أوراق الخارجية المصرية - أبو الغيط: حول ضرورات «كامب ديفيد» لاستعادة الأرض المحتلة

سياسة مصر الخارجية بين 1948 و 2011 (3) السادات أعطى المصالح المصرية الأولوية لكنه صمم على الاستمرار في مساعدة الفلسطينيين

مصافحة كامب ديفيد
TT

استعرضت في مقالي السابق المعركة العسكرية والدبلوماسية التي أدارتها مصر لسنوات ضد إسرائيل، لكي تفرض تحريك الموقف السياسي وبهدف تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من سيناء.. وتضمن العرض حدود الطاقة المصرية و/ أو العربية الشاملة للقدرات العسكرية ونتائج العمل العسكري المصري على جبهة قناة السويس في عام 1973 وبحيث انتهى وضع الصدام.. وهناك، للأسف، توازن على الأرض أتاح لإسرائيل الوجود عسكريا في غرب القناة، وذلك في مقابل نجاح مصري لا ريب فيه من حيث خلاصات الحرب ونتائجها.. وقد أدى هذا الموقف من وجهة نظري إلى عديد من النتائج؛ كان أولها القبول بوقف لإطلاق النار على المواقع التي وجدت بها القوات المتحاربة، ثم ثانيا استخدام قوات دولية ومراقبين للفصل بين القوات المتنازعة، ويأتي ثالثا وتاليا دخول المنهج الأميركي في التحرك التدريجي وعلى أساس خطوة بخطوة لتحقيق التسوية بين مصر وإسرائيل.. وهو منهج لقي الاعتراض من عناصر كثيرة في مصر حينذاك، واستمرت في رفضها له منذ ذلك الحين وحتى اليوم متهمة أصحابه بأنهم قادوا مصر إلى الانزواء وفقدان الدور الإقليمي وما استتبع ذلك من تفسخ كبير في الوضع العربي، وهي مسألة سوف أسعى لمناقشتها في الفقرات التالية.. إلا أن المهم، مرة أخرى، أن نرضى ونعترف بأن القدرات العسكرية المصرية، حتى مع فتح الجبهة الشمالية لإسرائيل من قبل سوريا وتوزيع القوات الإسرائيلية على جبهتين، ما كانت لتمكن مصر من تحرير سيناء في معركة ممتدة مستمرة دون توقف، وعلى أي مدى زمني طال أم قصر قد يحتاجه أو يتطلبه هذا الهدف.. من هنا، كان الهدف الاستراتيجي المصري هو كسر وقف إطلاق النار على جبهة قناة السويس السائد منذ يوليو (تموز) 1970، والحصول على موطئ قدم مناسب، وتدمير كل ضربات العدو المضادة وإقناعه بالتالي - بعد فترة صدام محدودة - بضرورة القبول بالموقف المصري من طرح التسوية السياسية التي تستهدف فرض الانسحاب من سيناء

من هنا، ما كان لمصر أن تستمر أو تمضي إلى ما لا نهاية في صدام غير محسوب العواقب أو النتائج. ومن ثم، أرى أن تدخل كيسنجر النشط في زيارته للمنطقة في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، وبعد استقرار وقف إطلاق النار، قد أنقذ الطرفين المتنازعين من مغبة الحاجة الضاغطة عليهما للتفكير في المرحلة التالية من إدارة الصراع على الأرض عسكريا، وما كان يمكن أن يترتب على هذا السيناريو الخطر؛ إذ إن المؤكد أن مصر كانت تدبر لعملية كبيرة أخرى لتدمير الوجود الإسرائيلي في غرب القناة. على الجانب الآخر، لا أعتقد أن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي كان يغيب عنه خطورة أوضاعه العسكرية على الجبهة المصرية والحاجة لإنهاء الوجود المصري المتمثل في قوات «بدر» المصرية شرق القناة، وهي عناصر رئيسية من الجيش الثالث المصري في جنوب الجبهة. من هنا، كان خط التواصل الأميركي مع الأطراف بدءا من نقاط كيسنجر الست، ومرورا بفض الاشتباك الأول في يناير (كانون الثاني) 74، ثم الثاني في يوليو 1975 ووصول الوجود العسكري المصري إلى ممرات وسط سيناء والمزايا الأخرى في فتح قناة السويس.. إعادة تأهيل مدن القناة الثلاث/ السويس - الإسماعيلية – بورسعيد، واستعادة إنتاج نفط سيناء، وإعادة تنشيط الاقتصاد المصري، لكي يساعد في مواجهة متطلبات الكتلة السكانية المصرية المتزايدة.. لقد زاد عدد سكان مصر خلال الفترة - على سبيل المثال - من عام 1975 حتى 2005 بنحو أربعين مليون مصري، وكان هذا النمو السكاني يتطلب نموا اقتصاديا مصاحبا وليس مواجهة عسكرية ممتدة تمتص كل الطاقات والموارد.. نموا يوفر فرصا للعمل ويساعد على رفع مستوى المعيشة للمصريين.

وأعود إلى القول إن الرئيس السادات، وقد سار في طريق التسوية الأميركية بكل مزاياها وعيوبها، قد وصل إلى لحظة الحقيقة في بداية عام 1977 عندما اكتشف أن الولايات المتحدة ليست لديها القدرة أو الرغبة، في الضغط في اتجاه فرض قبول إسرائيل بالمطالب المصرية، سواء من خلال العودة إلى انعقاد مؤتمر جنيف الذي عقد ليوم واحد في ديسمبر (كانون الأول) 73، أو تسهيل مفاوضات مصرية - إسرائيلية عن قرب.. من هنا توصل الرئيس السادات إلى نتيجة مفادها الحاجة لتحريك الموقف، مرة أخرى، بعد أن تجمد على مدى عامين وبما هدد بإضاعة نتائج ضربة «أكتوبر» العسكرية، خاصة مع استمرار برود العلاقة المصرية -السوفياتية واتجاه مصر لتنويع مصادر السلاح وما يرتبط بذلك من فترة تحول يتسم فيها الموقف التسليحي بالسيولة.

وصدم الرئيس السادات الجميع بقيامه بزيارة القدس ومخاطبة الكنيست الإسرائيلي. وكانت، على الأقل بالنسبة لشخصى، أياما صعبة بكيت فيها وأنا أشاهد رئيس بلادي يهبط على أرض مطار «اللد - بن جوريون»، جاء تحرك الرئيس السادات لكي يفاجئ الجميع، وصدم البعض، وقدر البعض الآخر أن الفرصة مناسبة الآن لتحرك جاد لجهد السلام، وانطلقت الأطراف في عملية سياسية تفاوضية بدأت بـ«اجتماعات مينا هاوس» في مصر، ثم بلقاء القمة المصرية - الإسرائيلية في الإسماعيلية، ولقاء تفاوض دبلوماسي ثلاثي، مصري – إسرائيلي – أميركي، في القدس في يناير 1978، ولقاء مصري - إسرائيلي عسكري في القاهرة، وأخذت الأطراف تتصارع دبلوماسيا وعلى مدى عشرة شهور من ديسمبر 77 حتى سبتمبر (أيلول) 1978، وكان الخلاف الرئيسي يدور حول عدة نقاط، منها:

* أنه ورغم أن إسرائيل تقبل بوجود خط دولي للحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، أو ما سمي بخط حدود 1906 بين مصر والدولة العثمانية، فإن إسرائيل ترفض على الجانب الآخر الانسحاب من القواعد الجوية الإسرائيلية الثلاث في وسط سيناء، كما أنها تتمسك ببقاء المستوطنين اليهود والمستوطنات اليهودية على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

* أن إسرائيل مضت تتمسك بمشروع للتسوية طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين بإتاحة الحكم الذاتي للفلسطينيين دون وجود أفق سياسي واضح لنهاية هذا الوضع المقترح، وأن يتم الفصل بين حق السكان الفلسطينيين في حكم أنفسهم، والحق في السيادة على الأرض التي كانت إسرائيل تجادل فيها.

واستمر الجدال، وسعى الرئيس السادات إلى توظيف كل قدراته على مستوى الإعلام الدولي والأميركي، لتطويع الموقف الإسرائيلي بقبول الانسحاب الكامل من سيناء وإخلائها من المستوطنين والقواعد الجوية وإتاحة الفرصة لممثلي الشعب الفلسطيني للتفاوض مع إسرائيل، وبمساعدة مصرية وأردنية لإقامة الكيان السيادي الفلسطيني على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة.

كان المقابل المصري هو الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية وطبيعية كاملة، ووضح أن العرب حتى هذا الوقت يرفضون بحدة هذا المسار.

كان السادات يتمسك بإطار ومفهوم شامل للتسوية على المسار المصري - الإسرائيلي، يمكن تطبيقه تاليا بالنسبة للجولان السوري، وتسوية للمسألة الفلسطينية تفتح الطريق للسيادة العربية عل الأرض المحتلة واستعادتها، وتشدد الإسرائيليون بين التمسك بالقواعد الجوية في سيناء -رغم الاعتراف لغرابة الأمر بسيادة مصر على شبه الجزيرة - أو التخلي عنها في مقابل قبول مصر بوجود مستوطنات خاضعة للقانون الإسرائيلي على الأرض المصرية، مع رفض أي طرح مصري لمسألة الأراضي الفلسطينية واستمرار تمسكهم بمشروعهم الأصلي في الحكم الذاتي فقط للسكان الفلسطينيين دون بحث في السيادة.

واقتربت مفاوضات كامب ديفيد من اللحظة الحرجة، واحتمالات الفشل.. وأعتقد هنا، وهو ما سجلته في يومياتي لتلك الفترة، أن الجانبين الإسرائيلي والأميركي درسا بتدقيق شخصية الرئيس السادات وأنهما يمكنهما تطويع مواقفه، خاصة أنه كان منفردا، إلى حد كبير، بالقرار، من خلال فرض إطار زمني للتفاوض يمتد بشكل يضغط على أعصابه من ناحية، ويضعه في مواجهة مواقف لا يمكن أن يقبلها، خاصة بالنسبة للأراضي المصرية، وبالتالي، فإذا ما تم إيصاله إلى هذه النقطة، وهذا الوضع، يقوم الأميركيون بتقديم الحل والمخرج المقترح.. على أمل أن تتحرك الأمور وتخرج الأطراف وقد حقق كل منها ما يرغب فيه بشكل يخدم أولوياته. وبالفعل استمرت المفاوضات في كامب ديفيد للفترة بين 6 سبتمبر 78 حتى 14 من الشهر ذاته دون إحداث تقدم، وفي ظهر هذا اليوم، 14 سبتمبر، التقى الرئيس السادات مع موشي ديان وزير الخارجية الإسرائيلية، وذلك بعد إلحاح من عيزرا فايتسمان وزير الدفاع الإسرائيلي، ودار نقاش في غاية الصراحة، شارك فيه الدكتور أسامة الباز الذي يؤسفني اليوم أنه يمر بأزمة صحية حادة، والذي أبلغني وقتها، وكنت عضوا دبلوماسيا صغيرا في الوفد الفني المصاحب لوزير الخارجية محمد إبراهيم كامل، أن ديان أخطر الرئيس بأنهم يتمسكون في إسرائيل بكل مواقفهم وأنه لا نية لديهم للخروج الكامل من أراضي مصر.. وبذا وصل الرئيس السادات إلى لحظة الحقيقة، ثم فاجئ الجميع صباح يوم 15 سبتمبر بأنه ينوي مغادرة مقر كامب ديفيد إلى واشنطن متصورا أنه يستطيع أن يقلب الموائد على الإسرائيليين في العاصمة الأميركية والكونغرس والإعلام الأميركي، وكان الأمر في تقديري، ومثلما قلت لرئيسي المباشر عندئذ أحمد ماهر السيد، أن هذا الأسلوب وهذه الأفكار تتسم بعدم فهم حقائق العلاقة الأميركية - الإسرائيلية أو حجم التغلغل الإسرائيلي في أميركا وسياستها تجاه الشرق الأوسط، ومع ذلك، قدرت وقتها أيضا، وتحدثت في هذا مع الدكتور بطرس بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية المصرية في ذاك الوقت، بأنني لا أستبعد أن الرئيس السادات يناور بالتهديد بالمغادرة للضغط على الأميركيين للقبول بوجهات نظره، خاصة بالنسبة لأراضي مصر.

لقد كشفت المفاوضات أنه ما كان للولايات المتحدة أن تقدم للأطراف أي مقترح يتعلق بالتسوية في الشرق الأوسط دون أن تعرضه على إسرائيل مسبقا لكي تقول رأيها فيه وتقوم بتعديله أو التنسيق فيه مع واشنطن قبل أي تحرك. وهو المنهج الذي سار عليه الأميركيون طوال كل هذه الأعوام حتى اليوم.

أسرع سايروس فانس وزير الخارجية الأميركية، ثم تبعه الرئيس الأميركي كارتر وطالبا الرئيس المصري بالبقاء وبذل محاولة أخيرة قامت أساسا على فكرة ضمانهما إقناع إسرائيل بالتخلي الكامل عن الوجود بأي شكل من الأشكال في سيناء، وفي ما يتعلق بالتسوية الفلسطينية، أن تقبل مصر بالمقترح الأميركي الذي يقوم على تطوير الأفكار الإسرائيلية في الحكم الذاتي للفلسطينيين تحت اسم «الحكم الذاتي الكامل»، ووجود إدارة فلسطينية وقوات أمن فلسطينية قادرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي، مرة أخرى، المفهوم الأميركي في التدرج نحو التسوية الفلسطينية وحسب المطلب الإسرائيلي الدائم.. وقرر السادات القبول بهذا الطرح، مقدرا أن الضغوط ستتصاعد على إسرائيل حتى يتمكن الفلسطينيون من تخليص أراضيهم، وهنا يجب القول إن الرئيس المصري وإن كان قد قرر أيضا إعطاء المصالح المصرية الأولوية على ما عداها، فإنه صمم كذلك على الاستمرار في مساعدة الفلسطينيين بكل ما هو متاح لمصر من وسائل ضغط دبلوماسي، وتم توقيع إطارات السلام وإن كان الرئيس المصري طلب أن تتقدم فقرات التسوية الفلسطينية على فقرات سيناء في صفحات وثيقة كامب ديفيد.

وفي الطائرة، أثناء العودة من واشنطن بصحبة وزير الخارجية المصرية المستقيل محمد إبراهيم كامل، كان ينتابني الكثير من الأحاسيس والشكوك التي بقيت معي لعدة أسابيع.. هل سننجح في التفاوض مع إسرائيل لتأمين الانسحاب الكامل دون ألاعيب مثلما هي عادتهم؟ هل سيقبل الفلسطينيون بالتفاوض وبدعم من مصر والأردن؟ وهل غياب الأفق السياسي للشكل النهائي للتسوية الفلسطينية يمكن أن يعرض الموقف الفلسطيني للخطر؟ وأخيرا هل اشترينا الأرض المصرية بثمن غال؟ وهل هناك ثمن مهما ارتفع يعتبر غاليا لاستعادة سيناء؟ ودارت الأيام، وأخذت أتقبل تدريجيا بما قرره وفعله السادات.. كانت مصر تحتاج للانطلاق اقتصاديا لمواجهة الضغوط السكانية المتزايدة على أرضها، وكشف الاستقطاب الدولي الذي احتدم بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر 1979، أنه ما كان لصاحب أي مشكلة إقليمية أن يأمل في التوصل لحل لهذه المشكلة مع هذا الاستقطاب، أي إن المناهج الأخرى التي يتصور أنها كانت متاحة أمام صاحب القرار المصري للاختيار فيما بينها؛ حربا أم سلما، لم تكن في الحقيقة سوي سراب، وبالتالي، فإن مصالح مصر هي في المضي في التنفيذ الحرفي لمعاهدة السلام التي تم التفاوض حولها في واشنطن في مارس (آذار) 79 وعدم الالتفات للمعارضة، سواء على المستوى العربي أو السوفياتي أو حتى من القوى الداخلية المصرية التي كانت تقدر أن ما يحدث سيأخذ مصر بعيدا عن إطارها العربي الطبيعي.. كان محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية المستقيل في كامب ديفيد، قد نصح الرئيس السادات بأن يقبل بالعودة إلى مصر خالي الوفاض وأن يعود بهدف بناء موقف عربي جديد يربط المصالح المصرية - مرة أخرى - برباط وثيق مع مصالح أطراف عربية و/ أو فلسطينية متنافرة.. ورفض السادات، وسار في سبيله.. كان يرى أن سوريا، ورغم أنها حاربت مع مصر، فإنه قد ثبت أنها طلبت من السوفيات بعد أقل من 48 ساعة التوصل إلى وقف لإطلاق النيران، كما أنها كانت تناور في جنيف، يوم انعقاد المؤتمر الدولي في ديسمبر عام 73 سعيا وراء مصالح سورية. وكان الأداء السوري في لبنان في عامي 75 و76 وبعد ذلك مثالا لتناطح سوريا مع السعودية، ورغبة دمشق في الهيمنة هناك، خاصة أنها تعتبر أن نفوذها في لبنان يسبق في أولويته استعادة الجولان.. حاول السوفيات توظيف هذه التطورات لصالحهم، وتجميع العرب للوقوف معهم في المعركة المحتدمة بين السوفيات من ناحية؛ والقوى الغربية من ناحية أخرى، في منطقة غرب آسيا (أفغانستان).. وقرر السادات تعزيز ارتباطاته بالقوى الغربية، وبالولايات المتحدة باعتبارها القوة البحرية الأعظم التي يستطيع، إن عمل معها في توافق واتساق، الحصول منها على مزايا لمصر، بما في ذلك الدعم الاقتصادي، والمساعدة في برامج التنمية الاقتصادية، وتحقيق الانفتاح الحقيقي في الإمكانات المصرية الاقتصادية، والدعم العسكري في ظروف شح اليد السوفياتية، وتأمين أراضي مصر في سيناء من تهديدات وأطماع إسرائيل، وقد تم اختراقها في ثلاث مناسبات سابقة في أعوام 49 و56 و67.. ثم حدث ما هو في غير حسبان، من العبور الإسرائيلي إلى غرب القناة واحتلال جيب كبير وحصار مدينة السويس في عام 1973. واغتيل الرئيس السادات، وجاء خليفته حسني مبارك لكي يقرر الاستفادة من المسار الذي سار فيه السادات.. تخليص الأرض بصفتها القضية المقدسة الأولى قبل أي شيء آخر، والتنمية الاقتصادية، وحشد الموارد لتحقيق انطلاقه نهضوية مصرية لرفع مستوى معيشة المواطن المصري، ومواجهة الزيادة السكانية الهائلة التي فشلت كل محاولات السيطرة عليها بسبب البعد الثقافي الضاغط.

مضى الرئيس الجديد في الالتزام برؤية سابقة في التنفيذ الحرفي لمعاهدة السلام مع إسرائيل والتحرك في برامج التنمية ولكن بقدر كبير من الأداء المحافظ، ووقع أول اختبار له عندما غزت إسرائيل أراضي لبنان واقتربت من حصار عاصمة عربية لأول مرة في تاريخ النزاع العربي - الإسرائيلي، وكان الأمر فعلا يستثير الضيق الشديد لكل القوى القومية والإسلامية على الأرض العربية، واتهم البعض كامب ديفيد بالمسؤولية في ذلك، وكانت رؤيتي في حينه وحتى اليوم، أن إسرائيل تتحرك وراء مصالحها، وأن غياب معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ما كان سيمنعها من القيام بما تراه محققا لأمنها.. وأقول اليوم إن الكثير لم يكشف بعد عن قرارات ومخططات السوفيات و/ أو سوريا، والقيادة الفلسطينية، في تحفيز إسرائيل على الهجوم على لبنان، أو ربما الوقوع في خضم الشرك الذي كانت تنصبه إسرائيل للوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية، وبالذات في مناطق الجنوب.

ومع هذا، يجب أن أعترف أنني، وكنت أتابع المعارك في نهاية يونيو (حزيران) 1982 عائدا بالسفينة من الاتحاد السوفياتي، كنت أستشعر الكثير من الضيق والأسى، واشتبكت سوريا مع القوات الإسرائيلية عندما اقتربت من سهل البقاع, وقاتلت معركة عسكرية حادة بمفردها كشفت نتائجها عدم قدرة أي طرف عربي على منازلة إسرائيل منفردا، ولم تكن مصر قادرة على العمل في إطار عربي جماعي لدعمها، حتى، ولو دبلوماسيا، بل اقتصر الأمر على تحرك مصري - فرنسي مشترك أمام مجلس الأمن لوقف الاقتتال وفرض الانسحاب على إسرائيل من الأراضي اللبنانية مع العمل على تخليص القيادة الفلسطينية من مأزق الحصار في بيروت.. كانت معركة لبنان تمثل اختبارا مهما لمدى تمسك مصر بالتزاماتها في كامب ديفيد، وإن كانت القاهرة صممت على أن تبقي على إظهار الاهتمام المصري بجهود التسوية الفلسطينية. كانت سنوات الثمانينات تتسم بصعوبات مصرية – عربية، وبذلت مصر جهودا قوية لاستعادة علاقاتها العربية تدريجيا وصولا إلى استعادة مقر الجامعة العربية وعودته للقاهرة في عام 90.. ثم نجحنا في العودة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بعد تجميد عضويتنا لعدة سنوات.

استغرق هذا الجهد نحو عقد من الزمن، إلا أن مصر نشطت على مدى سنوات الثمانينات، ومنذ الغزو العراقي أراضي إيران في 20 سبتمبر 80 وحتى توقف القتال في يوليو 1987، في دعم العراق ومنع هزيمته بوسائل مختلفة كثيرة ومساهمات عديدة، كان لي اطلاع كبير عليها سواء أثناء عملي مع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية كمال حسن علي أو الدكتور عصمت عبد المجيد وزير الخارجية في نهاية عقد الثمانينات.

«سوف أوالي في المقال المقبل مناقشة الآراء التي تتناول إشكالية الدور المصري إقليميا، وتأثيرات ارتباطات معاهدة السلام الإسرائيلية - المصرية على هذا الدور».