أوراق الخارجية المصرية - أبو الغيط: السياسة الخارجية المصرية والمستقبل

تأمين مصالح مصر المائية من أهم الأولويات
TT

الآن وقد بزغت الجمهورية المصرية الثانية، فسوف نستمع ونقرأ، ولا شك، للكثيرين الذين يطالبون بأن تكون لمصر سياساتها الخارجية «الجديدة» وأن تحكمها مذاهب وأفكار مختلفة عما كان عليه الوضع طوال أربعين عاما سابقة على الأقل.. وللحقيقة، فإنني أقول لكل هؤلاء الذين سيحاولون «إعادة اختراع العجلة» طبقا للمثل الإنجليزي المعروف.. عليكم التدقيق في المنطلقات الثابتة والمستقرة للسياسات الخارجية المصرية عبر التاريخ المصري الممتد.. الذي حكمته الجغرافيا والثقافة الضاربة في عمق هذا التاريخ..

ومصر في ذلك، لا تختلف عن كل الدول والمجتمعات التي كان لها دائما أدوارها مهما تعاقبت عليها الأنظمة والأوضاع.. سواء الصين تحت الحكم الإمبراطوري أو الكومينتانغ أو الحزب الشيوعي.. أو روسيا إبان القيصرية ثم الحكم السوفياتي وأخيرا الجمهورية الفيدرالية.. كما أن فرنسا تحت الجمهوريات الخمس كان لها دائما منطلقات ومحددات ثابتة ومستقرة لسياستها الخارجية رغم اختلاف الظروف.. وقصدي أن أهداف السياسة الخارجية لكل هذه المجتمعات.. وأضيف عليها أمثلة أخرى، مثل تركيا وإيران.. ثابتة ومستقرة طالما بقيت هذه الدول عبر التاريخ.. وهي الحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها الكاملة عليها، وعدم السماح مطلقا بأي تهديد داخلي أو خارجي لها.. وينطبق ذلك بوضوح على الحالة المصرية.. إلا أن مصر قد تختلف عن الكثير من هذه المجتمعات والدول في الرسالة التي تستشعر ثقلها ومسؤوليتها فيها.. وهي مسؤولية تجميع وصيانة والحفاظ على أمن إقليمها العربي أو الإسلامي.. ولا يحتاج الأمر في هذا المجال أن نكرر المقولات التقليدية بأن مصر لها وجوه شتى.. فهي عربية - إسلامية - قبطية - أفريقية - آسيوية - بحر متوسطية، ولها اهتماماتها ومواقفها تجاه كل هذه المسارح والساحات..

* من هنا، وبعد هذه المقدمة الموجزة، فإنني أقترح أن أركز، في بقية هذا المقال.. ليس على الحديث عن السياسة الخارجية المصرية «الجديدة»، ولكن الأولويات والمواقف التي يجب أن تحكمنا في تحركاتنا السياسية لخدمة مصالحنا، انطلاقا من تاريخنا الممتد والجغرافيا الحاكمة لأوضاعنا، وأخيرا ثقافتنا ومسؤولياتها اعتمادا على تجاربنا المستفيضة وهنا أقول:

أولا: إن القضيتين الأساسيتين اللتين ينبغي أن تحظيا بأولوية الاهتمام والمعالجة المصرية هما.. أولا، السعي المستمر للتوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.. واقتران ذلك بمنع أي تهديدات للمصالح الأمنية المصرية عبر الحدود الشمالية الشرقية.. وثانيا، العمل على تأمين مصالح مصر المائية في مياه النيل بكل الوسائل السياسية والقانونية والدبلوماسية.. وحول هاتين النقطتين أقول:

* إن الدبلوماسية المصرية ينبغي أن تنشط في اتجاه إقناع المجتمع الدولي بضرورة التصدي لخطط إسرائيل في استيطانها للضفة الغربية، ومعها دبلوماسيات تلك الدول التي حباها الله بالثروة البترولية والمالية وبالتالي الصوت المسموع.. وإلا فسوف نستيقظ ذات يوم لكي نجد أراضي فلسطين.. كلها.. في الضفة الغربية قد ابتلعت وتم استيطانها.. كما يجب بذل كل جهد لدى الاتجاهات الفلسطينية المختلفة لتحقيق المصالحة والاتفاق على العمل الوطني الفلسطيني ومعاييره وأساليبه بين كل هذه الأطياف.. وأخيرا.. فإن من الحيوي أن يُسرع الفلسطينيون في التفاوض مع إسرائيل لاستعادة حقوقهم المسلوبة.. وأن تدعمهم مصر – كعادتها - بكل إمكانياتها التفاوضية والسياسية وثقلها في الإقليم. ويبقى في هذا المجال نقطة مهمة يجب ألا تفوت أحدا.. ألا وهي أن مصر تحارب دائما دفاعا عن أراضيها، ويجب ألا يتصور أي طرف أنه قادر على سحبها إلى مبارزة عسكرية، أو الإيقاع بها في هذه المبارزة عن طريق محاولة تغيير الظروف الحالية بالشرق الأوسط.. كما أن مصر.. على الجانب الآخر تعي دائما من أين تأتيها التهديدات الخارجية ومحاورها التقليدية والتاريخية. ويجب عدم السماح بحال من الأحوال بأن تقرر قوى أخرى.. سواء كانت دولا أو جماعات ومنظمات.. الخيارات المتاحة لمصر.. أو تنجح في توريطها في ما هو في غير صالحها.

* إن الدبلوماسية المصرية يجب أن تستمر في السعي لإقناع دول حوض النيل برغبتها في التعامل البناء الإيجابي من أجل تحقيق مصالح الجميع في الشراكة في النهر.. وفي هذا السياق، ينبغي أن تستخدم مصر كل وسائلها السياسية والاقتصادية المتاحة لتحقيق أهدافها.. سواء مع هذه الأطراف.. أو مع الدول المانحة ذات التأثير الرئيسي، إلا أن المهم هو ألا تعطي مصر الانطباع للآخرين بأنه يمكنهم ابتزازها أو تهديد حياتها دون رد ملائم.. وهنا، من الضروري أيضا ألا تفوتنا حقائق الجغرافيا والمناخ التي تفرض ثقلها أساسا على كل هذا الإقليم.. سواء الهضبة الإثيوبية أو الأخرى بوسط القارة.

لقد عالجت في كتابي القادم تجربتي الكاملة في هذا المجال.. من هنا، لا داعي للاستفاضة في معالجة الأمر..

ثانيا: إن مصر لديها التزامات تجاه كل الدول العربية، ليس فقط لتوقيعها ميثاق جامعة الدول العربية، ولكن أيضا لمسؤولياتها التاريخية التي يجب التفاعل معها بحساب دقيق لا يضر بالمصالح المصرية المباشرة.. وأعتقد أنه من المهم أن تمضي مصر في التعبير المستمر عن وقوفها مع شقيقاتها العربيات في الخليج في وجه أي تهديدات.. والدفع نحو تعزيز العلاقات مع كل من ليبيا والسودان.. كما أن على الجميع أن يعي أن التزامات مصر في إطار معاهدة السلام مع إسرائيل لها وضعيتها.. من هنا، فإن تصور قدرة البعض على إخراج مصر من هذه الالتزامات يجب أن يواجه بحسم وصراحة.. إلا إذا كانت الأمور والتطورات غير المرئية الآن تمثل تهديدا ملحا وحقيقيا للمصالح المصرية الاستراتيجية.

وتبقى نقطة أخيرة هنا أيضا.. تتمثل في أهمية أن تأتي المواقف المصرية اتساقا مع ثقل مصر الذي يعترف به الجميع.. وليس ثروات هذا الطرف أو ذاك، سواء على المستوى العربي أو الإقليمي.

ثالثا: إن مصر ينبغي أن تعي وتتابع بدقة حقائق الأوضاع والتطورات الدولية وأن تحسب حسابها بدقة في علاقاتها مع كل القوى والأطراف الدولية.. ولا تحاول أن تلعب لصالح هذا الطرف أو ذاك لتحقيق مصالح هنا أو هناك.. وأن تبقي في نفس الوقت كل خيارات حركتها متاحة ومفتوحة تجاه كل القوى الرئيسية.. فالولايات المتحدة لها أهمية خاصة.. أو يجب أن يكون الأمر كذلك في نظرة مصر إليها.. باعتبار الوضعية الأميركية الظاهرة للجميع على المسرح الدولي والإقليمي الشرق أوسطي وكذلك في تأثيرها على إسرائيل وسياساتها.. كما أن الصين وإن كان يبدو أنها قد أصبحت تحتل الآن المرتبة الثانية في الاقتصاد الدولي.. وبدأت اهتماماتها الاستراتيجية تتجاوز القارة الآسيوية إلى آفاق أخرى في عالم اليوم.. فإنها - أي الصين - تتحسب حتى الآن من لعب دور القطب الآخر.. وفي علاقاتنا بها، يجب أن يكون الحديث فقط يقتصر على المصالح وليس غيرها.. ولا أعتقد أن من المفيد أن نعيد تكرار العلاقة الثلاثية لمصر مع القوتين العظميين في الربع قرن الأول من حياة ثورة يوليو 52.. من هنا، ستكون صداقتنا القوية مع الصين تقوم على مصالح محددة وتفاهمات متفق عليها.

وفي ما يتعلق بروسيا.. فهي قوة لها تأثيرها الدولي الواضح وتستشعر دائما حاجتها لاستعادة دورها وفاعليتها، خاصة وقد تمتعت لفترة خمسة وأربعين عاما بعد الحرب العالمية الثانية بوضعية القطب الآخر بعالم الحرب الباردة.. وما زالت روسيا تتمتع بالمقعد الدائم في مجلس الأمن وحق النقض.. كما أن قدراتها التسليحية والإنتاجية هائلة.. وهي هنا مثلها مثل الصين.. تمثل ملاذا لمصر.

على الجانب الآخر أيضا، يجب ألا يخفى علينا هنا في مصر أو عالمنا العربي المشاكل الضاغطة التي تتعرض لها هاتان الدولتان في علاقاتهما بعضهما مع بعض أو مع القوى الرئيسية الأخرى.. وهي أمور من المهم أن نرصدها ونضعها تحت مجهر المتابعة اللصيقة.

وفي سياق حساب العلاقات مع القوى الكبيرة، اقترب بحذر من الاتحاد الأوروبي الذي، رغم كل الجهود والاتفاقات، لم يصل بعد إلى وضعية تعكس سياسة أمنية وخارجية حقيقية، ينبغي أن يؤخذ في الحسبان بمعزل عن تصرفات وحداته الرئيسية.. ومع ذلك، فإن استمرار تطوير العلاقة مع دول الاتحاد ومفوضيته يجب أن يحظى بالاهتمام المصري المستمر وبخاصة الدول الكبيرة في إطاره.. فرنسا - ألمانيا - المملكة المتحدة - إيطاليا - وإسبانيا.. وسوف تطالب هذه الأطراف بمواقف مصرية محددة وواضحة في مسائل حقوق الإنسان والحريات الدينية.. وعلينا العمل بإيجابية في هذه المجالات.

رابعا: هناك اهتمام مصري تقليدي بأوضاع العلاقات مع دول الشرق الأوسط غير العربية.. وهي تركيا وإيران اللتان يجب أن نعمل معهما على بناء علاقة إيجابية تحقق مصالح كل الأطراف.. إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في هذا المجال هي أداء ومناهج هذين الطرفين في علاقاتهما بنا وتجاه الإقليم ككل.. فإيران - الثورة تقف في مواجهة الغرب.. ولها تهديداتها لدول عربية في الخليج.. كما أن مسارها النووي عليه بعض الشكوك.. وهي كلها نقاط تفرض على مصر أخذها في الحسبان عند تحديد سياستها القادمة تجاه إيران.. والمهم.. في كل الأحوال أن تجري مصر نقاشا متكافئا هادئا مع إيران لتحديد نقاط الالتقاء والعمل على بنائها والأخرى للافتراق وكيف يمكن تطوير المواقف فيها. ويجب الاعتراف هنا بأن بحث هذه الأمور يتجاوز هذه الفقرات المحددة التي يسمح بها هذا المقال اليوم.. إلا أن المهم أن تقرر مصر أن تكون لها سياسة نشطة في التقارب اللصيق مع شقيقاتها العربيات في كل ما يتعلق بشؤونهم الخليجية.. وأن تعتبر نفسها العمق الاستراتيجي لدول مجلس التعاون الخليجي.

أما تركيا اليوم، فالواضح أنها تسعى، وقد نجحت في إقامة قاعدة اقتصادية ضخمة، في العودة للعب دور عثماني قديم.. وهنا، يجب أن نبقى على الرصد والمتابعة المدققة لمناهج هذا الدور ومقاصده.. فتركيا لها بعدها الأطلسي الذي كنا نتحسب منه في السابق.. ولا أعرف ما سوف يكون عليه الحال في المستقبل.. كما أنها تسعى لعضوية الاتحاد الأوروبي.. ولهذا الأمر نتائجه وتأثيراته على كل دول المشرق الرئيسية.. وأخيرا، هناك التنافس التقليدي المكتوم.. وإن كان يتسم بالحدة.. بين تركيا وإيران.. والمهم أن تعمل مصر مع تركيا لتحقيق مصالح اقتصادية واستراتيجية تقوم على التوازن والاحترام المتبادل.

خامسا: دارت على مدى العشرين عاما الأخيرة محاولات لتوسيع عضوية مجلس الأمن.. وحاولت أطراف دولية مهمة الحصول على مقاعد دائمة في هذا المجلس الموسع.. الهند - البرازيل - اليابان - وألمانيا.. وكذلك سعت بعض الدول الأفريقية للحصول على حق تمثيل أفريقيا في هذه المقاعد الدائمة.. ونجحت مصر حتى الآن في إقناع الدول الأفريقية.. أعضاء الاتحاد الأفريقي.. في قبول رؤيتها.. وفي تقديري أن من المهم أن تبقي مصر على هذا النجاح، خاصة أن توسيع عضوية مجلس الأمن وغيابها عن الحصول على أي من المقاعد التي سيتم التوسيع فيها سيضع مصر تحت ضغوط هائلة ولعقود قادمة.. من هنا، يجب دائما استمرار رصد ومتابعة كل التطورات في هذا المجال، ولدى الدبلوماسية المصرية تجربة ممتدة ومعلومات كاملة عن هذا الملف الحساس والمهم.. من ناحية أخرى، فإن الاهتمام بهذا الموضوع يجب ألا يعقّد العلاقات مع هذه الأطراف الدولية الطامحة، التي علينا أن نعمل بكل قوة لتطوير العلاقات معها وغيرها من قوى بازغة.. وهنا أتحدث عن اليابان - البرازيل - المكسيك - جنوب أفريقيا وغيرها.. كما أن من المهم أن تستمر الدبلوماسية المصرية في إعطاء الاهتمام الواجب لتوسيع إطارات العمل المصري في اتجاه كل التجمعات والمحاور الدولية التي من خلالها يمكن تأكيد فاعلية الدور المصري، سواء على مستوى الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية وغيرها.

سادسا: يوجد لمصر ملايين من المصريين يقيمون خارج الوطن.. إما بشكل مستديم أو مؤقت، وأجد أن هناك أولوية لرعاية شؤونهم وتقديم الخدمات المطلوبة لهم حماية لذواتهم وأسرهم ومستقبلهم على أراضي الدول الأجنبية.. من هنا، تبرز أهمية تنبه المشرع المصري إلى إنشاء هيئة أو هيئات لتقديم خدمات مقابل اشتراك مالي أو من دونه.. خدمات لا يحصل عليها المواطن الآن.. مع التنبه بطبيعة الحال إلى الحاجة لإنفاق.. ربما باهظ.. كما يجب أن يتم تسكين البعثات المصرية التي ترعى شؤون هؤلاء المصريين بالخارج بأصلح العناصر الدبلوماسية والإدارية المصرية.

سابعا: وأعود إلى أسلوب إدارة السياسة الخارجية المصرية في عهد الجمهورية الثانية.. فهي يجب ألا تخضع لتأثيرات حزب أو تيار واحد مهما كان حجم التأثير الذي يحظى عليه داخليا.. بل يجب السعي من أجل إجراء نقاش مجتمعي عريض لكل القضايا الرئيسية المطروحة للتوصل إلى تفاهم حول الخيارات المتاحة.. وهنا، أتناول عدة مسائل مهمة وهي:

* ضرورة تحسين آلية اتخاذ القرار على المستوى الرئاسي.. بافتراض أن الدستور المصري القادم سينص على جمهورية رئاسية، للرئيس سلطات واضحة وكبيرة في إدارة السياسة الخارجية بأبعادها الدبلوماسية والعسكرية والأمنية.

وهنا، فإن المقترح هو تعيين مستشار أمن قومي، يعمل لتنسيق المواقف بين كل الأجهزة العاملة في حقل السياسة الخارجية في كافة عناصرها.. وأن يشغل في نفس الوقت منصب أمين عام مجلس الأمن القومي.. وهناك الكثير مما يمكن أن يكتب في هذا المجال.. ويمكن دراسة مناهج دول كثيرة لديها تنظيم مماثل للفكرة.

> أن المستقبل يجب ألا يقتصر على رفع كفاءة وتحسين أداء إدارة السياسة الخارجية.. ولكن، أن يكون هناك اعتراف وتقدير بأن إتاحة الموارد المناسبة.. هو المفتاح الحقيقي للنجاح أو الفشل في تنفيذ الأهداف السياسية التي يجب أن تتسم بالواقعية.. لقد تحركت تركيا خلال الأعوام الثمانية أو العشرة الأخيرة بعد أن أتيحت لها قاعدة اقتصادية وتجارية قوية شجعتها على الانطلاق إلى الخارج لتحقيق مكاسب تجارية واقتصادية.. قبل البحث عن مجرد الدور الذي يجب أن يكون له عائد مالي مباشر يحقق مصالح البلاد.

لقد وقفت إيران تتصدى للخصوم على مدى عمر الثورة الإيرانية.. وقد يكون لها حقها في مواقفها، إذ لا أناقش هنا ما لها وما عليها.. ولكن، يجب أن نتبين حجم ما أنفق من ثروة.. وما كان لها أن تحققه للمجتمع والمواطن الإيراني.. ولنا في ذلك الموقف.. تجربة الصين التي نجحت في الفترة من 1979 وحتى اليوم في أن تحقق ما أنجزه العالم الغربي في مائتي عام من التطور الصناعي والتكنولوجي.. وأعود إلى التجربة المصرية.. وأقول.. على سبيل المثال.. بالنسبة لأفريقيا.. إن مناهج مصر نحو القارة قد اختلفت سواء بعد هزيمة 67 أو في ضوء التطور الذي دخل هذه المجتمعات الأفريقية بعد عقود من تحقيق الاستقلال.. وقد كان لمصر تأثيرها ودورها عندئذ.. والمؤكد اليوم أن الإمكانيات والموارد المصرية المتاحة لا تمكنها من أن تحقق الآمال التي يضعها المصريون على سياستهم الأفريقية وتحقيقها الدور المصري على مستوى القارة.. ومع ذلك، يجب استمرار بذل الجهد وزيادة المتاح لبرامج التعاون، مع التنبه إلى أن المسؤولية الضاغطة هي تجاه المواطن المصري داخليا، قبل أن يستشعر الزهو بأن لبلاده برامج للتعاون والمساعدة بعشرات أو مئات الملايين من الدولارات التي تنفق بالقارة.. يجب التركيز على التجارة، وشحذ همة الصناعة والاقتصاد المصري للعمل على مستوى القارة للكسب المشترك.. والجميع يفعل ذلك.. كما أن من المهم تنفيذ برنامج مدروس للاستثمارات المصرية تجاه دول محددة، لها أهميتها ومحوريتها في التفكير المصري على مستوى القارة، وبما يحقق لمصر مزايا ومكاسب ويؤمّن لهذه الدول المتلقية للاستثمارات مصالحها.. كما يجب أن تكون هناك مساهمات واضحة من قبل كل مراكز البحث وهيئات المجتمع المدني المصري للمساعدة في تحقيق أهداف الدولة المصرية.

* من الضروري أن تستمر الأجهزة المصرية، وفي مقدمتها الخارجية - المخابرات - التجارة الخارجية – في العمل على تجنيد أصلح العناصر والإبقاء على برامج تدريب صارمة وتشجيع المنافسة بينها لشغل المناصب في البعثات المصرية والمكاتب وديوان عام كل هذه الأجهزة بالقاهرة.. والمهم في الجمهورية الثانية أن ننجح في وضع سياسات للتحفيز للأفراد، للعمل في مواقع صعبة يصمِّمون حاليا على الابتعاد عنها.. كما يجب أن يحرم إطلاقا إجراء أي تعيينات سياسية للعمل في كل أجهزة الأمن القومي والسياسة الخارجية.. بل إن تبقى التعيينات والتجنيد خاضعين تماما لمسألة عقد الامتحانات.. والتمسك بصرامة النتائج، ولنا في نهج وزارة الخارجية المصرية وغيرها من أجهزة عاملة في هذا الحقل، الكثير من المواقف البراقة..

ويبقى القول إن هناك الكثير مما يمكن أن يقال أو يكتب في موضوع السياسة الخارجية للجمهورية الثانية، وسوف يحاول البعض طرح رؤى وفلسفات وتنظير المواقف... إلا أن الأمر المهم هو عدم السماح للآيديولوجية بأن تفرض ثقلها على المصالح المصرية المستقرة طبقا لتجارب ممتدة تتجاوز مائتي عام من الدولة المصرية الحديثة... كما يبقى القول إن الموضوع عريض وعميق... فالسياسة الخارجية هي بالضرورة جزء أصيل من منظومة المصالح المصرية العليا وأمن البلاد القومي.. وقد يكون هناك عودة لتناول المزيد من النقاش بشأنها.

* وزير خارجية مصر الأسبق