أوراق الخارجية المصرية - أبو الغيط: مصر بين المكانة والدور

انفاق غزة بالمئات (أ.ف.ب)
TT

أعود في مقال اليوم إلى تناول هذه المقولات التي تذكر أنه «وحين وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام 79، فإن ذلك كان إشهارا لانكسارها وبداية لانكفائها»، أو مثلما يقول البعض إن اتفاقية السلام أخرجت مصر والعرب من المعادلة الدولية وأخضعتهم لوصاية الدول الكبرى، مع تحميل اتفاقية مصر مع إسرائيل ما جرى من ضرب المفاعل العراقي في عام 1981، واجتياح لبنان عام 82، ثم احتلال الكويت عام 91، ثم غزو العراق، وأخيرا انفصال جنوب السودان، والاستفراد باليمن.. وذهبت هذه الآراء؛ بل وأقول هذه «المدرسة الفكرية» التي تقوم على مفكرين مصريين وعرب، إلى القول بأن مصر «دفعت ثمنا باهظا جراء انكفائها، ودفع العرب ثمنا غاليا جراء غيابها، ومصر الكبيرة تم تكبيلها وتقزيمها وترويضها وحبسها في قفص الاعتدال.. من هنا، ومع بزوغ «25 يناير (كانون الثاني)»2011، فإنه يجب على مصر أن تعاود النظر في سياستها وتنطلق وبسرعة إلى تحمل مسؤولياتها».

وفكرت مليا، مرة أخرى، في هذه الآراء، وتساءلت بكل اهتمام وجدية: هل كان يجب على مصر أن تستمر في مساعيها لتحرير أراضيها من خلال الصدام المسلح فقط، حتى وإن اقتضى الأمر استمرارها في الحرب والصدام لعقود أخرى ممتدة؟ وهل كان هناك ضمان بأنها ستحقق أملها في تخليص الأرض بالحرب في نهاية المطاف؟ هل كانت لها طاقة على ذلك بكل ظروفها الضاغطة التي تطرقت إليها سابقا؟ هل كان هناك ضمان أن لا تتعرض مصر لهزيمة أخرى جديدة، خاصة أن علاقات وتوازن القوى المسلح بينها وبين العالم الغربي، وإسرائيل ربيبته، لا يمكن مقارنته اليوم بما كان عليه الوضع عندما نجحت مصر في ضرب الغزو الصليبي أو المغولي في هجمته المنسقة على أرض الإسلام؟ وقدرت من جانبي، أن كل هذه الأسئلة لها مشروعيتها، وأن الإجابة الصادقة والأمينة عنها يمكن أن تحسم رؤيتنا للماضي وخلاصاته.. وإن كانت أيضا تفتح الأبواب للمزيد من التفكير لتدبر المستقبل، وهو ما آمل الكتابة فيه في مقال آخر مقبل.

* أعود اليوم إلى استرجاع رؤية الرئيس السادات، وهو يتفاوض في كامب ديفيد لاستعادة سيناء، بقوله لأحد أعضاء الوفد المصري ممن كانوا يتحسبون من نقطة هامشية هنا وأخرى فرعية هناك بشأن مشروع الاتفاقات الإطارية لكامب ديفيد: أنتم لا تفهمون شيئا.. أنتم تتحدثون وكأنكم ترغبون في أن تولد أجيال جديدة من المصريين ولعشرات السنين لكي يجدوا أراضيهم محتلة، وأن يناضلوا من أجل تحريرها. وأخذت من جانبي وعلى مدى سنوات أسترجع هذا القول، وأن السادات كان يتحدث بهذه الآراء والأفكار بعدما خبر الحرب وأخطارها وعواقبها، ولم يكن السادات بعيدا عن تفكيري في السنوات الأخيرة من عقد الثمانينات، عندما تحللت الكتلة الاشتراكية، ثم سقط الاتحاد السوفياتي بانفجاره وتحلله في بداية يناير 1992، وأخذت أتساءل، ولكن بكثير من الارتياح: ما الحال إذا كانت أراضي مصر في سيناء ما زالت محتلة في عام 92 واستمرار مصر في حشد الموارد والقوة المسلحة اعتمادا على المصدر المتاح الوحيد للسلاح المتطور، وقد انزوى؟ وتوصلت إلى نتيجة تعبر عن الرضا.

وينبغي أن أعترف هنا أن مصر عانت كثيرا، في علاقاتها العربية أو الإسلامية فور توقيعها إطارات كامب ديفيد في عام 1978 ومعاهدة السلام في عام 1979، وبذلت الكثير من الجهد الذي استغرق طاقتها الدبلوماسية، مثلما أوضحت، خلال عقد الثمانينات، لاستعادة أوضاعها وعلاقتها مع الكثير من دول المجموعتين؛ الإسلامية والعربية، كما تعرضت لمحاولات تطويق وإضعاف من قبل الاتحاد السوفياتي وشركائه في حركة عدم الانحياز. أخذت أيضا أتدبر مغزى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ومفهوم كامب ديفيد، وتوصلت إلى بعض النتائج المحددة التي أعتقد أنها كانت ظاهرة أمام كل من يرى؛ وهى:

أولا: أن مصر الملكية أو الناصرية أقامت دورها وتأثيرها فور انتهاء الحرب العالمية الثانية على عنصرين أساسيين؛ أحدهما يتعلق بالقدرة الثقافية والسكانية المصرية في تجميع الأمة العربية والإسلامية حول رسائل وتوجهات محددة؛ العروبة والجامعة العربية، والفكرة الإسلامية في مواجهة الغزو الاستعماري الغربي. والآخر بحشد الموارد العسكرية والفكرية والدبلوماسية للتصدي لإسرائيل في استلابها أراضي شعب فلسطين العربي، وجاءت حروب مصر عامي 48 و49 ثم 56 وأخيرا 67 تعبيرا عن هذه المسؤولية المصرية في التصدي لمصالح الإقليم في دفاعه عن نفسه ضد الهيمنة الغربية وغيرها.

ثانيا: أن استخدام القدرات المصرية و/ أو العربية في شموليتها في هذه المواجهة الممتدة عسكريا طوال ما يقرب من ربع قرن من الصدام المسلح، لم تصل بمصر إلى تحقيق أهدافها، بل وضح أن مصر ليست فقط مهددة بالسقوط في براثن الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، ولسنوات، مثلما نشهد اليوم بالنسبة للجولان السوري المحتل منذ يونيو (حزيران) 67، ولكن أيضا بالسقوط فريسة لمشكلاتها الداخلية المتصاعدة على مدى عقود في وجه زيادة سكانية كبيرة. وكان يجب السعي للإنقاذ، حتى ولو على حساب ما يتصوره البعض من دور وتأثير، وإن كنت من جانبي أختلف مع هذا التوصيف مثلما سأوضح تاليا.

ثالثا: أن استعادة الأرض المصرية في مقابل توقف مصر عن حشد إمكاناتها الذاتية والعربية ضد إسرائيل، لا يعني إطلاقا أو بحال من الأحوال أنها لن تمضي في مساعدة الفلسطينيين على استخلاص حقوقهم، كما أنه لا يعني أن مصر باعت المصالح الفلسطينية أو أنها تنازلت عن أراضي أو حقوق للشعب الفلسطيني أو العربي، بل على العكس؛ فقد أكدت دائما أن تجربتها مع إسرائيل يمكن أن تتخذ منهجا للحصول على بقية حقوق الدول العربية والفلسطينيين في أراضيهم.

رابعا: أن التزام مصر بعدم اللجوء للحرب مع إسرائيل ما دامت لم تتعرض المصالح المصرية للتهديد أو الخطر المباشر بعدوان عليها، لا يعني إطلاقا أن مصر مقيدة في حسابات سياستها الخارجية، سواء على مستوى الإقليم أو في الإطار الدولي، ولا يوجد دليل واحد على أن معاهدة السلام قد قيدت حرية حركة مصر إقليميا أو دوليا، إلا في مسألة الالتزام بعدم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقة مع إسرائيل ما دامت المصالح المصرية الاستراتيجية والحيوية لم تتعرض لخطر مباشر.

لقد قال كثيرون إن اتفاق كامب ديفيد أدى إلى إضعاف العرب وتدمير مصالحهم ومجتمعاتهم.. وأقول من جانبي إن رؤيتي تتمثل في أن كامب ديفيد كانت ضرورة فرضها الضعف العربي والانقسامات العربية على مدى عقود.

خامسا: أن كثيرا من المحللين السياسيين؛ المصريين أساسا، لم يرصدوا جيدا التغيرات الجوهرية التي سادت العالم العربي ودوله مع بزوغ السبعينات وحتى اليوم، وربما لعقود مقبلة، وهي أن مصادر الثروة والقدرة العربية لم تعد قاصرة على مصر، رغم كل تأثيرها السياسي والثقافي والعسكري على مستوى الإقليم، بل إن هناك، في دول عربية صغيرة، ثروات وإمكانيات أصبحت الإمكانات المصرية تتضاءل أمامها على المستوى العربي، ولا أعتقد أن كامب ديفيد تُسأل عن ذلك، إلا أن المؤكد أنه إذا ما كان على مصر أن تسعى لكي تحدث تأثيرها، مثلما ترغب، فإن الأمر يبقى في يدها، إلا أن المؤكد أيضا، في هذا المجال، أن هناك تكلفة لكل ذلك، وسوف يواجه صاحب القرار المصري في هذا الصدد بضرورة النظر في الخيارات، والأولويات، وما تحتاجه مصر داخليا، قبل أن تبحث عن تأثيرها الخارجي. وهنا أود أن أكتب قليلا عن الدور المصري، في ظلال كامب ديفيد مثلما يحلو للبعض تسميته.. وأذكر هنا أنه وبعد انتهاء تجميد عضوية مصر في الإطار العربي و/ أو الإسلامي، فقد انطلقت مصر تعمل بحرية خلال عقد التسعينات للدفاع عن مصالحها ومصالح الإقليم مثلما تراه وتقدره، ولكن بصفتها «دولة طبيعية من وجهة النظر الدولية» تلتزم بالقانون الدولي وتعمل في إطار الشرعية وحسن الجوار، وتطبق مبادئ العلاقات الدولية دون تهديد أو تدخل ضد أحد من الجيران أو في الإطار الدولي، وفي هذا السياق، ينبغي رصد الآتي:

أولا: أن مصر كانت القوة المحركة والدافعة لنجاح الجامعة العربية في 2 أغسطس (آب) عام 90 في استصدار قرارها، على المستوى الوزاري، بإدانة الغزو العراقي للكويت والمطالبة بإنهاء هذا الغزو من قبل دولة عربية ضد شقيقة لها، كما أن القمة العربية وقد انعقدت بدعوة مصرية يوم 10 أغسطس فتحت الطريق أمام تنامي إقامة ائتلاف دولي عريض لرد العدوان العراقي على الكويت، كما شاركت مصر بقوة عسكرية كبيرة ومؤثرة في عملية تحرير الكويت وبعد الحصول على قرار من الأمم المتحدة بذلك.. وأزعم هنا أنه ولولا المواقف المصرية الحاسمة في معارضة الغزو لما نجحت القوى الدولية الأكثر تأثيرا، والولايات المتحدة أساسا، في القيام بالعملية العسكرية التي انتهت بإنهاء الاحتلال وعودة الكويت دولة لها سيادة على أرضها وثروتها. وقد يقول البعض إن مصر ساهمت في تحطيم العراق، وأقول ردا على ذلك، إن القيادة العراقية هي التي تسأل عن تحطيم هذا البلد العربي العريق وما ترتب على ذلك من آثار خطيرة في إضعاف القدرات العربية في كل المجالات. لقد وقفت مصر بجوار العراق في صدامه مع إيران رغم أننا لم نكن نشجع هذه الحرب بين أطراف ودول إسلامية، إلا أن التقدير المصري، كان عندئذ، في بداية الثمانينات أن هناك تهديدا حالا بالمصالح العربية إذا ما سقط العراق، باعتباره الجناح الشرقي للأمة العربية، تحت ضربات إيران. وقد يكون من المناسب في هذا المجال أن أتطرق إلى ذكر حديث دار بين وزيري خارجية مصر والعراق، كمال حسن علي وطارق عزيز في عام 84، أثناء زيارة الأول لبغداد لتقديم مساعدات عسكرية للعراقيين، حيث قال الوزير العراقي، في معرض انتقاده لمحدودية المساعدات الخليجية للعراق أثناء الحرب، إن بلاده لم تحصل حتى الآن إلا على 60 مليار دولار فقط من الخليج، ودهش الوفد المصري، وكنت من بين أعضائه، وعقب كمال حسن علي بقوله، وبصراحة موجعة، إن مصر لم تحصل من الأمة العربية على عشر هذا المبلغ أو حتى نصف العشر، وإنها لو حظيت بهذا الدعم أثناء صدامها مع إسرائيل، لاختلفت نتائج النزاع تماما.

ثانيا: أن مصر شاركت بفاعلية وتأثير في صياغة إعلان دمشق الصادر في 6 مارس (آذار) عام 1991 بعد تحرير الكويت، وهو الإعلان الذي شاركت فيه دول مجلس التعاون الخليجي الست وكل من مصر وسوريا. وكانت الفلسفة الأساسية للإعلان هو تعبير هذه الأطراف الخليجية وكل من القاهرة ودمشق عن تمسكها بالعمل العربي المشترك لتأمين التعاون فيما بينها في كل المجالات وبما يؤمن المصالح العربية على مستوى الخليج ومع الدولتين الأخريين، وللأسف، فقد انزوى تأثير هذا الإعلان بعد فترة قصيرة من تحقيق هدف هزيمة العدوان العراقي على الكويت، وقد قاومت سوريا فكرة إنهاء الإعلان ورأت القاهرة أنه لا «إجبار في التعاون للدفاع عن الإقليم» خاصة وقد فضلت مجموعة من هذه الدول تعميق تعاونها العسكري والاستراتيجي مع قوى غربية، مثل قطر التي اتجهت لاستضافة وتوسيع الوجود الأميركي بأراضيها، والإمارات التي عقدت اتفاقات مهمة للتعاون مع فرنسا وأميركا وبريطانيا، والبحرين التي هي مقر قيادة الأسطول الخامس الأميركي في الخليج والمحيط الهندي، والكويت التي استضافت القوات الأميركية التي حررتها، وغير ذلك من وجود استراتيجي غربي في عمان.

عملت مصر في السنوات التالية لتجميد إعلان دمشق على توطيد فاعلية المحور الثلاثي المصري – السعودي – السوري، حيث أصبحت لقاءات وزراء الخارجية وقادة الدول تعتبر مثالا يحتذي للتعاون والتدارس للمواقف وأيضا قاطرة إرشادية للعمل العربي المشترك.

ثالثا: أن مصر لم تتخل في أي لحظة، منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، عن تأييد الفلسطينيين ومساعدتهم في مواقفهم التفاوضية مع إسرائيل.. فبعودة العلاقات العربية - المصرية إلى مسارها بشكل طبيعي في عام 89، أخذت الدبلوماسية المصرية تتحرك لتمكين الفلسطينيين من التفاوض على أسس تتجاوز ما حققته مصر لهم في كامب ديفيد، وهناك الكثير مما بذلته مصر في هذا الصدد الذي يتضمنه كتابي «شاهد على الحرب والسلام»، سواء بالنسبة لشكل التمثيل الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) 1991، أو ما تلا اتفاق أوسلو من مفاوضات تؤشر إلى بدء بزوغ الدولة الفلسطينية.

إن تاريخ القضية الفلسطينية، ومثلما يقال كثيرا، هو «تاريخ الفرص الضائعة»، ولا أعتقد أن من العدل أن يقول البعض إن مصر قد فشلت في تحقيق الانفراج في التسوية الفلسطينية، وبذا، فإن دورها وفاعليتها قد تقلصت وانزوت. والمؤكد، وبكل الصدق وشجاعة القول اليوم، أن التسوية الفلسطينية واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم وإن كانت ستتحقق حتما في مستقبل الأيام، إلا أنه يجب الاعتراف بأن مصر وحدها لا يمكنها بحال من الأحوال فرض التسوية التي ترتئيها على إسرائيل، وأن المسألة أكثر تعقيدا وعمقا.

رابعا: قادت مصر الدول العربية في معركة مستمرة وعنيفة منذ منتصف التسعينات في القرن الماضي، لإلقاء الضوء على خطورة الملف النووي الإسرائيلي وتهديده الأمن العالمي، وأعتقد أن الجميع اليوم، سواء القوى الغربية أو الدول الإقليمية، لا يمكنها أن تنكر حيوية وفاعلية الدور المصري في هذا الشأن والنجاحات المحققة التي كشفت فعلا للجميع سياسة الغرب في المعايير المزدوجة بالنسبة لهذا الملف وتهديدات إسرائيل بسياساتها للمنطقة بكاملها.

خامسا: تصدت مصر بسرعة وفاعلية لأخطار انفجار الوضع التركي - السوري في عام 98 عندما قامت تركيا بتهديد سوريا بأنها سوف تتدخل عسكريا في الأراضي السورية إذا ما استمر الدعم السوري للتمرد الكردي الذي يقوده حزب العمال الكردي بقيادة مصطفى أوجلان، وتحرك الرئيس السابق مبارك في زيارات مكوكية بين دمشق وأنقرة لإجهاض خطر المواجهة المسلحة، وتم إنقاذ الإقليم من مواجهة عسكرية خطرة وصدام مسلح بين من لا ينبغي أن يتحاربا فيما بينهما.. أتذكر أن الموقف كان يتدهور بشكل سريع، وأرسلت في السابعة صباحا إلى وزير الخارجية عمرو موسي تقريرا مزعجا عن التحضيرات التركية والنوايا في التحرك ضد سوريا، واتصل بي عمرو موسي من منزله فور تلقيه التقرير، وكنت أعمل مساعدا له لشؤون مكتب وزير الخارجية، مبديا القلق من احتمالات تدهور الموقف، ويقول: ما رأيك أن أقترح على الرئيس مبارك أن تتدخل مصر، أو هو شخصيا بالوساطة بين تركيا وسوريا لمنع الصدام بينهما، وهو صدام خطير لا تستفيد منه سوى إسرائيل؟ ووافقته فورا على هذه المبادرة، ثم اتصل بي مرة أخرى بعد دقائق ليقول إن الرئيس وافق إنه يرغب - أي الرئيس – في السفر صباح اليوم إلى دمشق لبحث الأمر وإن علينا الترتيب فورا، وتحركت الدبلوماسية المصرية، وتمت زيارة دمشق ثم أنقرة، والعودة إلى دمشق، واتفق على آلية للتسوية، وحققت مصر فاعليتها.

سادسا: أن مصر، ورغم أي مزاعم أو ادعاءات، نجحت وتحت ظروف بالغة الصعوبة - لا يجب التطرق إليها الآن - في الحفاظ على استقرار وإعاشة الشعب الفلسطيني في غزة، ولعل مئات الأنفاق المُتاحة بين مصر وغزة هي خير دليل على ذلك، وهنا ينبغي أن لا يصدق أحد أن وجود الأنفاق ونقاطها كان من الأمور الخافية على الدولة المصرية.

سابعا: أن مصر نجحت في الدفاع عن مصالحها، ومصالح العرب، عندما أجهضت، ولو إلى حين، عملية توسيع مجلس الأمن في عامي 2005 - 2006 عندما تبينت أن بعض توجهات القوى الطامحة الكبيرة لا تأخذ في الحسبان هذه المصالح المصرية والعربية، وهو نجاح يجب أن يسجل للدبلوماسية المصرية المدعومة عربيا.

ثامنا: لقد كان هناك على مدى العقدين الأخيرين من حكم الرئيس السابق مبارك الكثير من المواقف والمبادرات المصرية في مجال السياسة الخارجية، بما يكشف عن فاعلية وإثراء للعمل العربي المشترك، ومع ذلك، يجب أن أعترف وحتى توضع الأمور في نصابها، بأنه ورغم فاعلية التأثير المصري على مستوى الأمم المتحدة وكل قضاياها المطروحة هناك، أو المستوى الإقليمي سواء بالجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد الأفريقي، وكذلك في علاقات مصر مع الاتحاد الأوروبي بالنسبة لاتفاقية المشاركة الأوروبية، أو العلاقات الوطيدة مع دوله فرادى، أو من خلال التعاون في إطار برشلونة.. وأيضا في ما يتعلق بالتطور الكبير الذي شهدته العلاقة المصرية - الروسية، والأخرى مع الصين، فإنني كنت من جانبي أستشعر أن هناك قلقا عميقا من الأعباء التي قد تفرضها تحركات مصرية خارجية نشطة على ميزانية الدولة المصرية وأعبائها الاقتصادية التي تتعرض للضغوط السكانية والاحتياجات الأخرى المشروعة للشعب المصري، من هنا، كانت مصر تتبني الحذر في الظهور البحري في جنوب البحر الأحمر أو المحيط الهندي إبان أزمة القراصنة بالصومال، وكذلك الوجود المكثف عسكريا على مستوى المناورات مع مجلس التعاون الخليجي.

«وآمل أن أتناول في مقالي المقبل السياسة الخارجية المصرية، وكيفية صياغة القرار فيها، ودور الخارجية فيه، والحاجة الماسة إلى إعادة منصب مستشار الأمن القومي المصري».

* وزير خارجية مصر الأسبق