مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية تصب الزيت على نار الفيلم الأميركي المسيء

نشرت رسوما تستفز مشاعر المسلمين.. ومسؤولون يدعون للتهدئة

TT

رجل في ثياب حاخام يهودي يدفع كرسيا متحركا يجلس عليه رجل ملتح، مع عبارة تقول: «المنبوذون 2»، في إشارة إلى عنوان الفيلم الفرنسي الذي حقق نجاحا ساحقا وسوف يمثل فرنسا في منافسات «الأوسكار». بهذ الغلاف صدرت المجلة الفرنسية الساخرة «شارلي إبدو»، أمس، لتنفخ في النار المشتعلة أساسا في العالم الإسلامي بسبب الفيلم المسيء المنتشر في الولايات المتحدة. وكانت مكاتب المجلة، في باريس، قد تعرضت للحرق، العام الماضي، بسبب نشرها مواد استفزت المسلمين.

ومنذ ساعات الصباح الأولى، توالت ردود الفعل على غلاف المجلة وعلى محتويات صفحتها الأخيرة من رسوم. وتنوعت آراء المسؤولين السياسيين ورؤساء الأحزاب بين من يدافع عن حرية التعبير في فرنسا ومن يستهجن أو يرى في النشر استفزازا لا مبرر له ويأتي في توقيت غير مناسب. ورغم التصريح الذي بثته القناة التلفزيونية الإخبارية «إي تيلي» لرسام الكاريكاتير «شارب»، مدير التحرير في «شارلي إبدو»، وقال فيه إنه لا يشعر بالقلق، فإن شاحنة للشرطة انتقلت لترابط أمام مقر المجلة.

وحال انتشار خبر العدد المسيء، هجم محتجون على عدد من أكشاك الصحف في فرنسا، منذ السادسة صباحا، لشراء نسخ المجلة وتمزيقها، في حين كانت وكالة الأنباء الفرنسية قد ذكرت أن القراء كانوا يتخاطفون الأعداد من المكتبات. وقال للوكالة بائع للصحف في حي «بلفيل» الذي تقطنه جالية كبيرة من مهاجري المغرب العربي إنه وجد زبونا في انتظاره حال وصوله إلى العمل، ومعه رزمة من النقود واشترى كل النسخ بهدف إتلافها وإتلاف كل ما يمكنه جمعه من المجلة من أكشاك الحي. وفي الوقت ذاته تعرض موقع المجلة على الشبكة الإلكترونية للقرصنة.

من جهته، عبر رئيس الوزراء جان مارك أيرولت عن قلقه من كل أنواع المزايدات في «سياق الظرف الحالي». ودعا إلى تحكيم «روح المسؤولية لدى الجميع». وأشار إلى أن حرية التعبير هي من المبادئ المؤسسة للدولة، ومنها حرية نشر الرسوم الكاريكاتيرية، لكنها «تمارس في إطار القانون وتحت رقابة المحاكم» التي تنظر في القضايا الخلافية. وقال أيرولت إن العلمانية القائمة في فرنسا، ومعها قيم التسامح واحترام العقائد الدينية، هي في قلب شرعة الجمهورية. أما وزير الخارجية لوران فابيوس، فقال إنه «ضد كل استفزاز». ومثله رأى وزير الداخلية السابق، بريس أُورتفو، فيما نشرته «شارلي إبدو» استفزازا بلا فائدة. وأضاف في تصريح إذاعي أن ذلك من شأنه تحريك ردود أفعال طائفة محدودة وإثارة الخلط ما بين الإسلام، كدين سلام، والأُصولية بشكلها المتطرف. ولكن موقف مارين لوبين، رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، كان مع دعم حرية التعبير بكل أشكالها.

واستقبل وزير الداخلية، مانويل فالس، ظهر أمس، وفدا من المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية واتحاد الجمعيات الإسلامية. وأكد موقفه من احترام حرية التعبير لكنه شدد على أنه «يتعين على كل شخص تحمل مسؤوليته عن كل عمل فردي وكل مقالة وكل رسم وكل تصريح يمكن أن يؤجج أو يتسبب في مواجهات». كما أوضح أن «المحاكم موجودة لنصرة الذين يعتبرون أنهم أهينوا». وخلص وزير الداخلية إلى القول بأن «كل مظاهرة تهدف إلى الإخلال بالأمن العام وتأجيج المشاعر وبث البغضاء لن تنال الترخيص وستمنع». وأنه أعطى تعليمات إلى كل مديري الأمن لتطبيق هذه الموانع تطبيقا تاما.

كما أعلن متحدث في وزارة الخارجية عن إغلاق السفارات والقنصليات والمدارس الفرنسية في أكثر من 20 مدينة في العالمين العربي والإسلامي، غدا، تحسبا لمظاهرات احتجاج تعقب صلاة الجمعة في المساجد. وأضاف أن الخطوة تأتي من باب الاحتياط وأن أيا من تلك المؤسسات لم تتلق تهديدا.

وفي إطار التداعيات، أيضا، قال محمد الموسوي، رئيس المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية، في بيان له أمس، إنه يدين بشدة «هذا العمل الجديد الذي يعكس الخوف من الإسلام». وأضاف داعيا مسلمي فرنسا إلى عدم الانجرار وراء الاستفزاز. وكان الدكتور دليل بوبكر، عميد مسجد باريس الكبير، قد أعلن في مؤتمر صحافي له، أول من أمس، عن كلمة ستلقى في كافة المساجد التي تتبع اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، الجمعة، وهي بمثابة نداء لضبط النفس، قائلا: «نريد أن نعكس حقيقة الإسلام في فرنسا ونعيد الكلمة لمسلميها»، باعتبارهم المتحدثين الوحيدين باسم الإسلام في هذا البلد. لكن التيار المعتدل لبوبكر يواجهه تيار أكثر تشددا وحركات سلفية بدأت تظهر على الساحة وتدعو، عبر المواقع الإلكترونية للتواصل الاجتماعي، إلى التجمع، نهار غد، في ساحة تروكاديرو في باريس، والانطلاق منها في مظاهرة تتجه إلى السفارة الأميركية. ولم تمنح الشرطة الفرنسية رخصة للمظاهرة، واعتبرت وزارة الداخلية اية تظاهرات ممنوعة لأنها غير مرخصة.

وتعتبر مجلة «شارلي إبدو» من أبرز مجلات السخرية والكاريكاتير المصور في فرنسا، بعد «الكانار أُونشينيه». وهي قد تأسست امتدادا لصحيفة «هاراكيري» الباريسية التي ظهرت أوائل ستينات القرن الماضي على يد جورج بيرنييه وفرانسوا كابانا واستقطبت باقة من الرسامين الذين لمعت أسماؤهم، فيما بعد، أمثال توبور وفريد وفولينسكي وكابو وغيبيه. لكن تكرار منع المجلة بسبب موادها دعا إلى تغيير اسمها لعدة مرات وتنقلها بين عدة أماكن، وكذلك توقفها عن الصدور بسبب الإفلاس ثم عودتها إلى الساحة لحين استقرارها على الاسم الأخير، عام 1992.

جاء تأسيس المجلة في صيغتها الجديدة ثمرة لاستقالة اثنين من أبرز الرسامين، هما فيليب فال وكابو، من صحيفة «برتا البدينة»، بعد خلاف مع مديرها ورغبتهما في امتلاك منبر خاص اختارا له الاسم القديم «شارلي إبدو» الذي كان عنوانا أو امتيازا غير مستثمر. وتعتبر المجلة من صحف اليسار. وقد بيع من عددها الأول 120 ألف نسخة لكن المبيعات تراجعت إلى النصف، بعد عشر سنوات، بسبب مغادرة رسامي كاريكاتير بارزين للمجلة التي تنشر بين فترة وأُخرى تحقيقات خارجية وملفات حساسة عن موضوعات مثيرة للجدل، مثل «البدع الدينية»، «اليمين المتطرف».

وفي شباط (فبراير) 2006 أعادت «شارلي إبدو» نشر الرسوم المسيئة للإسلام، على سبيل التضامن مع صحيفة «يلاندز بوستن» الدنماركية، وحققت خبطة تجارية من وراء النشر حيث وصل عدد النسخ المباعة إلى 400 ألف. وقد لاحقت أوساط مسلمي فرنسا المجلة أمام القضاء وطالبت بمنع نسخ ذلك العدد من التوزيع لكن الشكوى لم تؤد إلى نتيجة بسبب نقص في إجراءات التقاضي. وكان الرئيس الأسبق جاك شيراك قد أدان النشر واعتبر موقف «شارلي إبدو» استفزازا جليا.

ومن أبرز ما مرت به المجلة خلال السنوات الماضية استغناؤها عن خدمات الرسام «سينيه»، أحد أشهر الأسماء في ميدان الكاريكاتير والفنان الذي عمل وناضل إلى جانب ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، في خمسينات القرن الماضي، وكان يسخر موهبته في الرسم لإصدار جوازات سفر وبطاقات هوية للثوار. وجاء سبب الاستغناء عنه بذريعة أنه «معاد للسامية» لأنه نشر رسما يسخر فيه من زواج نجل الرئيس السابق ساركوزي من وارثة يهودية ثرية، بما معناه أن العريس يعرف من أين يبدأ مسيرة الصعود. وفي خريف 2008 تعرض مكتب المجلة لحريق متعمد بعد إلقاء زجاجات حارقة من نافذته. كما تعرض موقعها الإلكتروني للقرصنة واستبدلت به صورة للكعبة وآيات من القرآن. وجاء الهجوم إثر تخصيص «شارلي إبدو» لعدد بعنوان «شريعة إبدو»، تطاولت فيه على الإسلام في عدد جاء ردا على فوز حزب النهضة في الانتخابات التونسية. واستضافت صحيفة «ليبيراسيون» في مكاتبها هيئة تحرير «شارلي إبدو» لمدة شهرين، لحين ترميم المكتب المحترق.