العاملون والحكومة في سوريا.. في أزمة مشتركة

البطالة تصل إلى 75% نتيجة الانفلات الأمني والنزوح

TT

وجدت غيداء نفسها أمام مشكلة جديدة عندما اتصل بها مديرها في العمل، وأبلغها بضرورة الالتحاق بالدوام الرسمي.

غيداء أرملة سقط زوجها برصاص قناص منذ عشرة أشهر في ريف حمص، وترك لها ثلاثة أطفال أحدهم كان لا يزال جنينا حين قتل والده. وكانت تعمل في إحدى الدوائر الحكومية، لكن بسبب الأوضاع الأمنية توقف العمل في تلك الدائرة منذ ستة أشهر. وتم نقل أعمال تلك الدائرة، مع عدد قليل من العاملين بها، إلى منطقة القلمون.

لم تكن غيداء واحدة من العاملين المنقولين، رغم أنها ما زالت تتقاضى راتبها الشهري كغيرها من العاملين في الدولة في المناطق الساخنة؛ إما عن طريق الصراف الآلي في العاصمة أو من خلال توكيل لأحد المعارف. ونزحت غيداء إلى دمشق حيث يعيش أهلها، وبينما ينشغل تفكيرها بتسجيل ولدها في مدرسة قريبة آمنة اتصل بها مديرها في العمل وأبلغها بأنه تم افتتاح مقر للدائرة في ريف طرطوس وعليها الالتحاق بالعمل خلال فترة قليلة. تقول غيداء «ربما لن أجد حلا سوى تأجيل المشكلة بالحصول على إجازة شهرين بلا راتب؛ ريثما أجد حلا أفضل، مع أني بحاجة ماسة للراتب».

غالبية العاملين في الدولة في المناطق الساخنة يعانون من مشكلات كثيرة جراء الانفلات الأمني، ويكاد يكون هؤلاء هم الفئة الوحيدة من العاملين في البلاد ممن ما زالوا يتقاضون رواتبهم رغم عدم التحاقهم بالعمل بسبب الانفلات الأمني، في حين أن نسبة كبيرة من العاملين في القطاع الخاص فقدوا وظائفهم ورواتبهم. وتشير الأرقام الرسمية إلى توقف العديد من المنشآت الصناعية والخدمية، وانتقال عدد منها إلى البلدان المجاورة، لأسباب عدة.. أولها انعدام الأمان ونقص الوقود والكهرباء، حيث تم تسجيل توقف نحو 621 معملا في المدينة الصناعية في حلب ودير الزور وحدهما.

جاء ذلك في تقرير عن الواقع الاقتصادي ناقشه المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد مطلع الشهر الحالي، ونشرته جريدة الحزب (النور). وبحسب التقرير تقدر العمالة المتوقفة في مدينتي حلب ودير الزور الصناعيتين بأكثر من 40 ألف عامل. كما قامت الحكومة بإصدار قرارات إغلاق بحق أكثر من 187 منشأة من القطاع الخاص أو إيقاف العمل جزئيا فيها، نتيجة الأوضاع السائدة.

وحسب أرقام اتحاد الغرف الصناعية في سوريا فإن نحو 75 في المائة من المعامل في محافظة حلب مغلقة بسبب الأوضاع الأمنية، وإن 50 في المائة من الصناعيين الحلبيين الذين أغلقوا منشآتهم ينتظرون الفرج، وإن نسبة 25 في المائة منهم أيضا سافروا للبحث عن استثمار وتشغيل أموالهم، وإن نسبة 90 في المائة من هؤلاء توجهوا إلى مصر. كما أعلنت غرفة تجارة إسطنبول مؤخرا أن الشركات السورية العاملة في المدينة التركية ازدادت بنسبة 218 في المائة خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2012، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

الانفلات الأمني وصعوبة وصول العاملين إلى مقرات عملهم كانا على أول سلم المشكلات التي ناقشها اجتماع وزارة الصناعة بدمشق، الذي عقد مؤخرا بحضور الوزير عدنان السخني، حيث تم وضع مقترحات توفير الحماية للصناعيين وتسهيل وصول العمال إلى أماكن عملهم، وضرورة تفعيل الشحن الجوي بين دمشق وحلب.

ويمكن القول إن صعوبة الوصول إلى المعامل والمزارع، وكذلك الوصول إلى بعض المدن والأحياء، أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة على نحو مرعب، نتيجة فقدان عشرات الآلاف لأعمالهم، حيث تجاوزت النسبة 75 في المائة؛ بحسب مديرية دعم القرار في رئاسة مجلس الوزراء. كما كشفت مصادر المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية أن عدد العمال المتضررين خلال الفترة من 1 مارس (آذار) 2011 إلى 1 مارس 2012 بلغ 85.552 عاملا.

وتوقع تقرير الحزب الشيوعي تسريح أضعاف هؤلاء أو خفض أجورهم وتحولهم إلى جيش من العاطلين الباحثين عن أي دخل أو عمل، إضافة إلى إغلاق وتوقف العديد من المنشآت الصناعية، خاصة الصغيرة منها كليا أو جزئيا، وكذلك نزوح الخبرات والكفاءات الاقتصادية والعلمية إلى خارج سوريا. وقال إن هناك معلومات عن دخول أكثر من 100 ألف سوري إلى دولة الإمارات خلال عام ونصف عام من الأزمة في سوريا.

عمار (45 عاما)، وهو أب لأربعة أطفال، فقد منشأته الصغيرة في ريف حماة، وأرسل أوراقه إلى قريب له يعيش في الإمارات بانتظار الحصول على فيزا عمل. ويقول إنه فعل ذلك «ريثما يأتي الرد بالموافقة»، التي ينتظرها منذ نحو عام، فلقد نزح مع عائلته إلى ريف دمشق وفتح محلا لبيع الخضار ليتمكن من الاستمرار في العيش.

أما زوجته (40 عاما)، والتي كانت تعمل معلمة مدرسية، فهي لم تذهب للعمل منذ عام أيضا، وتتقاضى راتبها عبر الصراف الآلي. وتقول إن لديها «عشر بطاقات لزملاء لها في منطقتها وتسحب لهم رواتبهم»، وتضيف «كل شهر أموت من الرعب وأنا أحمل رواتبهم أمانة كي أرسلها إليهم.. حيث أخشى من التعرض للسرقة أو الخطف. لذا لا أقوم بذلك مرة واحدة بل على مدار أسبوع، ومع ذلك أخاف كثيرا». وتروي أن «زميلة لها قدمت من الضيعة وحملت رواتب لخمسة أشخاص.. وعلى الطريق بين حمص وحماه تعرضت للاختطاف وعادت بعد نحو أسبوع وقد سلب منها المال ودفع أهلها للخاطفين فدية 200 ألف ليرة».

يشكل الانفلات الأمني العامل الرئيسي وراء النزوح وتعطل العمل وفقدان مورد العيش، فقد زادت حالات النزوح من المدن والقرى والأحياء المشتعلة إلى المناطق الأخرى الآمنة نسبيا، ليتجاوز عددها نحو مليون وربع مليون مواطن، نصفهم حسب منظمة اليونيسيف دون 18 عاما. وهناك تقديرات للمنظمات الدولية بأن أكثر من مليونين ونصف مليون سوري بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.

حالة النزوح الجماعي خلقت ارتباكا كبيرا في تسيير معاملات السكان لدى الدوائر الحكومية، فمن يريد تسجيل ابنه في مدرسة آمنة لمتابعة تعليمه سيواجه صعوبة في إحضار أوراقه من مدرسته الأولى في المنطقة الساخنة؛ هذا إذا تبقت مدرسة وأوراق. وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الإجراءات الروتينية البيروقراطية، فاستخراج جواز سفر بات يتطلب شهرا بسبب الضغط الكبير على المناطق الهادئة نسبيا، بعد أن كان يتطلب يومين أو ثلاثة على أبعد تقدير، وكذلك شهادات الوفاة والزواج وحصر الإرث وغيرها من الأعمال الخدمية الكثيرة. أما المؤسسات الصناعية والتجارية الحكومية فأغلبها متوقف في المناطق الساخنة، ومؤخرا بدأت الحكومة في افتتاح فروع جديدة لمؤسساتها لحل مشكلة نقل أعمال الفروع في المناطق الساخنة إلى فروع أخرى في مناطق هادئة. وأعلن قريبا عن افتتاح فرع ثالث للمصرف التجاري في مدينة حمص في حي هادئ نسبيا، وذلك بعد ستة أشهر من توقف كل فروع المصرف التجاري في حمص. وقال مدير المصرف أحمد دياب، في تصريح لإحدى الصحف المحلية «افتتاح هذا الفرع من شأنه التخفيف على المواطنين، لجهة أن المصرف كان قبل افتتاح الفرع يطلب إلى زبائنه ومتعامليه التوجه إلى محافظات أخرى مثل دمشق وطرطوس، مما يحمّل المواطنين المزيد من الأعباء خاصة الموظفين والمتقاعدين منهم، ممن يرغبون في قبض رواتبهم». ومع أن ذلك قد يخفف الضغط على الفروع في المناطق الأخرى لكنه لا يحل المشكلة، فالأحياء الهادئة في حمص هي الأحياء الموالية؛ والتي لا يجرؤ سكان الأحياء الساخنة على دخولها. كما أن المشكلة لا تنحصر في المناطق الساخنة فغالبية الطرق في سوريا باتت طرقا خطيرة.

بتول، المهندسة الزراعية التي تعمل في مركز أبحاث في ريف دمشق، لا تزال مستمرة في الذهاب من دمشق إلى مكان عملها في دوما. وتشير إلى أنها عندما تكون الأوضاع متوترة في دوما يصعب وصولها إلى العمل، هذا عدا عن التوقف عند الحواجز.. فالطريق التي كانت تستغرق ثلث ساعة من بيتها إلى دوما باتت تستغرق ساعة وأحيانا ساعة ونصف الساعة. وعما إذا كانت تفكر في التخلي عن العمل، تؤكد «لا خيار آخر لدي ولا دخل آخر لي.. مجبرة على الذهاب إلى عملي تحت أي ظرف كان». ومع أن الموظفين والعاملين في الدولة ما زالوا يرتادون أماكن عملهم، فإنه لا يمكن القول إنهم يعملون حقا. شاكر (50 عاما)، مهندس في شركة قطاع مشترك في دمشق، يقول «سابقا كان العمل يبدأ في الثامنة باجتماع لمجلس الإدارة وينتهي عند الرابعة بعد الظهر، منذ عدة أشهر وحجم العمل يتراجع حتى بتنا نذهب إلى مكاتبنا لمجرد الذهاب وتسجيل حضور والمغادرة بعد ساعات قليلة؛ نقضيها في النمائم».

استمرار الدولة في دفع الراوتب - مع تجمد الوضع الاقتصادي - خلق أزمة كبيرة تعجز الحكومة أمامها فتعمد لإصدار قرارات وتوجيهات ثانوية لتخفيف ثقل الإنفاق، ومؤخرا أصدرت توجيهات إلى كل الوزارات والجهات التابعة لها بضرورة ترشيد الإنفاق الجاري وخفض النفقات وضبطها، وشددت على عدم منح مكافآت للعاملين إلا لمستحقيها وفق أسس محددة، في سعي لتحقيق تخفيض الإنفاق الإداري وضبطه بنسبة 25 في المائة من إنفاق مختلف الجهات العامة. إلا أن هذا الإجراء في ظل التردي الاقتصادي يخلق بيئة مناسبة لتبرير المحسوبيات في تحديد من يستحق المكافأة من أصحاب الولاء للنظام، ومن يجب معاقبته بحرمانه منها، وعدا ذلك يعطي سببا إضافيا لاستفحال الفساد والرشوة في مجتمع العمل الحكومي والذي سجل استشراء كبيرا جدا خلال الأزمة.

ويلحظ ذلك بوضوح في المطارات والمنافذ الحدودية والبنوك، وحتى المساعدات، وتنشر الصحف المحلية يوميا أخبارا عن أضرار أحد محتاجي المساعدات لدفع 500 ليرة لموزع الإعانات للحصول على حصته، وأخبارا أخرى عن تقاضي موظفي البنوك رشاوى لتسهيل سحب العاملين في الدولة رواتبهم من فروع المصرف التجاري.. حيث ذكرت صحيفة «الوطن» المحلية أن أحد مراجعي المصرف التجاري السوري في دمشق «دفع إكراميات تصل إلى 300 ليرة لثلاثة موظفين لقاء قبض راتب أحد معارفه وتقليل كمية الفراطات (الفكة) من فئة 50 و100 ليرة». ونقلت «الوطن» عن ذلك المراجع قوله إنه يدفع في العادة ما يصل إلى أكثر من 300 ليرة، وإن موظفي البنك اعتادوا منه على دفع الإكراميات حتى صار هذا الأمر بمثابة اتفاق ضمني بينه وبين الموظفين.. فهو يعلم أن الزبون لا يكون مدللا ما لم يدفع.

* تتحفظ «الشرق الأوسط» على ذكر اسم مراسلها في سوريا حفاظا على أمنه الشخصي