رئيس وزراء الهند الخجول يتحول إلى شخصية دراماتيكية

ساعد في وضع بلاده على طريق الازدهار والحداثة والقوة.. على الرغم من نعته بالفشل

رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ مهندس الإصلاحات الاقتصادية (واشنطن بوست)
TT

ساعد رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ في وضع بلاده على طريق الازدهار والحداثة والقوة، ولكن منتقديه يؤكدون أن التاريخ ربما يذكر هذا الرجل الخجول معسول الكلام الذي يبلغ من العمر 79 عاما على أنه شخص فاشل.

كان سينغ، مهندس الإصلاحات الاقتصادية في الهند، القوة الدافعة وراء التقارب بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن الاحترام الذي يحظى به على الساحة الدولية؛ حيث اعتاد مساعدو الرئيس الأميركي باراك أوباما على التباهي بعلاقات الصداقة الوثيقة والكبيرة التي تربطهم بسينغ.

ولكن صورة هذا الشخص التكنوقراطي الدقيق الشريف المتواضع والمثقف آخذة الآن في التغير لتفسح الطريق أمام صورة أخرى مختلفة تماما لشخص متردد وغير فعال وبيروقراطي يترأس حكومة ينخر الفساد في أوصالها.

ففي الأسبوعين الماضيين، تم تأجيل جلسات البرلمان الهندي نظرا لمطالبات المعارضة لسينغ بتقديم استقالته على خلفية مزاعم بإهدار الأموال العامة والفساد الذي شاب عملية تخصيص امتيازات مناجم الفحم.

لقد جاء سقوط سينغ الدراماتيكي خلال فترة ولايته الثانية والتشويه البطيء والمستمر لسمعته بالتوازي مع تراجع البلاد في عهده؛ حيث تباطأ نمو الاقتصاد وأصبح يكتسي بسمعة استشراء الفساد، مما أثار كثيرا من الشكوك حول كون البلاد على الطريق الصحيح حقا لتصبح قوة عالمية.

يقول المؤرخ السياسي راماشاندرا غوها، «لقد أصبح شخصية مأساوية في تاريخنا بصورة متزايدة»، مضيفا أن سينغ أصبح رجلا عاجزا بصورة كبيرة نظرا لما يتمتع به من «الجبن واللامبالاة وعدم الأمانة الفكرية».

تكمن المفارقة هنا في أن أهم النقاط التي يتميز بها سينغ - ألا وهي الاستقامة والخبرة الاقتصادية - قد أصبحت هي نفسها أوجه الإخفاقات الحالية لحكومته.

ففي عهد سينغ، تعثرت الإصلاحات الاقتصادية وتباطأ النمو بصورة كبيرة وانهارت الروبية الهندية، ولكن الاتهام الأهم الذي يدمر سمعته هو التزامه بالصمت وغض الطرف في الوقت الذي يقوم فيه رفقاؤه في الوزارة بملء جيوبهم الخاصة.

أكد سانغايا بارو، المستشار الإعلامي لسينغ خلال فترة ولايته الأولى، أن هذه الاتهامات قد حولته من شخص يحظى باحترام كبير إلى شخص موضع سخرية ويمر بأسوأ فترات حياته.

يداعب الحضور في الاجتماعات والمؤتمرات بعضهم البعض بالقول إنه يتوجب عليهم تحويل هواتفهم إلى «وضعية مانموهان سينغ» (الصامتة)، بينما تقول إحدى النكات إن طبيب الأسنان قال لرئيس الوزراء، «على الأقل في عيادتي ينبغي عليك فتح فمك من فضلك». وأخيرا، فتح سينغ فمه في الأسبوع الماضي لدحض اتهامات مراجعي الحسابات الحكومية الخاصة بحرمان الخزانة العامة من مليارات الدولارات عقب منح امتيازات مناجم الفحم للشركات الخاصة لقاء أموال زهيدة، بما في ذلك الأعوام الخمس التي كان يشغل فيها سينغ منصب وزير الفحم إلى جانب رئاسة الوزراء.

نفى سينغ وجود «أي مخالفات»، ولكنه قوبل بسيل من صرخات الاستهجان أثناء إلقائه خطابا في البرلمان حول هذا الأمر، فضلا عن أن بيانه الموجز الذي أصدره لوسائل الإعلام لم يفعل كثيرا لتغيير تلك الانطباعات عن الرجل الذي تحولت صفة الانطواء التي يتمتع بها من نعمة إلى نقمة.

قال سينغ، «كنت أحاول دائما عدم الرد على الانتقادات ذات الدوافع الشخصية الموجهة لي»، مضيفا: «لقد كان موقفي العام هو أن صمتي أبلغ من ألف رد؛ حيث إن ذلك يحمي الشرف من الأسئلة التي لا حصر لها».

من المتوقع أن ينجو سينغ من الدعوات التي تطالبه بتقديم استقالته، ولكن هذه الفضيحة ستمثل نقطة سوداء في سمعته التي ظلت سليمة لأكثر من عام.

ولد سينغ في عام 1932 لتاجر بسيط في قرية تقع الآن في باكستان. اعتاد سينغ المشي لأميال طويلة إلى المدرسة كل يوم والمذاكرة على ضوء مصباح كيروسين. انتقلت العائلة إلى الهند قبل وقت قليل من تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947، وهناك ناشد سينغ والده أن يسمح له بالاستمرار في الدراسة بدلا من الانضمام إليه في تجارة الفاكهة المجففة.

حصل سينغ على كثير من المنح الدراسية التي مكنته من الاستمرار في الدراسة؛ حيث حصل على منحة في جامعة كمبردج ثم في أكسفورد، التي أكمل فيها رسالة الدكتوراه. تزوج سينغ من غورشاران كاور في عام 1958 وأنجب منها ثلاث بنات.

يتمتع سينغ بحياة مهنية ناجحة، ولكن لم يدخل إلى دائرة الضوء حتى عام 1991، عندما تم تعيينه وزيرا للمالية في خضم الأزمة المالية.

وحيث إنه لم يكن لديه كثير من الخيارات، قدم سينغ سلسلة من السياسات التي أدت إلى تحرير الاقتصاد الهندي من سيطرة الدولة الخانقة ورسم أساليب عمل القطاع الخاص.

وفي عام 2004، وجد سينغ نفسه في وسط دائرة الضوء؛ حيث أصبح على حد قوله «رئيس وزراء بالصدفة».

فاجأ حزب المؤتمر الوطني الهندي، بقيادة سونيا غاندي الإيطالية المولد، الجميع بالفوز في الانتخابات التشريعية في البلاد، ولكنه زاد من دهشة الناس حين تنازل عن منصب رئيس الوزراء لسينغ.

لم تر غاندي في سينغ الشخصية المثالية لرئاسة حكومتها فقط، وإنما أيضا رجل يتمتع بولاء كبير وشخص تستطيع الثقة والتحكم فيه في آن واحد. ومنذ البداية، كان من الواضح أن سونيا غاندي هي من يمتلك كل مقاليد السلطة في الحكومة.

صرح سينغ للمذيع تشارلي روز في عام 2006: «كنت شخصا صغيرا تم وضعه في هذا الكرسي الكبير. أنا أقوم بواجبي أيا كان هذا الواجب الملقى على عاتقي».

لفت سينغ الأنظار إليه بشدة في فترة ولايته الأولى؛ حيث وقف في وجه المعارضين، سواء من الائتلاف الحاكم أو من داخل حزبه، لتمرير صفقة التعاون النووي السلمي مع الولايات المتحدة الأميركية عام 2008، وهي الاتفاقية التاريخية التي أنهت عزلة الهند النووية بعد قيامها بإجراء اختبارات نووية بين عامي 1974 و1998.

وعلى الرغم من أن هذا التعاون النووي لم يثمر عن إنتاج الكهرباء بعد، إلا أنه كان خطوة مهمة إلى الأمام في العلاقات الهندية - الأميركية.

فاز الائتلاف الذي يقوده حزب المؤتمر بالانتخابات التي جرت في عام 2009؛ حيث رأي كثير من الناس أن منصب رئيس الوزراء ذاهب لا محالة إلى سينغ.

يقول توشار بودار، العضو المنتدب لمصرف «غولدمان ساكس» في مومباي، إن انتخابات 2009، «كانت نصرا له، ولكنه لم يتقدم لتولي المنصب، ربما لكونه أكاديميا أكثر من اللازم أو لكونه طاعنا في السن. لقد كان الافتقار إلى القيادة وغياب الجرأة والإرادة هما ما صدمنا حقا. تسبب هذا في صدمة المستثمرين الأجانب أيضا»، مضيفا: «إنه يعاني الشكوك». وفي سلسلة من المحادثات غير المدونة في السجلات، رسم الأصدقاء والزملاء صورة لرجل يشعر بأن حزبه دمره، رجل غارق في الاكتئاب والشفقة على الذات.

أدت المحاولة التي قام بها منفردا عام 1999 في الترشح للانتخابات البرلمانية عن دائرة انتخابية في نيودلهي من المفترض أن تكون آمنة إلى تلقيه هزيمة مخزية، وهو ما جعله رئيس الوزراء الوحيد الذي يفشل في الفوز بمقعد برلماني في الهند، مما أدى إلى زيادة تقويض ثقته بنفسه ومكانته في نظر الحزب، حسبما أكد أصدقاؤه وزملاؤه.

يقول بعض الأشخاص المطلعين على بواطن الأمور إن حزب المؤتمر لم يقبل أبدا استمرار سينغ في منصبه بعد انتخابات 2009؛ حيث شعر بنوع من الغيرة من أن يصبح على نفس درجة الأهمية التي يحظى بها غاندي. وفي هذا الوقت، كان يتم إعداد راهول، نجل سونيا غاندي، ليحل مكان سينغ.

وسرعان ما تلقى راهول انتقادات علنية من حزبه بشأن محاولاته الاستمرار في عملية السلام مع باكستان على الرغم من الهجمات التي شنها متشددون باكستانيون في مومباي عام 2008.

يقول غوها إن سينغ لن يدخل التاريخ فقط باعتباره أول رئيس وزراء في الهند ينتمي إلى طائفة السيخ أو ثالث أطول رئيس وزراء بقاء في المنصب، وإنما أيضا باعتباره الشخص الذي لم يعرف متى يتقاعد.

* خدمة «واشنطن بوست».

ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»