اختفاء الأطفال وباء جديد يجتاح الهند بعيدا عن بؤرة الضوء

90 ألف طفل يفقدون كل عام من الأسر الفقيرة

تحرير أطفال من مصنع في نيودلهي بعد غارة للشرطة (واشنطن بوست)
TT

في كل 6 دقائق هناك طفل يفقد في الهند، وهم أولاد مثل عرفان، الذي قام رجلان على متن دراجة نارية بتخديره واختطافه وهو في سن التاسعة بينما كان يسير عائدا إلى منزله ذات يوم بعد أن انتهى من اللعب مع أصدقائه. ويقول والده إقبال علي: «لقد عشنا في جحيم طيلة العامين الماضيين، ونحن نحاول أن نعرف أين يمكن العثور عليه. كنت أدير مخبزا لصناعة البسكويت، ولكن من يوم اختفائه وأنا أحاول لقاء الساسة ورجال الشرطة ومن يدعون القدرة على إعادة الأطفال عن طريق السحر، إلى درجة أنني اضطررت إلى إغلاق مخبزي لأنه لم يعد لدي أي وقت له».

وطبقا لبيانات تم تجميعها ونشرها العام الماضي من قبل أكبر منظمة لحقوق الطفل في الهند، وهي منظمة «باتشبان باتشاو أندولان»، فإنه يتم الإبلاغ عن اختفاء ما يزيد على 90 ألف طفل كل عام، مما يظهر أن المشكلة أكبر بكثير مما كان معتقدا في السابق. وذكرت المنظمة أن ما يصل إلى 10 أضعاف ذلك الرقم يتم الاتجار بهم، وهم أولاد وبنات ينتمي معظمهم إلى أسر فقيرة يتم انتزاعهم من والديهم، مقابل مبلغ مالي أحيانا، وإجبارهم على التسول أو العمل في المزارع والمصانع والمنازل، أو يتم بيعهم من أجل تجارة الجنس أو الزواج.

ويعد هذا وباء ظل حتى بضع سنوات مضت بعيدا عن بؤرة الضوء، وغالبا ما كان يلقى تجاهلا من جانب السلطات، إلا أن سنوات من العمل الدؤوب من جانب الناشطين وبعض الانتصارات الهامة في ساحات المحاكم - بالإضافة إلى الواقعة المروعة التي عثر فيها على عظام 17 بنتا وفتاة بالقرب من منزل أحد رجال الأعمال في ضاحية من ضواحي مدينة نيودلهي تدعى نيثاري عام 2006 - وضعت القضية بالتدريج على جدول أعمال البلاد. كما لعبت القنوات الإخبارية الهندية التي تبث على مدار الساعة دورا في تسليط الضوء على قضية لطالما ظلت الطبقات الوسطى في البلاد تغض الطرف عنها. وقد كانت الضجة الإعلامية المصاحبة لجرائم القتل التي اكتشفت في ضاحية نيثاري نقطة فاصلة، تماما مثلما ساعد اختفاء الطفل إيتان بيتز عام 1979 على إطلاق شرارة حركة الأطفال المفقودين في الولايات المتحدة.

وفي الأسابيع الأخيرة تم أيضا بث تسجيل فيديو التقطته كاميرات المراقبة - وهي ظاهرة جديدة في الهند الحديثة - على شاشات التلفزيون هنا، يظهر اختطاف أطفال بوقاحة من محطات القطارات وردهات المستشفيات بينما الوالدان غافلان هنا أو هناك. ويقول بوان ريبو، وهو ناشط لدى منظمة حقوق الطفل: «منذ عقدين من الزمن لم يكن هناك أي وعي بقضية اختفاء الأطفال أو الاتجار بهم لإجبارهم على العمل، بل إن عمالة الأطفال لم تكن تعتبر جريمة من الأساس. رغم أن الأمور تتغير ببطء، فإن أكبر مشكلة هي عدم وجود الإرادة السياسية والإدارية لإنفاذ القانون، الذي يكون في الغالب بعيدا عن متناول الشخص العادي».

وقد يكون عرفان قد لقي المصير الأكثر شيوعا، وهو اختطافه لتلبية الطلب النهم في الهند على العمالة الزراعية الرخيصة. ففي الهند والكثير غيرها من البلدان النامية، غالبا ما يعمل الأطفال في الزراعة، وما لم يظهر قبل الآن هو التجارة الضخمة التي نشأت بعيدا عن أعين القانون. إلا أن قصة عرفان انتهت نهاية سعيدة، ففي الشهر الماضي بعد أكثر من عامين على اختفائه عاد أخيرا إلى منزله ووالديه اللذين غمرتهما سعادة جارفة بعودته، بعد أن صعد فوق كرسي داخل الحظيرة التي كان محتجزا فيها وكسر النافذة بزهرية خزفية حتى يتمكن من الهرب. وقال عرفان وهو يروي تفاصيل حياته أثناء حبسه في عزلة تامة داخل غرفة مجاورة لحظيرة جواميس خارج بلدة مولانبور، على بعد نحو 200 ميل شمال غربي مدينة دلهي: «كان يفترض أن أقوم بتنظيف الجواميس وإطعامها وتنظيف الروث. كانوا يطعمونني مرة واحدة في اليوم، ولا يقدمون لي سوى بقايا الطعام. وعندما كنت أصرخ أو أحدث جلبة كانوا يقيدون يدي وقدمي طوال الليل».

وبعد هروبه وجد عرفان مأوى له مع أسرة أخرى لعدة أشهر، وفي الشهر الماضي حينما بلغ الغضب الإعلامي من ظاهرة اختفاء الأطفال مبلغه، رأى صورته وصورة والديه في أحد البرامج التلفزيونية، وعندئذ فقط بدأ رحلة العودة إلى حي نانغلوي في مدينة نيودلهي، وهو العنوان الوحيد الذي كان يحتفظ به في ذاكرته. ويتابع قائلا: «أخذت القطار إلى دلهي، ثم استقللت حافلة إلى نانغلوي، ولكن عندما وصلت كان كل شيء قد تغير. في الماضي لم يكن هناك جسر لعبور المشاة ولا مترو، وبدا لي مكانا مختلفا تماما». وبعد نصف ساعة من التجول على غير هدى، يقول عرفان إنه التقى مصادفة بأحد أصدقائه، الذي أخذه إلى منزله. وتقول والدته شابنام: «لقد شعرنا بسعادة غامرة. ذهبنا وأحضرنا ملابس جديدة لنا جميعا. كانت ملابسه القديمة كلها صغيرة جدا، لأنه كبر وأصبح طويلا للغاية».

ولا يمثل الاختطاف سوى قمة جبل الجليد في صناعة ضخمة من الاتجار في الأطفال داخل الهند، فالكثير من الأطفال الصغار يقوم الآباء والأمهات ببيعهم أو يتم إغراؤهم بترك والديهم من خلال الوعد بأنه سيتم الاعتناء بهم وأنهم سيتمكنون من إرسال المال إلى أسرتهم، والكثير من الأطفال ممن لا يسجلون أبدا على أنهم مفقودون ينفصلون تماما عن والديهم ويعملون لساعات طويلة في مصانع الملابس أو في صناعة الحلي الرخيصة.

وعلى الصعيد العالمي، فإن الاتجار في الأطفال من أجل الإجبار على العمل أو الاستغلال الجنسي يظل «جريمة خفية إلى حد بعيد»، حسب ما تقوله «منظمة العمل الدولية»، التي لا توجد لديها حتى أي بيانات موثوق بها عن حجم المشكلة. وتقدم المنظمة «تقديرا متحفظا» بأن هناك 5,5 مليون طفل حول العالم يقعون في فخ العمل القسري،، ولكن في الهند فقط تعتمد الحكومة على تقديرات تتراوح ما بين 5 ملايين و12 مليون طفل ممن يتم إجبارهم على العمل. وفي حملة شنها ناشطون ورجال الشرطة مؤخرا، تم إنقاذ 36 طفلا من سلسلة من الغرف الصغيرة كانوا يعملون بداخلها في صناعة الأسورة لمدة 10 ساعات، وبعضهم مقابل 4 دولارات فقط في الشهر. وكان أحد هؤلاء الأطفال لا يتجاوز السادسة من عمره، وهو ابن عامل من عمال جر عربات الريكشو في مدينة باتنا البعيدة، وقال بينما كان شعره وجلده مغطيان بالمسحوق اللامع من العمل: «إنهم لا يسمحون لي بالحديث إلى أمي عبر الهاتف».

وفي الشهر الماضي، اقترحت الحكومة الهندية فرض حظر شامل على توظيف الأطفال دون سن 14 عاما، بناء على قانون صدر عام 2009 ينص على حق الطفل في التعليم حتى هذا السن. وقد رحب الناشطون بهذا الاقتراح الذي ينتظر الآن موافقة البرلمان، وهي خطوة كبيرة إلى الأمام، إلا أنهم نبهوا إلى أن تفعيل هذا الاقتراح يظل تحديا كبيرا. وتقول وزارة الخارجية الأميركية إن الهند تبذل «جهودا كبيرة» للالتزام بالحد الأدنى من المعايير الدولية المتعلقة بالقضاء على الاتجار غير القانوني، إلا أنها لمحت إلى التحديات التي تواجه إنفاذ القوانين و«الأقوال التي تتردد عن تواطؤ مسؤولين حكوميين مع ممارسات الاتجار في البشر».

وقد ذكر آباء وأمهات الكثير من الأطفال المفقودين الذين تم إجراء حوارات معهم الشهر الماضي أنهم لم يتلقوا مساعدة تذكر من رجال الشرطة، وهم يرجعون ذلك في المقام الأول إلى كونهم فقراء. ويقول كونوار بال (48 عاما)، الذي كان ابنه رافي يبلغ من العمر 12 عاما عندما اختفى منذ عامين بعد خروجه في نزهة بدراجته: «كان رجال الشرطة في منتهى اللامبالاة. كل ما يقولونه هو: (هناك أطفال كثيرون اختفوا. ماذا يمكننا أن نفعل؟). ربما لو كنت أملك مالا كي أدفع رشوة لكانوا قد عثروا على طفلي».

وتبين الأرقام الرسمية أن نحو 450 ألف حالة اتجار في الأطفال من أجل العمل تم الإبلاغ عنها خلال السنوات الثلاث الماضية، غير أنه لم يتم اتخاذ إجراءات قانونية سوى في 25 ألف حالة فقط من تلك الحالات، ولم يُدَن فيها سوى 3394 صاحب عمل فقط.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»