«كتالونيا» يدفع باتجاه الاستقلال في ظل الأزمة

الديون ومقومات الهوية الخاصة تحركان سكان الإقليم.. ومدريد تسعى لاحتواء الموقف

الكتالونيون يرفعون علم إقليمهم خلال تظاهرة الثلاثاء الماضي في برشلونة (أ.ب)
TT

قد لا يبدو خافير كربونيل، المدير التنفيذي لشركة «باليكس»، التي تعمل في مجال الأجهزة الطبية، رجل أعمال يرغب في المجازفة بمواجهة سياسية بين موطنه، كتالونيا، والحكومة المركزية في مدريد؛ حيث تحصل شركة «باليكس»، في برشلونة على ما يقرب من 90 في المائة من عائداتها السنوية التي تقدر بـ150 مليون يورو من باقي أنحاء إسبانيا.

لكن كربونيل انضم يوم الثلاثاء إلى مئات الألوف من الكتالونيين بوسط برشلونة مطالبين بالاستقلال عن باقي إسبانيا - على الرغم من إمكانية تعريض كتالونيا إثر هذا الطلب إلى تدابير انتقامية، وربما إلى مقاطعة شعبية تقودها مدريد للبضائع الكتالونية. لكن كربونيل قال: «إن مثل هذه المخاطر قصيرة الأمد تعتبر ثانوية أمام المبادئ الاقتصادية والسياسية الأكثر جوهرية». وقال: «للناس الحق في إدارة شؤون أنفسهم ومواردهم وأموالهم».

وبرغم سعي حكومة رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، إلى مواجهة أزمة ديون اليورو، دفعت كتالونيا نفسها إلى واجهة التحديات الداخلية لراخوي. حيث طلبت كتالونيا، التي تعاني من ديون ثقيلة، قرضا عاجلا بقيمة 5 مليارات يورو (6.4 مليار دولار)، من مدريد. لكن في ظل الأزمة المالية طفى إلى السطح، في منطقة تملك لغتها الخاصة وإحساسا بالهوية، استياء ثقافيا واقتصاديا وصل إلى مرحلة الغليان.

ولا يزال المجتمع الكتالوني منقسما حول ما إذا كان ينبغي أن تقتصر مطالب الانفصال على السيادة المالية من مدريد أو ما هو أكثر من ذلك. فرغم الإقبال الكبير الذي شهدته مسيرة يوم الثلاثاء، أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن أغلبية بسيطة من الكتالونيين يؤيدون الاستقلال الكامل. وتعكس طموحات كربونيل مدى تحول التفكير الانفصالي من تفكير هامشي إلى تفكير شائع بين كل من الساسة وقادة رجال الأعمال لأكثر أقاليم إسبانيا قوة اقتصادية، الذي يمثل الناتج الاقتصادي للبلاد.

ويمثل ذلك بدوره تحديا بارزا آخر لحكومة راخوي، التي تشهد علاقتها مع أقاليم إسبانيا الأخرى توترا بالفعل، نتيجة الأزمة وإصراره على أن الدعم الموجه لكتالونيا والأقاليم التي تعاني من ديون كثيفة يتطلب انضباطا ماليا إقليميا أكبر.

ويعترف السياسيون الكتالونيون بأن المساعي الانفصالية تأتي في وقت بالغ الصعوبة لراخوي، حيث يواجه ضغوطا خارجية لتحديد ما إذا كان على إسبانيا أن تسعى للحصول على مزيد من المساعدات المالية الأوروبية من خلال برنامج شراء السندات الأوروبية الجديدة، الذي تم الاتفاق عليه عبر البنك المركزي الأوروبي. وقال روتشيو مارتينيز سامبيري، النائب الاشتراكي في البرلمان الإقليمي لكتالونيا: «تميل الأزمة الاقتصادية لسوء الحظ لأن تظهر على السطح كل أنواع القضايا في نفس الوقت».

ويشير جوزيف جوزيف راموندي، الفيلسوف والكاتب الكتالوني، إلى أنه حتى وإن كانت فكرة استقلال كتالونيا لم تلق تعريفا واضحا لها، لكنها كانت في الحقيقة المشروع السياسي الحقيقي الوحيد في إسبانيا في الوقت الراهن. وأضاف: «الناس في الأزمة يحتاجون إلى الاحتفاظ بنوع من الرؤية الإيجابية للمستقبل، لا مجرد القلق كل صباح بشأن مدى ارتفاع أقساط الدين».

وفي الوقت ذاته حاول راخوي الالتفاف على التحدي الكتالوني بالدعوة إلى الوحدة الوطنية، وحث يوم الثلاثاء الأقاليم على تقريب الصفوف والتركيز على سحب الاقتصاد معا من الركود. وتشكل كتالونيا وسكانها البالغ عددهم 7.5 مليون (16 في المائة من سكان إسبانيا) أحد المحركات الاقتصادية الأساسية للبلاد باقتصاد يبلغ 200 مليار يورو يقارب حجم الاقتصاد البرتغالي. ويمزج الإقليم قطاع خدمات مالية قوي يقودها مصرف لاكايسكا القوي، بقاعدة صناعية تشمل قطاعات تقليدية مثل المنسوجات وصناعة السيارات (تملك نيسان وفولكس فاغن بمصانع قريبة من برشلونة) إضافة إلى شركات التكنولوجيا الحيوية مثل غريفلوس، مطور منتجات تعتمد على بلازما الدم.

ويود المسؤولون في مدريد لفت الانتباه إلى أن تمويل الحكومة المركزية لأولمبياد 1992 هو الذي ساعد في رفع شهرة برشلونة عالميا، وتحويلها إلى واحدة من أهم المدن السياحية في أوروبا يصل عدد زائريها إلى 9 ملايين سائح كل عام، مقارنة بمليون سائح قبل الأولمبياد. وقد دفعت الجاذبية التجارية للمنطقة السلطات المحلية الأسبوع الماضي إلى الإعلان عن خطط تطوير لمنتجع ترفيه وألعاب يدعى عالم برشلونة بقيمة 4.8 مليار يورو، يقام على مساحة 120 كيلومترا جنوب العاصمة بالقرب من طراغونة، المملوكة لنادي لاكايسكا.

بيد أن الأزمة المالية كشفت عن أن كتالونيا، شأنها شأن كثير من الأقاليم، أدارت مواردها العامة بشكل سيء. وأوضح راخوي أن أقاليم المدينة تتحمل وزر ثلثي العجز المالي الذي شهدته إسبانيا العام الماضي، مما أجبرها على تفويت أهداف موازنة الميزانية التي وافقت عليها وفق التزامات منطقة اليورو. ومن بين الدين الكامل الذي يصل إلى 140 مليار يورو بين حكومات أقاليم إسبانيا السبعة عشر، تدين كتالونيا بـ42 مليار يورو. ونتيجة لذلك لم يعد بمقدور كتالونيا الاقتراض من الأسواق المالية، وربما كان ذلك سببا في طلب كتالونيا من حكومة راخوي إعانة طارئة.

لا يزال الإقليم الكتالوني متفوقا على باقي إسبانيا في بعض النواحي. فعلى عكس معدل البطالة على مستوى البلاد الذي يبلغ 24.6 في المائة، تعتبر البطالة الكتالونية أفضل نسبيا، حيث تصل إلى أقل من 22 في المائة. وقد خلص كثير من الكتالونيين إلى أن التوقعات بتعافيهم ستتحسن عبر تخفيف أو قطع العلاقات مع بقية حالة الركود التي ضربت إسبانيا.

حتى الآن، قصرت الحكومة الإقليمية في كتالونيا التي يقودها آرثر ماس وحزبه «كونفرجينتشيا يونيو»، مطالبها على السيادة المالية فقط، بدءا بالحاجة إلى إقناع راخوي بضرورة أن يسمح لكتالونيا بخفض إسهاماتها في نظام مالي يعيد توزيع جزء من عائدات الضرائب إلى الأقاليم الفقيرة في إسبانيا. ويتوقع أن يناقش السياسيان القضية في الاجتماع الذي سيعقد الثلاثاء القادم.

لكن اقتراب دورتين انتخابيتين الشهر المقبل - في إقليم الباسك وفي غاليتشيا مسقط رأس راخوي - لا يتوقع معه توقيع رئيس الوزراء اتفاقا مع كتالونيا يمكن من خلاله فتح تحفيز الأقاليم المدينة الأخرى بعرض مطالبها.

لكن في حالة كتالونيا، يهدد ماس وحلفاؤه بتصعيد الصراع إذا ما تم تجاهل مطالبهم المالية. وأثاروا إمكانية إنشاء وكالة ضرائب كتالونيا الجديدة لجمع الأموال التي تتدفق الآن إلى خزائن مدريد. وحذر جوزيف سانشيز ليبري، النائب عن حزب كونفرجينتشيا يونيو: «ما لم يتم التوصل إلى اتفاق مع مدريد سندخل مرحلة جديدة من الشكوك التي يمكن أن مؤلمة للغاية للاقتصاد الإسباني ككل».

لكن هناك كثيرا من الكتالونيين لديهم بعض الأمور التي تشغلهم أكثر من الانفصال. فبعد يوم من حضور المظاهرة وقف جوردي إيجليسياس أمام متجر تملكه «سيرا»، الشركة التي تبيع معدات التصوير، للاعتراض مع الموظفين الآخرين الذين طردتهم سيرا في نهاية أغسطس (آب). ويواجه إيجليسياس أيضا تكلفة إعادة تجديد شقة دمرها مستأجر فقد وظيفته وغادر دون أن يدفع لإيجليسياس إيجار ثلاثة أشهر. وقال إيجليسياس: «لا يمكنني القول إن الجميع يقدم مثالا جيدا لكتالونيا في هذه الأزمة. أنا أرغب في كتالونيا مستقلة، لكن مع رجال أعمال وسياسيين وشرفاء».

وعلى عكس سلفه الاشتراكي، خوسيه رودريغيز ثاباتيرو، يمتلك رئيس الوزراء الحالي راخوي أغلبية في البرلمان الوطني، وهو ما يجعل من السهل بالنسبة له التغلب على هذه المطالب السياسية. لكن جوردي آلبريك، المدير العام لسيركليد إكونوميا، وهو اتحاد يضم 1.500 مدير تنفيذي وأكاديمي، مقره برشلونة قال: «إن بقاء راخوي صامتا تجاه قضية الاستقلال يهدد بخروجه عن السيطرة، ويخاطر راخوي في الحقيقة بتغذية المشاعر بأن الكتالونيين يخضعون لهيمنة حكومة مدريد، التي لم تكترث بمزاعمهم، ولا بشأن آلام كل التخفيضات في الميزانية القريبة». وأضاف آلبريك: «وهذا ما قد يتبين أنه خطأ كبير».

* خدمة «نيويورك تايمز»