سكان لويزيانا متمسكون بأرض آبائهم.. على الرغم من الكوارث

8 ساعات في نهر المسيسبي لمشاهدة الدمار الذي خلفه «إسحق»

رحلة كوبر عبر نهر المسيسيبي (نيويورك تايمز)
TT

كانت الأضواء الوحيدة في مرفأ فينس، ضوء القمر المكتمل وأضواء ميس مارلا كاي قارب صيد القريدس الذي يملكه آسي كوبر، أحد القوارب الصغيرة التي أبحرت ثماني ساعات في نهر المسيسبي يوم الجمعة. تمكن كوبر ورفاقه من صائدي القريدس من النجاة من إعصار «إسحق» على متن قاربهم خارج نيو أورليانز. كان وصولهم إلى فينس المرة الأولى التي يعودون فيها إلى البلدة بعد انتهاء الإعصار، ليضاعفوا حجم عدد سكان البلدة تقريبا، إذا لم يتبقَ من سكانها، الذين يبلغ تعدادهم بضع مئات، سوى بضعة أشخاص، حيث انتقل معظم السكان إلى مناطق أخرى.

كشف صباح يوم السبت عن بلدة خاوية إلى حد بعيد، لكنها منظمة، رسا قارب القريدس إلى جانب الطريق، وكانت البراميل الصلب الضخمة متناثرة مثل مكعبات البناء في لعب الأطفال. وكانت أعمدة الهواتف مائلة إلى الأرض حتى إن راكبي ظهور الشاحنات كان عليهم أن يتفادوها.

ويقول كوبر: «الماء يمنح، ويسلب، هكذا تسير الأمور لكنه لا توجد ضرورة كي يحدث ذلك كثيرا».

تقع بلدة فينس في أطراف مقاطعة بلاكومينيز باريش، أراضي المستنقعات التي تمتد من جنوب شرقي ولاية لويزيانا التي شهدت بداية الإعصار وكانت مسرحا لأكثر مشاهد الدمار الذي خلفه. فقد فاضت المياه من السدود وغمرت مجتمعات بأكملها، لتقطع السبل عن عشرات الأفراد في المنازل، ويغرق آخرون في منازلهم، واقتلعت شواهد القبور، وقسمت المنطقة إلى نصفين، وفصلت التجمعات في ثاوث بلاكيومينيز مثل فينس عن بقية لويزيانا. وفي بيلي تشيس، أكبر مدن بلاكومينيز باريش، حيث يوجد مقر حكومة المقاطعة الواقعة في النطاق الحضري الممتدة خارج نيو أورليانز تجمع الركاب النازحون من المقاطعة لاستقلال الحافلات في رحلة تمتد لست ساعات بعيدا عن منازلهم إلى شريفبورت.

وقفت آلين بارثلمي، 53 عاما، تراقبهم وهي تخطط للعثور على فندق كي تتمكن من العودة إلى منزلها في مجتمع بلاكيومينيز الصغير في فونيكس على الضفة الشرقية للنهر ما إن يفتح الطريق.

وقالت: «يمكنك أن تصفني بالمجنونة، فأنا لا أرغب في الذهاب إلى أي مكان آخر، وإن تكرر ذلك مائة مرة، فلن أبرح المقاطعة».

ولدت بارثلمي وتربت هنا مثل أسلافها، وتقول: «أتعلم لماذا هذا العناد لقد اعتدت على المساحات الشاسعة والحيوانات، هكذا نشأت. إنه الريف وإيقاع الحياة البطيء والألفة، إنها تستحق المخاطرة».

خلال السنوات الأخيرة لم تشهد بلدة بلوكومينيز شيئا سوى المشكلات، ففي عام 2005 ضرب إعصار كاثرين ولاية لويزيانا خارج فينس تاركا فيضانات بعمق عشرة أقدام. عاد كوبر بعد ذلك بقليل ونقل قاربه إلى الضفة الأخرى من النهر لكنه سرعان ما ترك البلدة مع اقتراب إعصار ريتا من المنطقة. بعد انتهاء إعصار ريتا عاد ثانية ونام على قاربه وعاود صيد القريدس، وفي النهاية أحضر عائلته وعاشوا هنا لشهور بعيدا عن خطوط إمداد الكهرباء. وبعد أقل من ثلاث سنوات جاء دور إعصار جوستاف.

لكن الأفراد هنا اعتادوا على العواصف، لكن لا يمكن لأي منها أن يقارن بذلك القلق الذي واكب التسرب النفطي في منصة حفر شركة «بريتش بتروليم» في عام 2010، عندما اعتقد البعض أن الحياة في المنطقة باتت مستحيلة. حتى اليوم لا يزال صائدو القريدس يتبادلون الحديث عبر اللاسلكي بشأن المحامين والتسويات وما إذا كانت الأسماك غريبة الشكل نوعا من الطفرات أم أنها إحدى النتائج غير المعروفة لكارثة التسرب النفطي. تعيش أغلب العائلات هنا في بلاكومينيز منذ عقود وتعمل في مهن مختلفة مثل تربية الأبقار وصيد القريدس والمحار أو إدارة خدمة القوارب لصناعة النفط. وإلى جانب والده، الذي يعمل هو الآخر في صيد القريدس، عمل كوبر لشهر ونصف في إزالة البقعة النفطية.

لكن مزايا الاستقلالية والانعزالية التي تتميز بها جعلت السكان هنا يتحولون إلى العدوان سريعا كتغير الطقس.

ففي أكثر مناطق بلاكومينيز التي شهدت أسوأ الفيضانات تم حفر ثقوب في السدود حتى يمكن لمياه الفيضانات أن تتسرب عندما ينحسر المد. لكن تلك عملية معقدة وقد تتطلب عدة أيام. كما ستتطلب عودة الطاقة وقتا أطول فخطوط الطاقة الرئيسية التي تمر في المستنقع وعلى الطرق الرئيسة لا تزال مغمورة بالمياه. ويقول أحد صائدي القريدس إنه يتوقع عودة الكهرباء بحلول الكريسماس.

خلال رحلة كوبر عبر نهر المسيسبي، كانت هناك إشارات كل بضعة أميال لما حدث الأسبوع الماضي، فمن قطعان الماشية التي تقطعت بها السبل إلى قارب جانح، ورائحة الحيوانات النافقة وبحر الوحل الذي ابتلع المنازل والحظائر والشاحنات والماشية التي كان الطين يغمره بعضها تقريبا.

إنها رحلة طويلة، فتمتد بلوكومبيز خارج اليابسة إلى الخليج مثل الذراع، ويجري نهر المسيسبي في وسطها ممتدا من بيل بيلي تشايس إلى الأصابع الضيقة المفلطحة حيث ينتهي النهر. وتقع فينس أسفل الرسغ بقليل.

فيضان إيزاك الذي غمرت مياهه المناطق الواقعة بين السدود التي أنشأها الأهالي على الخليج وتلك التي بنتها السلطات الفيدرالية على نهر المسيسبي كانت أكثر تأثيرا في بريثوايت، الواقعة على الضفة الشرقية من النهر، وحول بلدة بوينت آ لا هاتشي في الغرب، ولم يعد هناك طريق للوصول إلى فينس، سوى القارب.

تحدث كوبر عن المدة التي ستقضيها عائلته هناك، أو كم سيعيش سكان فينس هنا. فخلال السنوات الثمانين الماضية ذاب جزء كبير من جنوب لويزيانا، بحجم مقاطعة ديلوير في الخليج، حيث قطعت المستنقع قنوات خالية من الرواسب المجددة نتيجة السدود التي أقيمت على النهر وتأكل أجزاء كبيرة خلال الإعصار.

تزايد تأكل ذراع بلاكومينيز الطويلة في الخليج خلال السنوات الأخيرة، فالخريطة التي يبحر كوبر على أساسها رسمت عام 1983، وعادة ما يبحر في مناطق تبدو خضراء على الخريطة، وهو ما يعني أن المياه التي يتجول فيها كانت أراضي خضراء حتى وقت ليس بالبعيد، لأن هذه الأراضي لا تحظى بحماية من الفيضانات، السبب في ذلك أن المنطقة تقع خارج النظام الفيدرالي للحماية من الفيضانات الذي بني لحماية نيو أورليانز ومناطق أخرى من جنوب لويزيانا.

قضى صائدو القريدس الليل على متن قواربهم في المرفأ المظلم، وبعد شروق شمس يوم السبت عاد كوبر للاطمئنان على أسرته التي تعيش في مقطورة، فقد كان للأسرة منزل لكن كم سيمكث المنزل؟ ست أو سبع سنوات قبل أن تجرفه السيول مرة أخرى.

على الطريق كان عدد من الرجال يتبادلون الأخبار من نوافذ شاحناتهم بشأن تضرر مرفأ سيبرس كوف وحوض دين بلانكار لإصلاح السفن بشدة. ووجد كوبر شاحنته التي غمرتها المياه، لكن منزله لم يكن في وضع سيئ. كانت المياه قد اقتلعت الأشجار وقلب القارب في الباحة ووجد المجمد المليء باللحم متوقفا عن العمل وعلى وشك التداعي، لكن لم تبدُ عليه علامات الغضب فهذا هو بيته.

* خدمة «نيويورك تايمز»