الرقيب الإعلامي في ميانمار يتخلى عن قلمه الأحمر

البلاد المتحولة تدريجيا إلى الديمقراطية تلغي مهام الجهاز سيئ السمعة بوزارة الإعلام

تينت سوي مسؤول الرقابة على المطبوعات في ميانمار في مكتبه برانغون (نيويورك تايمز)
TT

كان مكتبه في وقت ما مركزا للتحقيق تديره الشرطة العسكرية اليابانية المرهوبة خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما يفسر حمله لقب «الجلاد الأدبي». ويقول تينت سوي، بابتسامة باهتة، «لم نعتقل أو نعذب أحدا، لكننا نضطر إلى تعذيب كتاباتهم».

ويعد تينت سوي آخر مسؤولي مكتب الرقابة على المطبوعات في ميانمار، ذلك المحكم القوي لما ينبغي أن يقرأه الشعب، وما ينبغي أن يحذف من التاريخ الرسمي.

وعلى مدى خمسة عقود تقريبا، كانت الحكومة العسكرية تفحص كل كتاب وكل مقالة وكل تعليق وكل صورة وقصيدة قبل طباعتها، ما شكل ممارسة أساسية للجيش الذي سعى إلى السيطرة على كل ملامح الحياة في البلاد. وأثار مكتب الرقابة المعروف باسم قسم التراخيص والرقابة على الصحف، غضب أجيال من المؤلفين، وعادة ما كان الرقباء يعيدون صفحات الكتب تملأها الأسطر الحمراء في كل الصفحات. وعادة ما كانوا يحظرون كتبا أو مقالات بكاملها. فكانت تحذف أي إشارة إلى الجيش أو الفساد الحكومي، وألغي اسم بورما ليحل بدلا منه اسم ميانمار، الاسم الذي يفضله المجلس العسكري الحاكم في البلاد. حتى إن صفحات دليل الهاتف تمر عبر مكتب الرقابة.

يضم مكتب الرقابة نحو 100 من الرقباء، غالبيتهم من النساء يجلسن على مقاعد من الخيزران ويعملون على مكاتب من خشب الساج القديمة، والبعض منهم يعمل على أجهزة كومبيوتر، لكن كثيرا من الرقباء لا يزالون يحملون الأقلام الحمراء في جيوبهم. ويغص المكتب برزم من الكتب والصحف والمخطوطات التي يقول العاملون هنا إنهم يرشون المبيدات الحشرية على الدوام هنا لقتل ديدان الكتب. يخيم على المكتب في الوقت الراهن سكون شديد، فقبل شهر اجتمع تينت سوي برؤساء التحرير والناشرين في البلاد وأدلى بتصريح كان مفاجأ للجميع، فبعد ثمانية وأربعين عاما وأربعة عشر يوما ستؤول الرقابة إلى مزبلة التاريخ.

رأى العالم الخارجي التغيرات التي شهدتها ميانمار بدءا بإطلاق سراح السجناء من السجون وإنشاء البرلمان، حيث تدور نقاشات قوية الآن، والحريات التي باتت وسائل الإعلام الجديدة تتمتع بها وإن كانت لا تزال قليلة.

وترتبط القصة الشخصية لتينت سوي بالتغيرات التي شهدتها الحكومة والشعور التدريجي الذي خالج كثيرا من المسؤولين في الحكومة بأن الحكم العسكري لم يكن ليدوم. وشارك سوي مع مسؤولين آخرين في وزارة الإعلام في وضع جدول زمني لإلغاء الرقابة العام الماضي، بعد أشهر قليلة من تولي حكومة الرئيس ثين سين المدينة.

وقال تينت سوي في مقابلة في مكتبه؛ حيث تعلق شعارات الدعاية الحكومية على كل حائط تقريبا، «العمل الذي كنت أقوم به لم يكن متوافقا مع العالم وغير متسق مع الحقيقة. لا يسعنا تجنب التغيير. البلاد كلها تريد التغيير».

من الناحية الرسمية، كان تينت سوي، 47 عاما، قوة رئيسة خلف آلة الدعاية العسكرية الضخمة، لكنه كان على ما يبدو يعيش حياة مزدوجة. فقد اعترف في مقابلة نادرة بأنه هو أيضا كاتب نشط. ففي نهاية كل أسبوع يكتب تينت سوي مقالا طويلا حول التاريخ العسكري والأسلحة والقضايا الأخرى. وأحد كتبه المفضلة هو «التاريخ العسكري الأميركي». نشر كتاباته على «فيس بوك» وهو ما دفع الصحافيين إلى الضحك بسخرية من أن كبير الرقباء يعلم كيفية تفادي مجلس الرقابة.

لم تكن الابتكارات التكنولوجية التي كانت تتحدى الحكومة (الهواتف الخلوية، وأطباق استقبال الأقمار الصناعية والعالم الرقمي للنشر التي كانت بعيدا عن مقص الرقابة) حقائق غامضة بالنسبة للمسؤولين مثل تينت سوي، فقد كانوا هم وعائلاتهم يعيشون هذه التغيرات أيضا. ويقول الصحافيون في ميانمار إن تينت سوي، الذي كان ضابطا عسكريا، وخضع لعملية انتقال تدريجي خلال السنوات الخمس والنصف الأخيرة إلى ما سمي بالجلاد الأدبي (التعذيب الجسدي في ميانمار والذي كان يستخدم عادة ضد السجناء السياسيين، كانت تنفذه أفرع أخرى تابعة للحكومة).

في البداية كان تينت سوي، أحد أبناء الحزب الشيوعي، عنيدا وأحمق ثم اتخذ منهجا أكثر تساهلا، مدركا أن الرقابة لن تدوم في عصر الإنترنت، وذهب إلى حد مساعدة رؤساء التحرير في تنظيم مؤتمر حول مستقبل الصحافة في البلاد. ويذكر سو لين أونغ رئيس تحرير الصحيفة الأسبوعية «نايبيتاو تايمز»، غضب تينت سوي قبل خمس سنوات عندما أمر بحذف صفحة تزعم الفساد في وزارة. ويذكر تينت كيف كان سوي يصرخ: «أنت تعلم القواعد، يمكنني أن أغلق صحيفتك».

شغل تينت سوي منصب كبير الرقباء إبان بعض أكثر فترات الحكم العسكري صعوبة – الانتفاضة التي قادها الرهبان البوذيون في خريف عام 2007 ورد فعل الحكومة الفوضوي تجاه إعصار «نارغيس» الحلزوني، والإعصار الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 130 ألف شخص في مايو (أيار) 2008. ويقول إن الرقابة كانت أمرا ضروريا في تلك الأيام لحفظ النظام والاستقرار.

وفي أعقاب تلك الأحداث المضطربة، أظهر إشارات تنم عن مزيد من المرونة، على حد قول صحافيين. وقال سو لين أونغ، «كان يقول، من فضلك، كن صبورا وانتظر – سوف تأتي التغييرات. في رأيي، كان مستبقا للتغييرات إلى حد ما». وقال تينت سوي إنه راقب بدقة صفوف القيادة العليا مثل جميع الآخرين. قرأ بدقة خطاب الرئيس ثين سين الافتتاحي العام الماضي والذي ركز على المصالحة الوطنية والحد من الفقر. وقال تينت سوي، «الخطاب منحني شعورا بأن ثمة تغييرا جوهريا سوف يأتي».

وبعد ثلاثة شهور من تولي الرئيس منصبه، قبل أن يقتنع المراقبون الخارجيون أن عملية الإصلاح ضرورية، اتخذ هو ومسؤولون آخرون الخطوات الأولى لتفكيك نظام الرقابة. وفي يونيو (حزيران) 2011، تم استثناء مقالات تتعلق بمجالات الترفيه والصحة والأطفال والرياضة من الرقابة. وأعقب ذلك موضوعات أخرى، وهو ما بلغ ذروته في الشهر الماضي مع شؤون السياسة والدين، المجالين الأخيرين اللذين تم إلغاء الرقابة عليهما. لم يتحدد بعد مصير مكتب الرقابة السابق وموظفيه، على حد قول تينت سوي. يعترف الرقباء المائة أن لديهم مساحة كبيرة جدا من الوقت وسرعان ما سيقل عدد المهام الموكلة إليهم، تحول مسؤولية تسجيل الصحف والمجلات لولايات فردية.

نظر تينت سوي حول مكتبه وقال إنه خالجه شعور بالخسارة على المستوى الشخصي. وقال، مشيرا إلى الرقابة: «إنني فخور بكوني الشخص الذي ألغاها، لكنني إنسان. اعتدت دائما أن يكون مكتبي مليئا بالكتاب والناشرين». وأضاف: «الآن يبدو مكتبي مثل مدينة أشباح».

* خدمة «نيويورك تايمز»