سفير فرنسا في بيروت.. هبط في دمشق مضطرا

تساؤلات حول قرار «إير فرانس» الهبوط في سوريا

صورة أرشيفية لطائرة «أير فرانس» تحلق فوق مطار رويسي - شارل ديغول (أ.ف.ب)
TT

التجربة التي عاشها ركاب طائرة الخطوط الجوية الفرنسية «إير فرانس» يوم الأربعاء 15 أغسطس (آب) في الرحلة رقم 562 المتجهة من مطار رواسي - شارل ديغول، الواقع على بعد نحو 20 كيلومترا شمال باريس إلى مطار رفيق الحريري الدولي لن تنسى بسهولة. فهي من الأحداث التي تعلق في الأذهان، ليس لأن وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس، الذي وصل اليوم نفسه إلى عمان في بداية جولة قادته لاحقا إلى لبنان وتركيا انتقد بشدة الشركة الفرنسية الوطنية، التي ما زالت للدولة فيها حصة أساسية، وهو أمر لا يحصل غالبا، بل لأن المفاجآت التي عاشها الركاب ليست من النوع الذي يحصل مع شركة ذات سمعة عالمية كان يفترض أن تقيها من هذا النوع من العثرات. القصة المثيرة بدأت عند الساعة الرابعة ونصف بعد الظهر عندما أقلعت طائرة «إيرباص 330»، في رحلتها اليومية إلى بيروت، وعلى متنها 174 راكبا من اللبنانيين والفرنسيين والجنسيات الأخرى، وبينهم سفير فرنسا الجديد في بيروت باتريس باولي، الذي قطع عطلته الصيفية في فرنسا متوجها إلى العاصمة اللبنانية ليشارك في لقاءات الوزير فابيوس مع المسؤولين اللبنانيين. وكان فابيوس سيصل يوم الخميس إلى بيروت ليبيت ليلته فيها متوجها في اليوم التالي إلى تركيا.

الرحلة بين باريس وبيروت لا تدوم سوى 4 ساعات وربع الساعة. الرحلة بدأت عادية. فشركة «إير فرانس» تعرف هذا الخط جيدا إذ إنها كانت من أولى الشركات التي عملت على خط باريس - بيروت منذ انطلاقه، كما أنها كانت تملك حصة في الخطوط الجوية اللبنانية «ميدل إيست»، وهي تتشارك معها حاليا في تسيير الرحلات المباشرة من وإلى العاصمة الفرنسية. ولذا، يمكن اعتبار أنه لا أسرار يمكن أن تخفى على الشركة الفرنسية.

لكن ما حدث أن طائرة «إيرباص»، التي تصل عادة في الساعة العاشرة إلا ربع مساء إلى مطار بيروت لتعود وتقلع منه إلى باريس في الثانية صباحا، واجهت مفاجأة؛ إذ بعد أن قطع قائدها الأجواء التركية والأجواء السورية ووصل إلى الأجواء اللبنانية ليبدأ عملية الاقتراب من مطار بيروت، علم أنه لن يستطيع الهبوط فيه. فالوضع في العاصمة اللبنانية كان يشهد ليلتها تصعيدا خطيرا تمثل في عمليات خطف لسوريين مقيمين في لبنان على أيدي ما سمي «الجناح العسكري لعشيرة آل مقداد»، التي كانت بذلك تريد الضغط على المعارضة السورية، وتحديدا الجيش السوري الحر، لإطلاق ابن العائلة حسان المقداد الذي احتجزته المعارضة السورية بتهمة الانتماء إلى حزب الله ولكونه «قناصا» في خدمة النظام السوري. وأصابت التوترات الأمنية طريق المطار الشهير في العاصمة اللبنانية الذي يدفع منذ سنين الحرب الأهلية ثمن مزاج القوات والميليشيات القريبة جغرافيا منه. ويذكر أن المطار يلاصق الضاحية الجنوبية، والطائرات الهابطة تكاد تمر فوق المنازل في تلك المنطقة التي بنى أبناؤها بقدرة قادر وبحماية الزعامات المحلية مباني فوق أراضي الدولة التابعة أصلا للمطار من غير وازع ولا رادع. ولأن الطريق غير آمن بل مقطوع، ولأنه لا فنادق في منطقة المطار قادرة على إيواء المسافرين الـ174 فضلا عن طاقم الطائرة المؤلف من 11 شخصا، فقد قرر قائدها النزول في دمشق للتزود بالوقود، وبعدها يستطيع التوجه إما إلى عمان أو لارنكا، حيث تستطيع الشركة استيعاب المسافرين على أن توصلهم إلى بيروت، بعد أن يعاد فتح طريق المطار.كادت الأمور تمر بهدوء بالنسبة للشركة، لولا خبر بثته وكالة الصحافة الفرنسية وروت فيه مغامرة المسافرين الذين قطعوا تذكرة سفر للذهاب إلى بيروت، فإذا بهم يهبطون في دمشق. وأكثر من ذلك، روى بعض المسافرين أن طاقم الطائرة بدأ جولة على المسافرين يسألهم فيها عن الأموال التي يحملونها، لأن قائد الطائرة لا يملك المال اللازم لدفع قيمة الوقود الضروري نقدا. وزاد الطين بلة أن «إير فرانس» أوقفت تسيير رحلات إلى سوريا، عملا بالعقوبات الأوروبية التي حظرت على الشركات الأوروبية الطيران من وإلى دمشق، وذلك في إطار العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على النظام السوري.

غير أن الموضوع ذهب بعيدا، عندما انتقد وزير الخارجية فابيوس قرار الشركة بالهبوط في مطار دمشق، ووصفه بـ«الأحمق» مطالبا الشركة الوطنية بـ«توضيحات».

وكرر الوزير انتقاداته العنيفة أكثر من مرة، تساءل عما كان سيحدث لو صعدت قوات الأمن السورية إلى الطائرة وطلبت هويات المسافرين، وقد يكون من بينهم معارضون لبنانيون أو سوريون، ناهيك عن وجود السفير الفرنسي بين المسافرين. وتوضيحات «إير فرانس»، لم تأت إلا يوم الاثنين الماضي، أي بعد خمسة أيام من حصول الحادث.

السؤال الرئيسي الذي كان يتعين على الشركة الإجابة عنه يختصر بالتالي: ما الذي حفزها على تفضيل الذهاب إلى مطار دمشق بدل التوجه إلى مطار عمان أو مطار لارنكا؟ اعتمدت الشركة في البيان الذي أصدرته على نوعين من الحجج: الأول «سياسي»، عندما ذكرت أنها كانت على تواصل دائم مع «خلية الأزمات» في وزارة الخارجية الفرنسية، مما يعني أن هبوط طائرتها في دمشق كان بعلمها، فضلا عن أنها كانت على تواصل دائم مع السفير باولي الموجود على متنها. أما الحجة الثانية ففنية، وقوامها أن قائد الطائرة، بعد أن تبين له استحالة النزول في بيروت، أراد أن يتجه إلى الأردن وطلب الإذن لسلوك مسار محدد إلى مطار عمان. غير أن برج المراقبة في مطار دمشق رفض إعطاءه الإذن، وطلب منه سلوك خط جوي آخر أطول، تبين له بنتيجته أن كمية الوقود المتبقية في خزانات الطائرة لا تكفي لا للوصول إلى عمان ولا إلى لارنكا. وبحسب الشركة الفرنسية، لم يكن أمام الطيار من خيارات سوى النزول في مطار دمشق. وقد قبل قائد الطائرة العرض على الرغم من معرفته بحال العلاقات الفرنسية - السورية المتردية وبقرار الاتحاد الأوروبي بحظر النزول في مطار دمشق. وهكذا كان. غير أن صعوبة إضافية برزت، وهي كيفية دفع ثمن الوقود الذي تحتاجه الطائرة لاستكمال رحلتها باتجاه عمان أو لارنكا، بعد أن تبين تعذر الدفع بواسطة البطاقة الائتمانية، مما حمل قائد الطائرة على الطلب من طاقمه التوجه نحو المسافرين لاقتراض ما يلزم من الأموال، وهي طريقة تجيزها قوانين الطيران في الحالات الطارئة، الأمر الذي أصرت عليه مصادر «إير فرانس».

ورفضت مصادر في شركة «إير فرانس» الإجابة عن أسئلة «الشرق الأوسط» حول الأسباب التي منعت برج المراقبة في دمشق من إعطاء الأذن بسلوك الخط الجوي الأقصر باتجاه عمان، بالإضافة إلى الاستفسار حول الأسباب التي تجعل الشركة تعطي طائراتها إلى بيروت كمية الوقود الضرورية فقط للوصول إلى وجهتها، من غير الأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يستجد من أمور طارئة.

واكتفت الشركة بإحالة «الشرق الأوسط» إلى البيان الذي أصدرته يوم الاثنين، وإلى ما قاله أحد الناطقين باسمها، وهو بيار كوساد. غير أن طيارا مدنيا سابقا عمل على خطوط الشركة باتجاه منطقة الشرق الأوسط قال: «إن الشركة تعرف جيدا خط باريس - بيروت الذي تسير عليه يوميا ثلاث رحلات منتظمة، وبالتالي فإنها لا تجد سببا لتزويد طائراتها بكمية وقود إضافية. أما السبب الثاني؛ تقني - مالي وقوامه من جهة أنه كلما خف وزن الطائرة تراجع استهلاكها للوقود، ومن جهة ثانية أن تكلفة التزود بالوقود في مطار بيروت أقل منها في باريس، مما يعني أن الشركة التي تعاني من صعوبات مالية كبيرة تحقق وفرا في الحالتين». وأفاد الطيار المشار إليه بأن شركات الطيران ذات التكلفة المنخفضة، مثل «إيزي دجت» أو غيرها عانت مرارا من مشكلات بسبب نقص كمية الوقود التي تحتاج إليها للوصول إلى المطار الذي تقصده، مما اضطرها للنزول في مطارات أقرب. وحتى الآن، لم تحصل كوارث إنسانية بسبب الرغبة في تقليص النفقات على حساب سلامة المسافرين. وقد يكون ما حصل لطائرة «إير فرانس» سببا سيدفع بالشركة لإعادة النظر في سياساتها.