت في الحقيقة سلطة الشخص الواحد، لم تحسب بدقة تأثيرات القوى الخارجية الرئيسية في تصديها من عدمه لتحركاتها تجاه خصومها، أو مناطق جوارها القريب، كما أن الخروج المصري المتسرع، في تقديري، قبل استكمال كل عناصر البنيان الداخلي في إقامة دولة عصرية كاملة المناهج كان له عواقبه على المدى الطويل، وأقصد بذلك، أن محمد علي باشا وقد اضطر للإسراع بكشف توجهاته تحت ضغط طلبات الباب العالي، في تأمين حكم مصر لنفسه ونسله من بعده؛ فقد فشل في أن يؤمن مسارا يفرض على أبنائه من حكام مصر استمرار العمل الدؤوب من أجل النهضة والتطور وبناء الدولة الحديثة، حتى ولو بمفاهيم وقواعد القرن التاسع عشر، وفي مقدمة ذلك القضاء على الأمية التي كانت تسود بلادنا، حتى وصلت الأمور إلى نتيجة كشفت عنها الإحصائيات في عام 1952 مع نهاية حكم أسرة محمد علي، أن 80 في المائة من المصريين كانوا لا يقرأون أو يكتبون، بكل عواقب هذا الوضع الكارثي على قدرة مصر، في الفترة التالية، على النفاذ برسالتها إلى مجالها الحيوي في المنطقتين العربية والإسلامية، ولا شك أن الرجل عانى في أعوامه الأخيرة من تقدم العمر والمرض المزمن مما أضعف قدراته، ويبقى الفشل الآخر لأسرة محمد علي في وقوع مصر في براثن الاحتلال البريطاني عام 1882 وبقاء بريطانيا بقواتها على أراضينا حتى 18 يونيو (حزيران) 1956.

ثانيا: وفي سياق الاقتراب من التجربة الثانية التي كان لها بصماتها العميقة على البنيان والمجتمع المصري في النصف الثاني من القرن العشرين والعقود التالية، نرصد معركة فلسطين الأولى في عامي 1948 و1949، وإنشاء دولة إسرائيل بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، وانزلاق مصر في التصدي لهذا الخطر الإسرائيلي ليس فحسب بسبب استلابه أرض فلسطين العربية، ولكن كذلك لتهديده أراضي مصر بسبب وجود دولة غربية التوجهات والثقافة في قلب العالم العربي في المشرق، ودخلت مصر الصدام في فلسطين دون دراسة أو وعي بما نحن مقدمون عليه وعلاقات القوى والإمكانيات بين الأطراف العربية بقيادة مصر، وإسرائيل المدعومة بإرادات الدول الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، والاتحاد السوفياتي)، وهي قوى «يالتا» التي فصلت في مستقبل أوروبا والشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهناك كثير مما يمكن أن يقال ويحكي عن عجز الإمكانيات العربية وقصور القدرات بالمقارنة بما كان في جعبة إسرائيل والقوى الأنجلوسكسونية السوفياتية الداعمة لها، وكان التصميم على هزيمة مصر والعرب والدفاع عن الكيان الإسرائيلي الوليد، ولم نتنبه في مصر، أو على مستوى العالم العربي، إلى أننا لا نملك قدرات تصنيع سلاحنا المتطور، وهو عجز لا يزال يطاردنا حتى اليوم، وكانت الهزيمة، واخترقت قوات إسرائيل لأول مرة في تاريخنا أراضي سيناء في عام 1949 حيث هددت رفح والعريش، وتدخلت بريطانيا، وتوقف الاختراق الأول لأراضينا، وأودت الهزيمة بنخبة مصرية لم تتدبر جيدا في فهمها لاحتياجات مصر، وهي أساسا متطلبات بناء الإنسان المصري الجديد ومنظومة القوانين الحاكمة، بحيث يستطيع فور إعداده تنفيذ آمال بلاده في إقامة الدولة الحديثة بحق، وتحملها لرسالتها الثقافية والاستراتيجية التاريخية، ووقعت الثورة المصرية، وبزغ نجم جمال عبد الناصر، وانطلقت مصر تبحث عن أيام خالدة، وأقول مجازا، تسعى إلى سهل حطين وبئر عين جالوت، وحاولنا التصدي للمخطط الإسرائيلي الغربي في الهيمنة على المنطقة وضمان استغلال ثرواتها البترولية، وأخذنا نعمل على توظيف الوضع الدولي، مثلما فعلنا إبان علي بك الكبير، ومحمد علي باشا، المتمثل في وجود كتلتين كبيرتين متنافستين استخدمنا إحداهما للتأثير على الأخرى، أو ربما في الحقيقة أنهما استخدمتا مصر كقطعة شطرنج على طاولة كبيرة بمساحة الكرة الأرضية في تنافسهما الاستقطابي الذي انتهى بانفجار إحداهما، وهي الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي في بداية عقد التسعينات من القرن العشرين، ولقد سقطنا في اللعبة، مثلما سقط محمد علي باشا، ولم نتفهم القواعد الحاكمة في علاقات هذه القوى الكبرى بعضها بعضا، إلا أن الفشل الأكبر كان في عدم توصلنا إلى فهم عميق للدروس المستفادة من تجربة محمد علي، وكذلك في تسرعنا للخروج برسالتنا قبل استكمالنا تجهيزاتنا وبناء مجتمعنا، وضاعت فرصة بناء الإنسان المصري الجديد والدولة الحديثة كاملة الأركان من خلال برنامج شامل ينهي الأمية في مصر ويضع المجتمع كله على عتبة جاهزة للانطلاق في كل المجالات.

وأخذت مصر تطرح رسالتها السياسية والاستراتيجية والثقافية، وكان عقابها ضربة 1956 وتمكين الغرب لإسرائيل من اختراق سيناء للمرة الثانية خلال 7 أعوام، وإغلاق قناة السويس، ووقع التناقض بين مواقف الولايات المتحدة من ناحية وكل من فرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى، وفرض الانسحاب على إسرائيل من سيناء، وسوف يقول قائل إن الموقف السوفياتي وتهديدات خورشوف سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفياتي كان لها تأثيراتها، وأجدني أعترف بالمساعدة السوفياتية، إلا أن الموقف الأميركي كان هو الحاسم والحاكم في هذه الأزمة، خاصة أنها وقعت بالتوازي مع أزمة غزو السوفيات للمجر لضرب الانتفاضة الرافضة للشيوعية بهذا البلد، وأدى انتصارنا المعنوي، وربما الاستراتيجي في معركة 1956، إلى أن أغفلنا التدقيق والفهم لما حدث ولم نعِ الدروس المستفادة من كبوة 1956 عسكريا، وهناك كثير مما يمكن التطرق إليه هنا، بل وقويت شوكتنا في هذه السنوات وانطلقنا ندفع نحو الدور، والتأثير، والفاعلية، وتحمل مسؤولياتنا التاريخية، في الوقت الذي كان يجب التركيز فيه على بنائنا الداخلي وتحقيق التوازن في علاقاتنا الخارجية، ولكي نتمكن، عند الانطلاق، من أن نحقق فعلا آمال أمتنا فينا، واستغرقتنا لعبة الحرب الباردة، ومواجهة الاستعمار والإمبريالية، وتأثير الاستقلال على الشعوب المضطهدة، وهي كلها قضايا مشروعة، وكان يجب القيام بدورنا فيها، إلا أنه شابها شوائب كثيرة، داخلية تتعلق بمصر، وخارجيا، في علاقات مصر بجوارها القريب ومجالها الحيوي. وسبح الجندي المصري (مرة أخرى) في مياه اليمن، وبزغ نجم عبد الناصر وزادت طموحاته، وإن كان قد سقط في براثن المنافسات العربية والشراك التي زرعها الغرب في علاقاتنا العربية، وكانت الوحدة المتسرعة مع سوريا تحت ضغط التوجهات العربية القومية لسوريا، إلا أن هذه الوحدة المتسرعة ووجهت بعقبات داخلية سوريا أجهضت فكرة الوحدة، وجاءت ضربة 1967، والاختراق الإسرائيلي الثالث لسيناء كلها، وإغلاق قناة السويس للمرة الثانية في أقل من 11 عاما، وتوفي الرئيس عبد الناصر وهو يناضل لاسترجاع سيناء أساسا، قبل السعي لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وورث الرئيس المصري الجديد أوضاعا مصرية صعبة، وكان عليه استمرار الإعداد لرد ضربة العدو، وجاء يومنا في 6 أكتوبر 1973.

ولعل هذا العرض الموجز لتحديات السياسة الخارجية المصرية في انطلاقاتها وعثراتها على مدى قرنين من الزمان، هو الذي فرض ثقله على تفكيري في التحسب والحذر عند قراءتي لدعوى الانطلاق الفوري لمصر إلى مجالها الحيوي لاستعادة تأثيرها والقيام بمسؤولياتها الثورية والتاريخية.

(وسوف أتابع في مقالة تالية ظروف مصر في إعدادها وتجهيزها لضربتها العسكرية عبر قناة السويس في العاشر من رمضان 1973، والأهداف العسكرية والعمل السياسي وصولا إلى قمة كامب ديفيد وإطارات السلام والمعاهدة المصرية - الإسرائيلية، وتأثيراتها على تحور الدور والمسؤولية المصرية في الشرق الأوسط، لعل ذلك يساهم في المزيد من التفهم للاعتبارات التي حكمت مواقف مصر منذ أكتوبر 1973، وحتى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق مبارك).

* وزير خارجية مصر الأسبق