معدلات الجريمة في مرسيليا تصدم الفرنسيين

برنامج حكومي لتدارك الأمر يتضمن رفع أعداد الشرطة والتخفيف من وطأة الفقر

شرطيان يسيران في شارع بمرسيليا بعد إعلان الحكومة رفع أعداد الشرطة في المدينة مطلع الشهر الحالي (أ.ف.ب)
TT

أوقف وليد المرزوقي وصديقته سيارتهما السوداء من طراز رينو توينغو عند إشارة مرور حمراء في شارع بوليفار كازانوفا المهجور في وقت متأخر من إحدى ليالي شهر أغسطس (آب) الماضي، وفجأة توقفت سيارة أخرى إلى جانبهما وفتح سائقها نافذته وأخرج منها بندقية آلية وأطلق أكثر من 20 طلقة على المرزوقي أردته قتيلا. وأعلنت الشرطة أن المرزوقي (25 عاما)، كان يعمل تاجر مخدرات في مرسيليا، وتقول نينا العمراوي (31 عاما)، التي تعيش في بناية بالقرب من مسرح الجريمة: «لقد سمعت دوي إطلاق النار. كنت خائفة جدا على أطفالي إلى درجة أنني أخبرتهم أنه كان حادث سيارة».

وقد كان المرزوقي ضحية لواحدة من أعنف موجات جرائم العصابات التي تشهدها على الإطلاق هذه المدينة المطلة على سواحل جنوب شرقي فرنسا، فخلال 9 أشهر قتل 20 شخصا في مرسيليا والمنطقة المحيطة بها، طبقا لما ذكرته الشرطة. وقد دفع حجم العنف، الذي تقول الشرطة إن مرتكبيه في الغالب هم تجار مخدرات يستعملون أسلحة قتالية، الحكومة الاشتراكية الجديدة إلى وضع خطة طموحة لمساعدة هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة، والتي وصفها وزير الداخلية مانويل فالس بأنها «تمر بمحنة كبيرة». كما تعرضت الحكومة لضغوط من أجل التحرك بعد أن دعت سامية غالي، وهي نائبة اشتراكية عن الدائرتين رقم 15 و16 الفقيرتين والمحرومتين هنا، إلى ضرورة تدخل الجيش. إلا أن طلبها، الذي رأى البعض أنه مبالغ فيه، جذب أنظار وسائل الإعلام إلى معاناة المدينة مع زعماء العصابات.

وقالت الشرطة إنه لم يتم بعد فك طلاسم مقتل المرزوقي، إلا أنها نسبت جرائم القتل الأخيرة إلى تجار المخدرات، وخصوصا تجار المخدرات من الأحياء التي يتكون غالبية سكانها من المهاجرين في شمال مرسيليا. وأضافت الشرطة أن تجار المخدرات يستطيعون بسهولة أن يكسبوا 100 ألف يورو شهريا (نحو 131 ألف دولار)، معتمدين على العنف وجرائم القتل من أجل ترويع الآخرين أو الدفاع عن مناطقهم. وعلى عكس الولايات المتحدة، فهناك قيود تنظيمية مشددة على الأسلحة في أوروبا، غير أن العصابات تسلح نفسها بأسلحة يحصلون عليها من السوق السوداء. ويقول جان لوي مارتيني، المتحدث المحلي باسم «الضباط المتحدون»، وهو واحد من الاتحادات الشرطية الكبرى في فرنسا: «نحن نواجه مواقف غير إنسانية. لقد أصبح الأمر مخيفا، لأنه لا توجد أي حدود».

ولطالما كانت مرسيليا، التي تعد واحدة من أفقر المدن في فرنسا، مأوى للعصابات التي ظهرت على السطح في البداية لتسيطر على تجارة البغاء، وقد كانت المدينة مقر عصابة هيروين كبيرة عرفت باسم «الصلة الفرنسية»، والتي تم إنتاج فيلم سينمائي يحمل اسمها عام 1971، كما أنها على غرار الكثير من المدن الساحلية تشتهر بالتهريب والفساد السياسي. واليوم يقول الخبراء وضباط الشرطة إن عدد الجرائم، التي ترتبط في الغالب بتهريب الماريغوانا، لم يشهد ارتفاعا كبيرا، إلا أن جرائم القتل صارت أكثر عنفا بكثير في العام الماضي. وأكثر ما يقلق ضباط الشرطة والأهالي هو تزايد استعمال البنادق الآلية ونصف الآلية، وخصوصا الكلاشنيكوف، حيث يتم تصنيع بنادق الكلاشنيكوف في كثير من بلدان شرق أوروبا والصين وتصل تكلفتها إلى 1300 دولار، ودخلت هذه البنادق إلى فرنسا بعد تقسيم يوغوسلافيا السابقة، وأصبحت متوافرة أكثر في الآونة الأخيرة بعد الفوضى التي أعقبت اندلاع الثورة في ليبيا، وأعلنت الشرطة أنه تم الإمساك بنحو 300 قطعة كلاشنيكوف في مرسيليا هذا العام. كما أن عصابات المخدرات أكبر حجما وأقل تنظيما، فيقول ديفيد أوليفييه ريفردي، وهو رجل شرطة سابق: «من الصعب علينا تفكيك تلك العصابات. كل ما نفعله حتى الآن هو أننا نصل بعد الجريمة ونحصي عدد القتلى».

وفي الأسبوع الماضي، قام رئيس الوزراء جان مارك أيرولت بزيارة استغرقت يومين إلى مرسيليا لمناقشة الوضع الأمني بها والحث على ضرورة وضع حد لما سماه «جمود» المدينة في الأزمة الاقتصادية، وقد أعلن خطة تهدف إلى زيادة عدد ضباط الشرطة في الأحياء المتأثرة بالجريمة والتهريب، كما تتضمن هذه الخطة مبادرات بعيدة المدى لتخفيف وطأة الفقر. وقد رحب الخبراء بهذا البرنامج، حيث صرح أستاذ علم الاجتماع لوران موشييلي لمجلة «لوبوان» قائلا «يجب أن نتوقف عن الاعتقاد بأن هذا الجنوح يحدث مثل السحر وأن الناس ولدوا وبداخلهم هذا المرض. يجب أن نواجه فشل المدارس والبطالة وتصحر بعض الأحياء». وبحسب المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية (Insee)، فإن 45 في المائة من الأهالي الذكور في الأعمار ما بين 15 و29 عاما كانوا بلا عمل في عام 2009 في الكثير من الدوائر الفقيرة في مرسيليا.

وتؤكد غالي أن الدولة تخلت عن الدائرتين الشماليتين اللتين تمثلهما في البرلمان وتركتهما في قبضة العصابات وتجار المخدرات، الذين بمقدورهم إطلاق النار على الصديق الذي كان يأكل وينام معهم في الليلة السابقة. وقد عززت المحنة الاقتصادية التي تمر بها أوروبا من هذه الظاهرة، حيث ذكرت غالي في حوار أجري معها: «الآن هناك بطالة أكبر ولا توجد وظائف مؤقتة». ولم تتأثر مرسيليا كثيرا بأحداث الشغب التي اشتعلت في ضواحي باريس عام 2005، غير أن بعض الناس يرون أن تبنيها لتعدد الثقافات وقوة الهوية المحلية لم يعودا يحميانها من الاضطراب الاجتماعي. وأشار الضابط مارتيني: «لقد طغى علينا اتساع نطاق موجة الجنوح الجديدة هذه».

وتقول الشرطة إن تكون عصابات المخدرات يسير على منوال معتاد، حيث ينقطع الشاب عن الذهاب إلى المدرسة ليصبح «ناضورجيا» (أي مراقبا) يحصل في الغالب على أجر يصل إلى 65 دولارا في اليوم من أجل تنبيه أفراد العصابة عندما يكون ضباط الشرطة في الجوار. و«الناضورجي» الجيد تتاح له فرصة أن يقود «قاربا سريعا»، حيث يذهب لإحضار الماريغوانا من إسبانيا بأسرع ما يمكنه دون أن يتعرض للإيقاع به.

وقد كان المرزوقي، وهو تاجر المخدرات الذي قتل داخل سيارته الشهر الماضي، مطلوبا من الشرطة، ويوضح أحد ضباط الشرطة: «لقد صعد نجمه في السنوات الخمس الماضية، حيث انتقل من سائق للقوارب السريعة إلى واحد من كبار مستوردي المخدرات في مرسيليا». وقد جرحت آني صديقة المرزوقي لكنها نجت من الهجوم. وكان المرزوقي قد ترك المدرسة وهو في سن الثالثة عشرة، وكانت والدته تعمل في تنظيف المنازل، بينما كان والده يعمل في وظائف مؤقتة، كما دخل شقيقه السجن في جرائم صغيرة. وقالت إيناس (20 عاما)، وهي ممرضة زاملت المرزوقي أيام الدراسة: «كان وليد شخصا طيبا، شخصا لطيفا. لقد اعتدنا على جرائم القتل هنا، هذا هو المكتوب».

لكن الآخرين في الأحياء الشمالية ممن روعهم العنف لا يتفقون معها في هذا الإيمان بالمكتوب، فيقول رجل يعمل بالقرب من المكان الذي قتل فيه المرزوقي، وقد اشترط عدم ذكر اسمه: «إنها مدينة المجانين. إذا كان في استطاعة فتى عمره 16 عاما استعمال سلاح كلاشنيكوف، فهذا يعني أنه لم يعش طفولته أبدا. إن والديه لم يعانقاه أبدا». وربما لا يكون والدا المرزوقي قد عانقاه، ولكن وضعا فوق إشارة المرور في شارع بوليفار كازانوفا، زهورا ولافتة كتب عليها بما يبدو أنه أحمر شفاه: «وليد، سوف نحبك إلى الأبد».

* خدمة «نيويورك تايمز»