تغطية الإعلام الرسمي لمجازر داريا تثير سخط السوريين

مراسلة تظهر بأظافر مطلية بالأحمر.. تتنقل بين الجثث وتجري مقابلات مع جرحى يحتضرون

TT

التغطية الإعلامية الرسمية للمجازر التي وقعت في داريا، وأودت بحياة ما لا يقل عن 300 قتيل، أثارت استياء وسخطا كبيرا في أوساط المعارضة.

وإضافة إلى اتهام الثوار والذين تسميهم السلطات بـ«العصابات المسلحة»، بارتكاب تلك المجازر بحق المدنيين الآمنين، مع تجاهل عمليات القصف الجوي والمدفعي العنيف على مدى خمسة أيام متواصلة.. بثت قناة تلفزيون «الدنيا» تقريرا إخباريا أعدته مراسلة حربية ظهرت بين جنود جيش النظام وهي ترتدي سترة واقية من الرصاص، وتتنقل بين جثث النساء والأطفال بدم بارد، حاملة الميكروفون بأصابع طليت أظافرها باللون الأحمر الفاقع.. وهو ما ظهر على الشاشة بشكل مستفز أمام وجوه القتلى والجرحى الغارقة في الدماء والمقفرة بالتراب، لتجري مقابلات مع جرحى يحتضرون في الشوارع في وقت بدوا فيه أنهم بحاجة للإسعاف السريع.

وراحت المراسلة تذكِّر بقصة محمد الدرة الفلسطيني، الذي قتله جنود الاحتلال الإسرائيلي بحضن والده، فيما تركز الكاميرا على سيدة قتلت وهي تحتضن طفلها محاولة تجنيبه الإصابة في شوارع داريا.. وبدلا من مسارعة الجنود لنقل الجثث، وقفوا في محيط الكاميرا ينتظرون انتهاء المراسلة من إعداد تقريرها، وكأنها تتنقل في مسرح مشهد تمثيلي لا مسرح واحدة من أفظع المجازر التي شهدتها البلاد.

ولا يقل ذلك المشهد استفزازا عن مشهد آخر في المقبرة، حيث تبعثرت الجثث بين القبور، وقفزت من فوقها المراسلة الحربية بأظافرها الحمراء لتعثر على سيدة تموت مطروحة أرضا لتفتح معها تحقيقا عن سبب وجودها هنا ومن أطلق عليهم النار، في محاولة لانتزاع شهادة دامغة على أن من فعل ذلك هم العصابات الإرهابية، بينما الكاميرا تمرر مشاهد لآثار قصف عنيف على المقبرة؛ لا اشتباكات وتبادل لإطلاق نار.

وقال ناشط يدعى حسان، تعليقا على مراسلة قناة «الدنيا»، إنها «لو لم تكن متجردة من إنسانيتها وقادرة على أن تتمشى بمنتهى البرود بين جثث ضحايا داريا، لما اختارتها إدارة قناتها لهذه المهمة».

من جانبه كتب المخرج الدرامي المعروف هيثم حقي على أحد مواقع التواصل: «فوق هول المجزرة، تأتي هذه المذيعة لتحفر الجرح الدامي بسكين ميكروفونها البشع بجنون لا يصدق، إذ كيف يمكن لعاقل أن يجري حوارا مع امرأة جريحة وسط جثث، وتقدم المذيعة للقاء بعد استعراض الكاميرا للجثث بأن هناك امرأة لا تزال على قيد الحياة وتقترب لتسألها من أطلق عليك النار؟».

ويتابع حقي: «الأبشع من ذلك السيارة التي فيها طفلتان بجانب جثة أمهما وهذه المذيعة السادية في تقرير، ليس كاذبا فقط بل يبعث على الاشمئزاز، تقترب من الطفلة الموجودة في حالة صدمة مروعة وتسألها ببرود من التي بجانبك؟».. ويتساءل حقي: «هل كنا نعيش مع هؤلاء الوحوش ونتنفس الهواء نفسه وننتمي للبلد نفسه ولناسه الطيبين؟».

الإعلامية ريتا معلوف تسخر بمرارة من تقرير قناة «الدنيا» بالاكتفاء بسرد سيناريو التقرير كتابة: «بعد مجزرة شنيعة في داريا.. (EXCLUSIVE): لقطات زوووم إن لوجوه الجثث.. زووم على أماكن الإصابة.. زووم على أعين الجثامين تحدق في اللاشيء.. زووم ينتهك مجددا أمام الملايين الأجساد الفارغة من أرواحها..

المراسلة: هنا خلفي امرأة لا تزال على قيد الحياة! تسأل السيدة التي تنزف على الأرض وسط الركام: خالة مين عمل فيكي هيك؟؟ السيدة لا تقوى على الكلام: ما بعرف!! يأتي شباب الجيش ويحملون السيدة على نقالة إسعاف.

المراسلة تسأل طفلتين في سيارة ممددتين وسط الجثث: مين هي اللي ميتة جنبك؟؟ الطفلة مذهولة: أمي!! بعد انتهاء المقابلة يصل شباب الجيش في لقطة مع موسيقى تصويرية ينقذون الطفلتين من أحضان الجثث».. وتحتم ريتا معلوف بالتأكيد أنه «فقط في سوريا عمليات الإسعاف والإغاثة تنتظر انتهاء المقابلات»، وتنصح من لم يرى هذا التقرير بألا يراه.

أما الكاتب والصحافي السوري المعارض محمد منصور فكتب على صفحته في موقع «فيس بوك»: «بعد مجزرة داريا، ارتكبت قناة (الدنيا) مجزرة إعلامية بحق من قتلوا.. برأت قاتلا وجرمت بريئا بدمهم». وذكر منصور بما سبق وكتبه عن الإعلام الرسمي وقال: «عندما كتبت عن تفجير (الإخبارية)، وشبهت وسائل الإعلام السورية بأنها أقرب لفروع أمن منها إلى وسائل إعلام (منحازة)، قال أحد عميان القلوب من المتفذلكين إن هذا القول مجاز وكررها (نعم مجاز).. اليوم أكرر: هؤلاء مخبرون ومحققون ومنتزعو اعترافات من أناس هاربين وخائفين، السلاح مصوب إلى صدورهم كما الكاميرا تماما. هؤلاء شركاء كاملو الشراكة في الجريمة.. هؤلاء يعرفون أكثر مني ومنكم من الذين ارتكبوا المجزرة، وكيف قتلوا.. دخلوا بحمايتهم، ومشوا معهم، وركبوا في سيارة واحدة».

وإذا كانت مراسلة قناة «الدنيا» ظهرت بسترة واقية من الرصاص زرقاء اللون وطلاء أظافر أحمر قان بلون الدم، فإن مراسل قناة «الإخبارية» ارتدى لباس الجيش النظامي المموه الكامل، ولم ينقصه سوى حمل البندقية، والعتاد الكامل، مع أنه تنقل ضمن مجموعة كبيرة من الجنود، وكان لافتا أنه سلك طريق زميلته مراسلة «الدنيا» ذاته، والتقط المشاهد ذاتها وبالبرود ذاته، مع أنهما لم يكونا معا، ما يشير إلى أن الجثث والجرحى بقوا على الأرض ريثما ينتهي الإعلام الرسمي من تصوير مشاهد دعايته الحربية، دون أي مراعاة لمشاعر المشاهدين وهم يرون أشلاء وجثث معارفهم مرمية في الطرقات، دون أي مبادرة لتغطيتهم أو القيام بأي تصرف ينم عن تحرك المشاعر الإنسانية، بل على العكس تختتم تلك التقارير عادة بمشاهد للجنود يتوعدون بسحق وإبادة الإرهابيين، ويهتفون للرئيس بشار الأسد.

الناشطة خولة حديد تساءلت: «هل هناك حقارة أكبر من ذلك؟ ما يشغلني هو مصير الأطفال الذين انتشلوهم من أحضان أمهم الشهيدة.. إلى أين أخذوهم؟ وما مصيرهم؟ هذه القنوات الفضائية يجب أن تحاسب على مشاركتها وتغطيتها على الجرائم وقلب الحقائق».