مدارس سوريا «الباقية».. بين ثكنات عسكرية في المناطق الساخنة ومراكز لجوء في الباردة

الدراسة صارت آخر أحلام التلاميذ وأسرهم

بقايا قذيفة في فناء إحدى المدارس («الشرق الأوسط»)
TT

«أين يجب أن يقف القناص؟».. سؤال اختلف على إجابته طفلان شقيقان كانا يلهوان، فقاما برسم مدرسة، وقام أحدهما برسم قناص على سطح المدرسة، بينما أراد الثاني أن يكون في الطابق العلوي، ولما لم يتفقا واشتبكا بالأيدي تدخل الأب لفك الاشتباك، ووقف مذهولا حيال ما آلت إليه صورة المدرسة في تفكير أطفال سوريا.

القصة رواها الأب أحمد، الذي نزح الشتاء الماضي من حمص إلى ريف دمشق، ردا على سؤال عما إذا كان سيرسل أبناءه إلى المدرسة بعد نحو أسبوعين، حيث قال لـ«الشرق الأوسط» متسائلا ومستنكرا «إلى أي مدرسة أرسلهم؟ هربنا من القصف في حمص إلى المليحة؛ فلحق بنا القصف إلى هنا. يوميا أطفالي يتحدثون عن العودة إلى المدرسة، لكن ليس للتعلم واللعب بل لقتل القناص».

في كل المناطق الساخنة شطب من تبقوا من السكان فكرة العودة للمدارس من قائمة همومهم اليومية، فالمدارس إما مدمرة أو محتلة من جنود النظام أو مقاتلي الجيش الحر، ومن يفكر منهم في إرسال أبنائه إلى المدرسة فعليه النزوح إلى المناطق الآمنة. ولا تنحصر مشكلة افتتاح المدارس في المناطق الساخنة، وإنما تشمل أيضا المناطق الهادئة التي تتلقى يوميا أعدادا متزايدة من المهجرين، حيث تغص بهم المدارس والحدائق العامة. وحسب التقديرات هناك نحو 400 ألف نازح يسكنون المدارس غالبيتهم يتركزون في مدينتي دمشق وحلب. والمعلومات الرسمية تشير إلى وجود أكثر من 2000 مدرسة تضررت جراء القصف والاشتباكات، ولم تعد صالحة للاستخدام. فهناك مدارس تحولت إلى معتقلات وأخرى تحولت إلى ملاجئ للهاربين من القصف، وقد تم تخريب أثاثها بشكل كامل. فخلال فصل الشتاء الماضي ونتيجة شح وقود التدفئة استخدم خشب المقاعد الدراسية في التدفئة.

وتحتاج تلك المدارس لإعادة إعمار بشكل كامل، وكان متوقعا أن تقوم الحكومة بتأجيل افتتاح المدارس، إلا أن وزارة التربية جددت إعلانها تحديد يوم 19 سبتمبر (أيلول) الحالي موعدا لبدء العام الدراسي 2013/2012 لجميع المدارس الرسمية والخاصة، ويوم الاثنين 13 سبتمبر موعدا لبدء دوام الإداريين والمعلمين والمدرسين.

واختلف موعد بدء العام الدراسي الجديد عن موعده العام الماضي، إذ بدأ العام الدراسي الماضي في 6 سبتمبر، فيما بدأ الدوام للإداريين والمستخدمين والحراس في 30 أغسطس (آب). وبحسب إحصاءات وزارة التربية، فإن مجمل عدد الطلاب الملتحقين العام الماضي وصل إلى نحو 5.3 مليون طالب وطالبة في جميع مراحل التعليم، رياض أطفال وأساسي وثانوي عام ومهني ومعاهد إعداد المدرسين، في حين بلغ عدد أعضاء الهيئة التدريسية والإدارية في كل المدارس نحو 340 ألفا، أما عدد المستخدمين والحراس فبلغ نحو 30 ألفا.

وحيال تصاعد تأزم الأوضاع في البلاد وارتفاع وتيرة الانفلات الأمني، شكل افتتاح المدارس حالة قلق لدى السوريين، ومنهم من طالب بتأجيل الدراسة حتى تهدأ الأوضاع، والمؤيدون للنظام طالبوا بالتأجيل حتى انتهاء عملية «الحسم والقضاء على العصابات المسلحة». بينما سبقهم الثوار بنحو عام برفع شعار «لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس»، وغالبيتهم توقفوا عن إرسال أبنائهم إلى المدارس.

بينما تابع المؤيدون والصامتون في المناطق الهادئة عامهم الدراسي الماضي، لكنهم هذا العام وجدوا أنفسهم أمام أزمة أكبر خلفها الانفلات الأمني، وانتقدوا تمسك وزير التربية هوزان الوز بموعد افتتاح المدارس وتأكيده على «امتلاك القدرة على افتتاح المدارس في موعدها وإعطاء الدروس من اليوم الأول»، حيث صرح بأن «هناك إمكانية لاستيعاب مئات الآلاف من تلاميذ سوريا وضمان جلوسهم الاعتيادي على مقاعدهم من دون أي مشكلة حقيقية». وعقد الشهر الماضي اجتماعا مع المعنيين بالعملية التربوية و«ناقش معهم الاستعدادات والإجراءات المتخذة لانطلاق العام الدراسي وتهيئة المدارس وتأهيل المتضرر منها، وتنفيذ خطة تدريب المعلمين والمدرسين على المناهج الجديدة وتوزيع الكتاب المدرسي ودليل المعلم»، من دون أن يستبعد تأجيل الدراسة في المناطق الساخنة كإحدى «المعالجات في تلك المناطق، وفي مقدمتها مدينة حلب».

وأشار الوزير إلى أن وزارته «تتعاون مع الجهات المعنية كافة لإيجاد بدائل وإخلاء المدارس التي تؤوي المتضررين من الأحداث الأخيرة، الأمر الذي جعل الوزارة تلجأ إلى الدوام النصفي كحل استثنائي في هذه المرحلة».

موقع «سيرياستبس» الاقتصادي، المقرب من النظام، شكك في تصريح وزير التربية وقال «تلقينا عشرات الرسائل التي يعبر أصحابها من السوريين عن عدم ثقتهم في إمكانية افتتاح المدارس قبيل الانتهاء من عملية الحسم، مطالبين السيد الوزير بإقناعهم بالحجة المقنعة وليس بشيء آخر غير ذلك». كما نشر الموقع إحدى تلك الرسائل التي وصلته من أهالي حي التضامن، وقال مرسلوها «نحن مجموعة من أهالي حي التضامن نرسل شكوانا آملين توصيلها لوزير التربية، والشكوى بشأن افتتاح المدارس في سبتمبر. نتمنى من سيادته تأجيل موعد الافتتاح نظرا للظروف الصعبة التي تمر بها بلدنا، معظمنا الآن نازحون عن بيوتنا، وحتى من عاد إلى بيته فإن الحياة والشعور بالاستقرار غير موجود. ونحن لا نأمن أن نضع أبناءنا في المدارس ونذهب لعملنا في ظل الظروف الصعبة الآن، وهذا لا ينطبق على حينا فقط، وإنما هي مطالبة للأهالي من جميع المحافظات».

وكانت مصادر إعلامية سورية مقربة من الحكومة أفادت بأن «جلسات مجلس الوزراء خلال الأسابيع الماضية شهدت نقاشات وحوارات كثيرة، بعضها كان حادا، حول إمكانية افتتاح المدارس في موعدها خاصة أن الأمر يبدو تحديا كبيرا». أم نضال، تعمل في مجال الإغاثة في دمشق، وصفت وزارة التربية بأنها موجودة في بلاد أخرى لا علاقة لها بما يجري في سوريا، وتحدثت من خلال تجربتها اليومية وعملها مع النازحين، وقالت إن «الحل الذي خرجت به وزارة التربية، والذي يقضي بحصر النازحين في عدد محدود من المدارس واعتماد الدوام النصفي في المدارس الفارغة، خلق مشكلات أخرى أكثر تعقيدا». وتلفت إلى أن المدرسة التي تدير شؤون النازحين في حي المهاجرين رحل إليها نازحون من مدرسة أخرى قريبة.. «كان لدينا نحو 1200 أضيف إليهم 500 نازح آخر، ولم تعد لدينا إمكانية لتوزيع الغرف على العائلات، فاضطررنا لتوزيعها وفق الجنس.. غرف للرجال وأخرى للنساء. وكل غرفة ينزل فيها ما لا يقل عن ثلاثين شخصا»، مشيرة إلى أنه نجمت عن هذا الوضع حالات إنسانية «مأساوية»، فثمة سيدة مريضة وتحتاج لرعاية دائمة يقوم بها ابنها المراهق، ونتيجة الفرز بات كل منهما في طابق؛ ولا يمكنه زيارتها في غرفة الإقامة. وهناك حالة أخرى معكوسة، حيث الشاب مصاب بالصرع وترعاه زوجته، لكنها لم يعد ممكنا لها ملازمته طوال الوقت.

وعدا كل ذلك تقول أم نضال «النازحون منقسمون بين مؤيدين ومعارضين، والفرز بحسب الجنس. وفرض على المؤيدين والمعارضين الاشتراك في الغرف، فزاد الاحتكاك اليومي، وزادت معه المشكلات والشجارات واستدعاء قوات الأمن والاعتقالات». وتشير إلى أن «إحدى المدرس في مدينة دمشق (رفضت تسميتها) تم طرد النازحين منها بعد قيام عدد منهم برفع صور الرئيس الأسد عن الجدران». وتفضل أم نضال «تأجيل الدراسة في عموم البلاد حتى تأمين بدائل للنازحين». والبدائل المقترحة من قبل البعض هي المباني الحكومية غير المدارس، كالمنشآت الرياضية والسياحية، بحسب ما قاله حسن، وهو صاحب محل غذائيات، مضيفا «يمكن إيواء المهجرين في المدن الرياضية والملاعب وكذلك يمكن إعطاء بدل نقدي للعائلات التي ترغب في الإيجار».

هذا المقترح البسيط غير ممكن في رأي أم نضال، التي أكدت عجز الحكومة عن تأمين مستلزمات الإغاثة الأولية للنازحين. وتقول إن معظم أعمال الإغاثة تتكفل بها جمعيات أهلية غير حكومية وأفراد، وإن هؤلاء يعانون من ملاحقة الأمن لهم. وما يجعلهم يغضون النظر هو عجز الحكومة عن تحمل أعباء النازحين. وتحذر من تفاقم الأعباء حيث «إننا على أعتاب الشتاء وبحاجة لمحروقات للتدفئة، مما يعني زيادة المصروفات. كما لا توجد أماكن حكومية مجهزة لاستقبال الأعداد المتزايدة من المهجرين، ولا توجد ميزانية لتأمين الطعام والدواء. فمن أين ستأتي الحكومة بميزانية لدفع بدل سكن، خاصة بعد أن ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل خيالي؟». وتتابع «البيت الذي كان يؤجر بعشرة آلاف ليرة اليوم يؤجر للنازحين بثلاثين ألف ليرة، وغالبية النازحين إلى المدارس هم من السكان الذين فقدوا منازلهم ومورد الرزق وكل شيء. وكثيرون وصلوا المدارس بالملابس التي عليهم فقط». كما أن كثيرين من الذين كانوا يستأجرون منازل في دمشق «نفدت مدخراتهم واضطروا للجوء إلى المدارس».

وبالإضافة إلى كل تلك المشكلات هناك مشكلة أخرى لا تقل تعقيدا، أشار إليها مدرس الرياضيات في ريف حمص، رضوان، لدى حديثه عن الانفلات الأمني في عموم البلاد، والقصف المتواصل على المناطق الساخنة وانتشارات عمليات الخطف والقتل على الطرقات، قائلا إنه «لا يوجد طريق آمن للوصول إلى المدارس، فما بالنا بالمدرسين الذين يعملون في مناطق بعيدة ويتطلب التحاقهم بالعمل قطع مسافات طويلة محفوفة بالمخاطر؟».

* تتحفظ «الشرق الأوسط» على اسم معد التقرير داخل سوريا للحفاظ على سلامته