بوتين يمحو آثار حقبة ميدفيديف

ثورة لإلغاء مراسيم عهد الرئيس الروسي السابق تشمل حتى الأمور الثانوية

ميدفيديف خلال زيارته معرضا للمعدات الطبية قرب موسكو الثلاثاء الماضي (أ.ب)
TT

في الأخير، لم يبد أن هناك أي مرسوم صادر عن ديمتري ميدفيديف يصعب إلغاؤه. وبدأ هذا النهج فور تنازله عن رئاسة روسيا إلى فلاديمير بوتين. فقد ألغى بوتين قرار سلفه بعدم تجريم القذف، الذي كان اتخذ قبل ثمانية أشهر. ورفع سن التقاعد لكبار المسؤولين إلى سبعين عاما، مقوضا محاولة ميدفيديف «تجديد شباب» حكومة روسيا بجعل الحد الأقصى لسن التقاعد ستين عاما، أو خمسة وستين عاما في حالات خاصة.

والخميس الماضي، بدأ المشرعون عملية مراجعة لتغيير آخر بسيط عن نهج الرئاسة المقيد لميدفيديف: قراره العام الماضي بإلغاء تغيير التوقيت مرتين سنويا، معيدين روسيا بشكل دائم إلى التوقيت الصيفي. ولم يتخير راعي القرار كلماته بكياسة، حيث قال إن قرار ميدفيديف كان «غير مقبول تماما بالنسبة لقطاع ضخم» من روسيا.

وبالعودة إلى أيام الاتحاد السوفياتي، فإنه بإمكان الصحافيين القول إن شخصية سياسية قد خسرت قبول الناس بفك شفرة نوع من الأكواد البيروقراطية: ظهور مقال في صحيفة «برافدا» يشير إلى «العيوب» في فترة حكمه، أو تراجع موقعه على خط الاستقبال في الميدان الأحمر إلى الوراء. وإذا ساءت الأمور في واقع الأمر، فإنه سيتم شطب صورته من الصور الجماعية.

وبينما لم يصل الأمر إلى تلك النقطة بالنسبة لميدفيديف، فإن فترة الأشهر الأربعة ونصف الشهر منذ تركه الرئاسة قد حملت خروجا عن المسار الذي حدده. ونادرا ما صارت تذكر كلمتا «ضبط» أو «تحديث»، وباتت خصخصة الشركات المملوكة للدولة مثار شك. كما ضعفت عملية انتخاب المحافظين المباشرة التي أعادها ميدفيديف، بفعل إقحام عملية فحص للمرشحين تخضع للسيطرة الكاملة للكرملين.

وبدأ انتقاد ميدفيديف يظهر في الأوساط العامة والشعبية. فيوم الخميس، بدت أخبار تغيير التوقيت أشبه بالمزيد من الأخبار من الشاكلة نفسها. وكتب الصحافي ميخائيل فيشمان على «فيس بوك»: «إذن، في الشتاء، لن يتأخر شروق الشمس ساعة، وفي الصيف، سوف تغرب الشمس قبل ساعة من موعد غروبها الأصلي.. كل هذا، مع هدف واحد فقط: أن يتذكر ميدفيديف، وهو يحيي الغسق المبكر، أنه لا شيء». وبدوره، وضع المستشار السياسي غليب بافلوفسكي الأمر في عملية «تفكيك مرحلة ميدفيديف».

من السابق لأوانه محو ميدفيديف، الذي بلغ مؤخرا السابعة والأربعين من عمره، وهو يشغل الآن منصب رئيس الوزراء ولا يزال رئيسا لحزب روسيا الموحدة الحاكم، وثاني أهم سياسي في روسيا. وقبل عام، أظهر ولاءه لبوتين بانسحابه من فترة رئاسة ثانية، وبوتين معروف بعرفانه للولاء. في المقام الأول، لم يجسد هذا الصيف تغييرا مؤثرا للمسار، إذ لم يعد سوى أن يكون مجرد فترة من التحول المحموم، من دون خطة واضحة باقية في النهاية.

غير أنه كانت هناك إشارات جلية على أن ميدفيديف قد وضع في حجمه الحقيقي، بداية من الذكرى الرابعة لحرب أغسطس (آب) 2008 مع جورجيا. وقد زاد ذلك الحدث شعبيته بدرجة هائلة، وفي الذكرى السنوية من كل عام كان يتحدث على شاشة التلفزيون عن القرار الصعب المنفرد الذي اتخذه بإرسال الجيش إلى جورجيا، وقتما كان بوتين في بكين. كان استحضار ذكريات الماضي هذا العام مدفوعا بظهور فيلم وثائقي مجهول المصدر قام فيه جنرالات متقاعدون بتوجيه انتقادات لاذعة لميدفيديف بوصفه شخصا خاملا وجبانا. ولدى سؤال بوتين عن الفيديو، رد بقلب رواية ميدفيديف رأسا على عقب، مخبرا الصحافيين بأنه كان قد صدق بشكل شخصي على خطط للهجوم مسبقا، وأنه إبان الأزمة تحدث إلى ميدفيديف ووزارة الدفاع عبر الهاتف مرارا. ووجهت ضربة أخرى موجعة إلى ميدفيديف بعد بضعة أسابيع.. فحين كان لا يزال يشغل منصب الرئيس، طلب من المدعين العموميين النظر في قضية تايسيا أوسيبوفا، وهي ناشطة معارضة صدر ضدها حكم بالسجن 10 سنوات بسبب ما وصفه مؤيدوها بأنها تهم مختلقة بالاتجار في المخدرات. وقادت شكواه إلى إعادة محاكمتها، حيث سعى ممثلو الادعاء إلى عقوبة أخف ممثلة في السجن أربع سنوات. وفي أغسطس (آب)، أصدر القاضي، في خطوة غير معتادة، حكما على أوسيبوفا بالسجن ضعف تلك المدة.

وقال ألكسندر راهر، الباحث الروسي ومؤلف سيرة ذاتية عن بوتين، إن الأشخاص المتشددين المحيطين ببوتين قد ألقوا باللائمة على ميدفيديف في موجة المعارضة التي هزت الكرملين الشتاء الماضي. وبحسب النقد، أنهت رئاسة ميدفيديف «مناخ الخوف» الذي ساد إبان فترة رئاسة بوتين الثانية. وعلى الرغم من أن ميدفيديف لم يقم بتمرير تغيير هيكلي مؤثر، فإن أشخاصا مؤثرين من المطلعين على بواطن الأمور يزعمون أنه «خلق مناخا» أدى إلى مظاهرات، على حد قول راهر. وقال «إنهم في حالة اهتياج. هم يظنون أن ميدفيديف قد أشعل هذه الثورة الروسية الجديدة».

ويقول كونستانتين ريمتشوكوف، رئيس تحرير صحيفة «نيزافيسيمايا»، إن الانتفاضة السياسية التي اندلعت هذا الصيف تعتبر أمرا معتادا بالنسبة لأي شخص نشأ في الاتحاد السوفياتي. وقد عد 30 شهرا من تخفيف القيود السياسية، بدءا من نشر مقال ميدفيديف «إلى الأمام يا روسيا» - الذي يمثل في جوهره نقدا لسجل سلفه - وانتهاء بتنصيب بوتين في مايو (أيار). وقال ريمتشوكوف «عندما تواجه موقفا تعترض فيه حياتك بأكملها فترات قليلة جدا من الدفء، فإنك لا يمكن أن تتعامل معه بشكل جاد. أتذكر كل تلك الفترات التي زادت فيها درجة الدفء أو البرودة أو الصقيع». بصورة ما، تتمثل أكبر مفاجأة في أن بوتين قد وجد أنه من الضروري إعادة مبادرات ميدفيديف في المقام الأول. وبالنسبة للأعوام الأربعة من اتفاق تبادل منصبي رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، كان الإجماع بين الخبراء الغربيين هو أن ميدفيديف لم يقم بالكثير من دون موافقة معينة من جانب بوتين. وفي اليوم الذي أعلن فيه الرجلان أنهما سيتبادلان الأدوار، طرح مسؤول رفيع المستوى بإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تساؤلا عما إذا كان هذا قد يحدث تغييرا في مسار السياسة الخارجية. وقال هذا المسؤول «الجميع يعلم أن بوتين يقود روسيا».

ويبدو هذا أقل وضوحا الآن. فقد بدأ بوتين مراجعة قائمة طويلة من السياسات بعد تقلده منصبه: باتت العلاقات مع اليابان وبيلاروسيا أكثر ودا، على سبيل المثال، فيما تدهورت العلاقات مع رئيس أوكرانيا، فيكتور يانوكوفيتش. وقال إيغور بونين، الذي يرأس مركز التقنيات السياسية في موسكو، إن بوتين قام بتعديل كبير في وزارة الداخلية، حيث قام بنقل العديد من أصدقاء ميدفيديف المقربين إلى مناصب استشارية، وإنه ربما يتم إحلال شخص آخر محل النائب العام يوري تشايكا للسبب نفسه.

ويشير كل هذا إلى أن العديد من مبادرات ميدفيديف مع قرب نهاية فترة رئاسته، المتقطعة وغير المكتملة مثلما كانت، قد تم اتخاذها بشكل مستقل، وفي بعض الحالات، ضد رغبات بوتين. وعلى الرغم من أن حديثه عن التغيير لم يكن مصحوبا بأفعال ملموسة، تبدو الرئاسة الروسية قوية جدا إلى حد أنه على مدار أربع سنوات لم يكن ميدفيديف بحاجة سوى للحديث، وبدأ النظام يعمل من أجل ترويج أفكاره. وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك الفترة قد ولت. وقال ريمتشوكوف «الأمر الذي يصيبني بأقصى درجة من الحزن أن أراهم يحاولون محو كل شيء حتى تلك الجوانب الثانوية من واقعنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»