ناشط سوري مطارد يبدأ العمل من جديد في واشنطن

عمل بمساعدة أميركية لمدة 8 أشهر لإنجاز مشروع «اليوم التالي» لما بعد الإطاحة بالأسد

TT

في يوم الخميس الماضي التقى رامي نخلة بعضا من أصدقائه بعد العمل بأحد أفرع مقهى «ستاربكس» في دوبونت سيركل (ميدان حيوي بشمال غربي العاصمة الأميركية واشنطن). جلسوا بالخارج، بينما انعكست أشعة الشمس على مبنى زجاجي وأضاءت وجوههم.

على مدار أشهر، كان نخلة وأصدقاؤه، المعارضون السوريون الذين فروا هاربين من بطش نظام بشار الأسد في العام الماضي، قد عاشوا بعيدا عن الأنظار في الظلام. والآن، أثار لقاؤهم علنا في مقهى في واشنطن مزيجا من المشاعر: الدهشة والراحة ووخز الضمير لدى الناجي لعيشه آمنا، في الوقت الذي لا يزال فيه كثيرون معرضين للخطر.

«إذا فعلت أي شيء تعود منه فائدة عليك، يخالجك شعور بالذنب... لديك كثير من الأشياء الأخرى التي تحتاج إلى القيام بها»، هكذا تحدث نخلة، 29 عاما، وهو لاجئ سياسي يعمل كمتخصص برمجي في معهد السلام الأميركي. حتى العام الماضي، كان طالبا متخصصا في العلوم السياسية يعيش في منطقة خاصة بالعلويين في دمشق.

بالنسبة للكثير من اللاجئين الذين يأتون إلى الولايات المتحدة تتوقف مشاركتهم السياسية، نظرا لأنهم يفقدون الاتصال بالوطن ويكافحون من أجل كسب قوت يومهم. غير أن واشنطن، بما تضمه من مراكز بحثية ومجتمعات من المغتربين الذين ينهضون بأدوار سياسية، توفر مزيدا من الفرص للمشاركة لأفراد مثل نخلة، الذي ما زال مهموما بالحرب الدائرة في سوريا.

على مدار ثمانية أشهر، تحت رعاية المعهد، عكف نخلة على إنشاء مشروع «اليوم التالي»، وهي منظمة غير حكومية تربط بين المنشقين السوريين عبر أنحاء العالم من أجل وضع مخطط لما يجب أن يحدث بعد الإطاحة بالأسد. يأتي الجزء الأكبر من تمويل المنظمة غير الحكومية من وزارة الخارجية، فضلا عن تمويل إضافي من بعض الحكومات الأوروبية والمنظمات غير الحكومية الأخرى.

كشف نخلة، وآخرون ضمن مجلس إدارة المنظمة التي تضم 50 عضوا، عن خطة تتألف من 130 صفحة يوم الثلاثاء في مؤتمر صحافي عقد في برلين، حيث كانت تعقد اجتماعات المجموعة (يعيش كثير من أعضائها في الشرق الأوسط أو أوروبا). تقدم الخطة مقترحات حول كيفية مخاطبة قضايا عادة ما تلعب دورا رئيسيا في انهيار نظام، مثل التعامل مع الجماعات المسلحة وإعادة هيكلة الاقتصاد وإصلاح القطاع الأمني. إنه نوع الظهور العام الذي كان مستحيلا الصيف الماضي، وقتما كان نخلة مختبئا في بيروت. كان وكلاء الاستخبارات السوريون يجوبون المدينة بحثا عنه ويهددون - عبر البريد الإلكتروني وموقعي التواصل الاجتماعي «تويتر» و«فيس بوك» - بقتله.

لقد أصبح طالب العلوم السياسية بجامعة دمشق، الذي نزح عبر الحدود قبيل اندلاع الانتفاضة السورية مباشرة، واحدا من أشهر داعمي الثورة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال نشاطه المحموم في جمع مقاطع فيديو وتغريدات وتحديثات من موقع «سكايب» من متظاهرين ونشرها للعالم الخارجي. وقد عاش على النيكوتين والكافيين وأخذ يتنقل من شقة إلى أخرى، بحسب رواية نشطاء زملاء له ومحرر بصحيفة «واشنطن بوست» زاره في تلك الفترة.

وقد تم اعتقال أصدقائه من النشطاء واحدا تلو الآخر. وفي أغسطس (آب) الماضي، تم إخطاره بأن عملاء للنظام السوري على مقربة. وأجرى اتصالا بمكتب المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حيث كان قد تقدم بطلب لجوء سياسي، فقام بتهريبه سرا من لبنان.

كان انتقال نخلة للعيش في الولايات المتحدة غير متوقع. في البداية، يقول: «بدا الأمر بالفعل أشبه بكارثة أخرى – على غرار مغادرة سوريا – ما الذي أفعله هنا؟ كان الشيء الوحيد الذي يبث في شعورا بالسعادة الجمة بحق هو أن سرعة الإنترنت فائقة جدا هنا».

لكنه سرعان ما أدرك أنه في واشنطن «ليس بوسعك أن تفعل أي شيء ما لم يتوفر لديك دخل». اشتبك مع صديق له في روكفيل وتلقى بعض التبرعات من منظمات المنشقين السوريين، لكن هذا لم يكن كافيا للعيش. أمضى أربعة أيام في المستشفى جراء إصابته بمرض رئوي حاد، وكان ذلك نتيجة سوء التغذية والضغوط المفرطة. بعدها، تلقى مكالمة من ستيف هايدمان، كبير مستشاري المبادرات الشرق أوسطية بالمعهد، الذي كان التقى به في بيروت وتأثر لحاله كثيرا.

«حينما سمعت أنه في واشنطن اعتقدت أنه سيكون الشخص المثالي للمعهد»، هذا ما قاله هايدمان، الذي انضم إلى نخلة في برلين هذا الأسبوع لتدشين المنظمة غير الحكومية. وأضاف: «نضجه السياسي وحنكته ومدى فهمه لأهمية بناء شيء. هنا، كان هذا الرجل الشاب الذي لديه ذلك الفهم الراسخ للمقومات المطلوبة لقيام حركة».

رحب نخلة بالتحول من رابط تكنولوجي إلى رابط آيديولوجي. يقول: «أنا ناشط سياسي... لست مجرد خبير في شبكات التواصل الاجتماعي».

وقال نخلة إنه منذ أن أتى إلى الولايات المتحدة، سافر إلى كاليفورنيا لمقابلة مسؤولين بموقعي «تويتر» و«فيس بوك» ليشرح لهم كيف يمكنهم إنقاذ أرواح بتشديد الإجراءات الأمنية على مواقع الإنترنت. غير أن معظم تركيزه كان منصبا على مشروع «اليوم التالي»، الذي يشمل في أعضائه فلاسفة بارزين وزعماء دينيين ونشطاء. وهم يمثلون الأطياف السياسية المتعددة في سوريا والتي تضم العلمانيين وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين والأقليات العرقية، مثل العلويين والدروز. «لدينا أفراد يتحدثون عبر الطاولة لم يكن متاحا لهم من قبل الحديث بعضهم إلى بعض»، هكذا قال نخلة، الذي ينتمي إلى السويداء وينحدر من طائفة الدروز.

يقر نخلة بخطر عدم الظهور بمظهر الشرعية بالنسبة للسوريين أصحاب عقلية نظرية المؤامرة، نظرا لأن المنظمة غير الحكومية تمول من قبل وزارة الخارجية وحكومات غربية أخرى. وقال إنه أيضا كانت تخالجه مخاوف مماثلة في البداية مفادها أنه يتم استغلالهم من جانب تلك الهيئات والحكومات الأجنبية، لكنه غير رأيه بعد أن بدأ حملة لجمع التبرعات عبر الإنترنت لمد يد العون للأسر السورية. «خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى، كنت في حالة من الدهشة الشديدة. كل من أعرفهم في وزارة الخارجية والأفراد الذين يبذلون جهودا في ما يتعلق بشأن سوريا، يقدمون تبرعات – 100 دولار و200 دولار و300 دولار من أموالهم الخاصة – في الوقت الذي لم يكن فيه قادة المجتمع السوري يقومون بذلك. أدركت أن بإمكانك الوثوق في هؤلاء الأفراد. إنهم يسعون إلى ما يصب في صالح بلدنا».

لكن لا يتفق أفراد المجموعة في الرأي في جميع الأمور، إلا أنهم متحدون في اعتقادهم بأن التخطيط المسبق يمكن أن يقضي على بعض النزاعات التي تنشأ عندما يتم الإطاحة بنظام ديكتاتوري، النزاع الذي قد بدأ بالفعل في تقويض أهداف الربيع العربي في سوريا.

«بالفعل، ما اعتبرناه حلما طوال حياتنا قد بدأ يتحول إلى كابوس، فمع الطائفية وتنظيم القاعدة بدأت الانتفاضة تصبح أكثر عنفا»، هذا ما قاله نخلة وهو يجلس في الفناء المرتفع للمعهد مرتديا المعطف الداكن وقميص أكسفورد الأزرق الذي يطلق عليه بسخرية اسم «زي واشنطن الموحد».

«الشعب السوري بالفعل ليس لديه أي خبرة أو أي مقومات لازمة لتنفيذ خطة تحول»، هذا ما قاله، مشيرا إلى أن أكثر من 15 منظمة للمنشقين السوريين قد انبثقت في الولايات المتحدة منذ اندلاع الثورة، لكن قلما نجد أيا من أعضائها قد لعب دورا سياسيا حقيقيا داخل سوريا.

وأشار نخلة إلى أن محاولاته توحيد الجماعات معا قد عجزت عن تحقيق التأثير المرجو. وقال: «لديهم خوف من أنهم إذا ما اندمجوا معا فسوف يفقدون سلطتهم».

ولأجل تفادي المشاحنات الشخصية، تركز المنظمة على ما يطلق عليه نخلة اسم التخطيط التقني في قطاعات مثل الأمن والإصلاح وسيادة القانون. يقول: «لقد أوضحنا جليا أن المسألة ليست سياسية.. نحن لا نسعى إلى أن نملي على الحكومة الانتقالية السورية ما يتعين عليها أن تفعله. لكننا نرغب في أن نكون على يقين من أننا نبدأ النقاش في المجتمع السوري حول الشكل الذي قد يبدو عليه التحول».

ولكي يكون إلى جوار المنشقين الذين وصلوا للتو من سوريا، يخطط نخلة للانتقال إلى إسطنبول هذا الخريف لافتتاح شبكة لدعم التحول في سوريا، تحت رعاية المعهد. وفضلا عن ذلك، ستكون هذه بمثابة عودة غير رسمية له إلى الأضواء.

«كان الناس يخاطبونني قائلين: أين أنت؟ ما الذي كنت تفعله؟ أعتقد أنني مستعد لأن أعود وأقول: أيها الرفاق، هذا ما كنت أفعله طيلة الأشهر الثمانية الماضية».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»