ملفات السياسة الخارجية المصرية: حول مصر والإقليم والملف النووي الإيراني

تركيا لن تشعر بالضغوط الاستراتيجية التي يمكن أن تحس بها مصر والسعودية إذا أفلتت إيران من معاهدة منع الانتشار

ظهور قدرة نووية إيرانية ووجود هذه القدرة الإسرائيلية سيجعلان العالم العربي يجلس في ظلال الرعب النووي
TT

يكتب أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر الأسبق، لـ«الشرق الأوسط» عن قضية الملف النووي الإيراني وأخطاره على المنطقة، وهو قد تابع خلال 7 سنوات كان فيها على رأس الدبلوماسية المصرية هذا الملف. ويكشف عن أنه تم تشكيل مجموعة عمل صغيرة في الخارجية المصرية لمتابعة تطورات هذا الملف منذ وقت مبكر.. وكان التركيز على بحث آثار أي عمليات عسكرية في الخليج.. ويشير إلى أن ظهور قدرة نووية إيرانية ووجود القدرة الإسرائيلية التي يتحدث عنها الجميع سيجعل العالم العربي، وخاصة المشرق ودول مجلس التعاون تجلس تحت ظل الرعب النووي، وسيفرض ذلك على البعض في العالم العربي التفكير في إقامة برنامج نووي للردع.

تابعت باهتمام بيان الرئيس أوباما الذي ألقاه في افتتاح النقاش العام لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي، والذي أكد فيه نيته على عدم السماح لإيران بالحصول على السلاح النووي... وكنت قد قرأت في وقت سابق في دورية الشؤون الخارجية التي تصدر بالولايات المتحدة، وتعكس الكثير من مقالاتها ودراساتها وآرائها، التوجهات الرئيسية للنخبة الأميركية في معالجتها للاهتمامات و/أو الهموم الأميركية تجاه العالم الخارجي ودور الولايات المتحدة في شؤونه... مقالا مستفيضا، لم يكن الوحيد، ولكن سبقه آراء كثيرة أخرى، تطالب كلها... ومن خلال حجج وآراء مختلفة، ألا تتصدى الولايات المتحدة بتوجيه أي ضربة أو ضربات عسكرية لإيران التي تسعى للحصول على قدرة نووية عسكرية... بل وأن تتعايش هي – أى الولايات المتحدة - وإسرائيل وبقية العالم الغربي مع هذه القدرة النووية العسكرية مع السعي لتطويقها وحصارها وبما يفرض عليها – أي إيران – أوضاعا مشابهة لما تعرض له الاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال، منذ أول تفجير ذري سوفياتي في عام 1949 وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991... أو كوريا الشمالية في السنوات العشر الأخيرة التي تحركت خلالها نحو بناء قدرة نووية عليها شكوك حقيقية كثيرة وعلامات استفهام متعددة!... وتعايشت معها الولايات المتحدة طوال هذه الفترة ومعها اليابان وكوريا الجنوبية... ومن خلال إجراءات مختلفة كثيرة لا تدخل في نطاق التناول هنا.

أخذت من جانبي أتابع ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية على هذه المقالات التي طُرحت في الإعلام الأميركي والإسرائيلي والدوريات الأكاديمية الغربية والأميركية.. وكنت طوال سنوات ممتدة أحاول أن أرصد تطورات موضوع الملف النووي الإيراني، خاصة خلال سنواتي السبع، وزيرا للخارجية المصرية في الفترة من 2004 وحتى 2011، وذلك لتأثيراته، التي كنت أراها غاية في الأهمية على كل مستقبل سياسات إقليم الشرق الأوسط، إذا ما تحقق فعلا أن إيران كانت تسعى للحصول على قدرة نووية عسكرية.. أو وصلت إليها في نهاية طريق طويل.. أو تعرضت في المقابل لضربة إجهاضية تستهدف تدميرا أو تعطيلا وتأخيرا لهذا البرنامج النووي الإيراني.

كنا قد شكلنا في وزارة الخارجية المصرية، وفي توقيت مبكر مع بدء بزوغ الموقف، مجموعة عمل دبلوماسية صغيرة أعطيتها مهمة دراسة المسألة في الكثير من جوانبها.. وإن كنت أكدت على المجموعة عدم التركيز على البحث في حقيقة أو عدم حقيقة التوجهات الإيرانية للسعي نحو هذه القدرة النووية العسكرية، إذ قدرت أن الإمكانيات المصرية الذاتية لن تستطيع التوصل إلى تبين حقيقة الأمر من عدمه.. وأن مثل هذا الجهد – بالتالي – لن يفيدنا كثيرا، بل سيهدر من وقتنا ويفقدنا رؤية المسائل الأكثر أهمية، خاصة وقد كنا على اقتناع بأن هناك دولا وأطرافا دولية تستطيع إلى حد كبير كشف ما قد يحاول الإيرانيون إخفاءه من عناصر برنامجهم النووي: حقائقه.. أهدافه.. مغزاه.. وسوف يحاط المجتمع الدولي علما بكل تفاصيل الصورة مثلما ستتضح من قبل وكالة الطاقة الذرية أو من خلال القدرات المستقلة للدول ذات المعرفة والإطلاع. من هنا طلبت من مجموعة العمل إعداد ورقة موجزة يمكن استخدامها كأساس لمناقشات أكثر اتساعا وعمقا بين كل أجهزة الأمن القومي المصري، توطئة لطرحها على الحكومة المصرية إذا ما تطورات الأمور إلى مواجهات ساخنة بين إيران والقوى الغربية وإسرائيل.

كانت مصر، بطبيعة الحال، تنصح وتحث الولايات المتحدة، وأي أطراف غربية أخرى لها مواقف حادة من الملف النووي الإيراني، على أهمية عدم التصعيد العسكري.. بل وتفاديه بأي شكل كان.. وتكشف البرقيات الأميركية التي تسربت خلال فضيحة «ويكيليكس» وقائع الموقف المصري في هذا الصدد.. وهو الاستعداد لمسايرة الضغوط الاقتصادية على إيران باعتبارها أقل الضررين، ليس فقط على إيران ولكن بالنسبة لكل الإقليم على اتساعه من الخليج إلى قناة السويس.

كان تركيز الدراسة المصرية بالخارجية يدور حول بحث آثار أي عمليات عسكرية بالخليج وضد إيران على أوضاع الجاليات المصرية الكبيرة في دول مجلس التعاون.. وبطبيعة الحال فإن لمصر تجربة كبيرة تعرضت لها جالياتنا في أزمة حرب الكويت الأولى وعالجتها الدولة المصرية بقدر معقول من الكفاءة والاقتدار.. كما أعطينا في الدراسة اهتماما كبيرا لآثار مثل هذه العمليات على الأوضاع الاقتصادية بالخليج وأسعار النفط وتأثيراته على الاقتصاد العالمي.. وتناولنا أيضا في أوراقنا عواقب هذه العمليات علينا بشكل مباشر.. قناة السويس وأمنها.. ومدى احتمال محاولة إيران أو أطراف، ليست دولا، التعرض لها إذا ما استخدمت القناة - مثلما تفرضه اتفاقية القسطنطينية - في مرور الوحدات البحرية الأميركية، وغيرها، وصولا إلى مياه البحر الأحمر أو المحيط الهندي.. بل أجرينا دراسة مستفيضة لقواعد هذه الاتفاقية في علاقتها بحدث مثل الذي نتحدث عنه في هذه الصفحات.

كان يتوارد إلينا، وعلى مدى فترة ممتدة، وكلما زادت سخونة الموقف واحتمالات القتال أو الحديث عنه، أن هناك خططا تدبر للتعرض للقناة.. وقصف السفن العابرة لها، العسكرية أو غيرها من سفن التجارة والنفط، للتأثير على الوضع الإقليمي وإضعاف تصميم القوى المعادية لإيران.. من هنا كانت خشيتنا على أمن سيناء بشكل عام وأمن حدودنا على وجه الخصوص من اتجاه الشمال الشرقي.

تضمنت الدراسة الكثير من العناصر المهمة الأخرى التي لها تأثير مباشر على مصر وأمنها القومي واقتصادها وشعبها.. وبانتهاء البحث في كل هذه الأمور تحركت الخارجية في مرحلة تالية لتوسيع إطار التعرف على مواقف بقية المؤسسات المصرية الرئيسية.. وتوصلت الدولة المصرية في النهاية إلى تصور عام لما يجب أن تنتهجه من إجراءات وقرارات وخطوات يمكن أن تُتخذ في حينه - وكخيارات متاحة - إذا ما تدهور الوضع بمنطقة الخليج.. أي وضعنا خططنا العامة وأخذنا حذرنا.. ثم أبقينا على المتابعة اللصيقة للموقف وتطوراته..

لم أرغب في أن نخوض، في حينه، على مستوى الخارجية، في احتمالات تغليب العمل العسكري المباشر ضد إيران من قبل خصومها، خاصة أن الصورة ليست بكاملها متوافرة لدينا، وإن كنا قد عملنا على محاولة الاطلاع والتعرف، من قبل كل المصادر الخارجية المُتاحة على النوايا الأميركية و/أو الإسرائيلية.. وما يمكن أن يحركهم أو يمنعهم من مثل هذا العمل. وكان الرئيس السابق مبارك يعطي اهتماما كبيرا للأمر، ويتابع بتدقيق كل المعلومات التي تتوافر حول هذا الموضوع. كان يعي أخطار العمل العسكري، ويتفهم ضرورات حماية مصر من أخطاره إذا ما تحقق، وكثيرا ما نصح الإيرانيين بعدم قطع خيط الاتصال مع الغرب واستمرار التحدث والتفاوض حول عناصر برنامجهم النووي مع حثهم على أهمية عدم السعي للدخول للمجال النووي العسكري للعواقب المترتبة على ذلك.. والاقتصار على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية بكل عناصرها.

كان كثيرا ما يقول لي، عندما يثار الحديث حول إيران وملفها النووي، إنه يقدر أن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تحاولا النزول بقوات برية على الأراضي الإيرانية، وإنهما إذا ما استقر رأيهما، وبقية القوى الغربية، على القيام بتحرك مُعاد فسوف يتم ذلك باستخدام القوة الجوية فقط وبشكل مكثف وبكل أدواتهما الحديثة، وفي إطار زمني ممتد نسبيا، مع تحديد أولويات للعمليات الجوية، تبدأ بتدمير القدرات الصاروخية والجوية الإيرانية، ثم تتدرج نحو عناصر كثيرة أخرى.. مع الوصول في النهاية لقصف المنشآت النووية الإيرانية. كنت شخصيا، وعلى مدى هذه السنوات، أتابع تطورات الحشود الأميركية أو غيابها.. عدد حاملات الطائرات التي توجد في الشرق من قناة السويس وفي مياه المحيط الهندي أو شرق البحر الأبيض المتوسط.. البطاريات المضادة للصواريخ التي يتم نشرها في إسرائيل أو منطقة الخليج.. مدى كثافة الإعلام الأميركي والغربي وهجومهما على الملف النووي الإيراني من عدمه.. محاولات الأميركيين التأثير على الروس والصين والوسائل المُتاحة.. مدى التصعيد الغربي في إطار وكالة الطاقة الذرية، و/أو مجلس الأمن.

كان الرئيس السابق مبارك، رغم خشيته من هذا الخيار، يُقدر أن الإمكانيات الإسرائيلية الجوية تمكنها من القيام بعمليات ضد إيران بمفردها.. وكثيرا ما استمعت لوجهات نظره في هذا المجال كلما أرسلت إليه تقاريرنا حول المسألة وهي كثيرة ومتعددة.. وكنت أتشكك من جانبي في دقة هذه القراءة، آخذا في الحسبان بطبيعة الحال خبرته المتراكمة ومعرفته العميقة باستخدامات القوة الجوية وتأثيراتها.. ومع ذلك أشرت، أكثر من مرة في أحاديثي معه، إلى شكوكي في المسألة، وذلك من واقع أحاديث واتصالات عديدة مع أطراف غربية لها معرفة بالملف، أو قراءاتي العامة حول أسلوب استخدام القوة الجوية في نزاعات عديدة. كنت أحاول، بين الحين والآخر، أن ألفت النظر إلى المسافات الطويلة التي ستحتاجها المقاتلات والقاذفات الإسرائيلية في عبورها نحو أهدافها وأراضي الدول الأجنبية التي تفصل إسرائيل عن إيران.. وقدرات الإنذار المبكر والرصد الإيراني.. والحاجة للتزود بالوقود في الجو في طريق الذهاب إلى أو العودة من نقاط العمليات. ولم أتطرق إلى ما وصلني من دراسات غربية، تجعل من الصعوبة بمكان نجاح إسرائيل في القيام، بمفردها، بمهمة مثل تلك.. وكثيرا ما قال البعض إن هناك أخبارا بنوايا في استخدام قواعد ومطارات لدول قريبة من إيران، ليست منها الدول العربية أو تركيا، وتشككت من ناحيتي في كل هذا الكلام. وكان تقديري، ولا يزال، أن إسرائيل، في محاولتها التصدي للوضع الإيراني، إما أن تتفق مع أميركا مسبقا على عمل ما أو تسعى لتوريط القوة الأعظم في عمل ما.

كنا بالخارجية نحيط الرئيس بكل ما يثار في كل الملف بجوانبه المختلفة.. وتناولت بالكتابة مع كل قادة ومسؤولي الأجهزة الرئيسية رؤيتي للموقف، وأهمية الإعداد والتجهيز لتحصين مصر داخليا، في كل المجالات، بقدر الإمكان، من أخطار أي عمل عسكري إسرائيلي منفرد أو بمشاركة أميركية ضد المنشآت الإيرانية.. واستمرار السعي لعدم وصول الأمور إلى هذه النقطة وحتى لا ينفجر الموقف في وجه كل شعوب الشرق الأوسط.. بل والعالم.

وكنا ننصح الأطراف المعارضة لإيران، ومسؤولي وكالة الطاقة، أن ينظروا في إمكانية التوصل إلى تفاهمات مع إيران يتم بمقتضاها القبول بأن تكون لدى إيران قدرات متفق عليها في تخصيب اليورانيوم.. وربما أيضا معرفة كاملة بدورة الوقود النووي، مع الاتفاق على فرض نظام صارم للإشراف والمراقبة والتحقق من التزام طهران بعدم الدخول إلى مرحلة الأسلحة النووية.. بل الاستمرار في قصر البرنامج على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والالتزام كذلك بمنهج محدد للتصرفات الدولية والإقليمية يؤدي إلى تغيير السياسات الخارجية الإيرانية في انطلاقاتها على المسرح العربي.. وكانوا يستمعون جميعا من دون تعقيب.. وهكذا بقى الموقف: مفاوضات مفتوحة دون سقف زمني.

استمر الأميركيون، على مدى سنوات، يهددون بأن العالم الغربي لن يسمح لإيران بالحصول على قدرة نووية عسكرية.. وأحيانا كثيرة كنت أميل إلى تصديق هذه المقولات لمعرفتي بمنطلقاتها وأهدافها، وهي كثيرة، خاصة مع اقتناعي بأن التهديد لإسرائيل وأمنها يختلف في مفهومه لدى الولايات المتحدة عن الموقف بالنسبة لكوريا الجنوبية أو حتى اليابان في وجه التهديد الكوري الشمالي، وهي الأوضاع التي كان البعض يستعيرها في النقاش أو الحوار الدائر، باعتبار عدم إمكانية المقارنة بين أوضاع غرب آسيا (إيران وإسرائيل ونفط الخليج)، مع شرق القارة الآسيوية (اليابان والكوريتين)، مهما قيل عن أهمية هذه الأطراف للاقتصاد العالمي.. وكثيرا ما تم تناول البعدين الروسي والصيني في إطار هذه المناقشات والمقارنات، وأقول المعادلات الخاصة بشرق القارة، أو على الأقل ارتباطهما بشكل أكثر التصاقا بهذا الإقليم الآسيوي المهم، وبخاصة الصيني، بما يمكن أن يحدث في البحر الأبيض المتوسط أو غرب آسيا (أذربيجان وتركيا والجمهوريات الإسلامية).

على الجانب الآخر.. لم تكن تغيب عني الأخطار العميقة التي يمكن أن يتعرض لها الشرق الأوسط من جراء عمل عسكري غربي ضد إيران: الآثار الاقتصادية المدمرة على الوضع العالمي واستقراره إذا ما وقع هذا الفعل.. وتدهور الأوضاع بالدول الإسلامية وبخاصة في مناطق الجوار الصيني والروسي.

من هنا أخذت أتابع كل هذه الآراء الغربية التي كانت تدفع نحو فكرة التعايش مع هذا الملف بالكثير من الاهتمام.. إذ إن الرؤية والهدف المصري حينذاك كانا في أهمية إقناع إيران بعدم المضي في الطريق العسكري، والتركيز فقط على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، ووجدنا في هذا الهدف اتفاقا من شركاء رئيسيين لنا (تركيا والسعودية وغيرهما)، في حين أخذ البعض في سوريا يروجون لفكرة هذا الملف النووي العسكري الإيراني باعتباره يحقق التوازن في الرعب النووي بين العرب وإسرائيل... وكانت لي بطبيعة الحال تحفظات كثيرة.

واستخدمنا مواقفنا في هذا الشأن في إطار بحث الموضوع على مستوى وكالة الطاقة الذرية الدولية، وفي اتصالاتنا الثنائية مع إيران. وعلى الخلاف من ذلك الفكر لدينا فإن هذه التوجهات الأميركية، التي كانت مُثارة منذ سنوات، وتتحدث عن التعايش والتوازن النووي مع إيران والقبول ببرنامجها - وفي الوقت نفسه استمرار تضييق الخناق عليها واقتصادها - تعتمد في منطقها على تجربة الحرب الباردة، والتوازن النووي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة طوال أربعين عاما.. بل إن بعض الكتابات الأميركية توصلت، في دفاعها عن هذا المنطق، إلى أن السماح بقدرة نووية إيرانية سيقودها إلى إنفاق باهظ سوف يفرضه هذا البرنامج متعدد الوجوه: صواريخ.. قنابل نووية.. إخفاء في صوامع عملاقة في باطن الأرض.. وغير ذلك من العناصر التقليدية في مثل هذا البرنامج وبما يجهز على الاقتصاد الإيراني أو إمكانيات التنمية النشطة للمجتمع الإيراني.. بل أخذت هذه الأفكار والتوجهات من المثال الباكستاني منهجا مقترحا لإضعاف إيران اقتصاديا وبما ينعكس على استقرارها.. وكنت وما زلت أستغرب فكرة إتاحة قدرة نووية لمجتمع ما، ثم العمل على إضعاف استقراره الداخلي بكل الأخطار الكامنة في ذلك.

كنت على اقتناع طوال السنوات بأن الملف النووي الإيراني، في بعده العسكري، وبافتراض صدق ما يقال ويتردد عنه - وهناك مؤشرات ولا شك على أن إيران تبغي الوصول (على الأقل) إلى مرحلة «العتبة» النووية - يمكن أن تكون له عواقب عميقة على وضعية مصر الاستراتيجية وسياساتها في الإقليم وعلى مستوى العالم.. وكانت منطلقاتي دائما في التحليل تدور حول نقاط محددة:

* أن إسرائيل لديها قدرة نووية عسكرية لم تعلن عنها إطلاقا بشكل رسمي، إلا أن كل المؤشرات تقول بوجودها.. وأن الملف النووي الإيراني، وفي انضمامه إلى الإسرائيلي، سيعقد الأمور ولن يسهلها، خاصة في مسألة منع الانتشار النووي، أو أخطار ولوج هذين الطرفين إلى تبني استراتيجيات، وصلت إليها القوى النووية سابقا، وكشفت عن أخطار مخيفة للبشرية.

* أن مصر، وبقية الدول العربية، وعلى مدى عقود، تُركز على ضرورة إقناع المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للتخلي عن الخيار النووي، خاصة وقد أثبتت المواجهة العسكرية في عام 1973 أن ما قيل عن وجود قدرة نووية إسرائيلية عندئذ لم يمنع مصر من توجيه ضربتها عبر القناة، أي أن السلاح النووي الإسرائيلي لم يمنع الحرب.. من هنا تطلب مصر والعرب أن تنضم إسرائيل إلى معاهدة منع الانتشار النووي.. كما أننا نتمسك طوال الوقت بألا تُعامل إسرائيل معاملة هؤلاء الذين لم يوقعوا المعاهدة، وقاموا بتجارب نووية، ولم يتم الاعتراف بهم رسميا في الوقت نفسه باعتبارهم دولا نووية، مثل الهند وباكستان، أو أخيرا كوريا الشمالية التي انسحبت منذ سنوات من إطار معاهدة منع الانتشار ونهجت مسارا نوويا عليه شكوك في قدراته الحقيقية.

* أن اقتناعي الجازم كان يقودني إلى نتيجة مفادها أن توصل إيران إلى قدرة نووية عسكرية كاملة، أو حتى الوصول إلى مرحلة «العتبة» النووية، سيؤدي إلى إفشال الجهد المصري العربي لإقناع القوى الغربية، على مدى زمني، بضرورة فرض انضمام إسرائيل إلى معاهدة منع الانتشار والتخلي عن السلاح النووي. وقد يقول قائل هنا إن هذه القدرة النووية الإيرانية يمكن أن تحقق التوازن بين إسرائيل والدول الإسلامية والعربية، في ما قد يسمى عندئذ توازن الرعب النووي الإسرائيلي - الإسلامي.. وأجدني أختلف بشدة مع هذه المقولة، إذ لم يثبت قط أن باكستان، ذات القدرة النووية، استخدمت أو هددت بتفعيل إمكانياتها النووية لإقامة توازن مع إسرائيل أو للدفاع عن الفلسطينيين و/أو العرب، بل إن التركيز الباكستاني كان دائما في النظر إلى خطر التهديد الهندي. وبالمثل فإن تقديري أن أي قدرة نووية إيرانية لن تُستخدم للدفاع أو الردع لحماية الإقليم الإسلامي من خروقات الغرب أو تهديدات إسرائيل.. بل إن هذه الإمكانيات الإيرانية ستستخدم، وفقط، للدفاع عن مصالح إيرانية سواء في ردع إسرائيل والغرب عن القيام بعمل عسكري ضدها، أو لتأمين استمرارية نظامها والجمهورية الإسلامية، وأخيرا لفرض سطوتها وتأثيرها على الإقليم والدفع بمصالح إيرانية تلقى حاليا المقاومة من أطراف خليجية، بل ومصر ذاتها ومعها تركيا. وقد يرى رأي أن القدرة النووية التكنولوجية الإيرانية البازغة يمكن أن تسهم في التأثير على الغرب بأن يفرض قيدا حديديا على القدرات النووية العسكرية لكل الأطراف الشرق أوسطية.. ويبقى ذلك أملا لنا نسعى لتحققه، خاصة أنه لا توجد دلائل حتى الآن على تحقيق انفراجة في الملف الإسرائيلي بمعزل عن السياسات العامة والعريضة لمسائل منع التسلح النووي في إطلاقه... أي وجود عالم خال من السلاح النووي.

* أن ظهور قدرة نووية إيرانية، ووجود هذه القدرة الإسرائيلية التي يتحدث عنها الجميع بثقة، سوف يجعل العالم العربي، خاصة المشرق ودول مجلس التعاون، يجلس في ظلال الرعب النووي أو الهيمنة من قبل هذين الطرفين الخارجين عن البيت العربي.. وسيفرض ذلك على البعض في هذا العالم العربي التفكير في ضرورة إقامة برنامج نووي عربي للردع أو الدفاع.. ولا شك أن مثل هذا البرنامج سوف تكون له - إذا ما اتفق عليه عربيا أو بين دولتين عربيتين لهما ثقلهما بالإقليم، وأقصد بهما مصر والسعودية - تأثيراته وعواقبه وتحدياته.. ولا شك أن مثل هذه الخطوة لها بصماتها لدى القوى الغربية والولايات المتحدة وإسرائيل، وبما يفرض على هذه الأطراف أهمية السعي لمنع إيران من الدخول في المجال النووي العسكري، وإلا فإن التهديد سيشمل كل عناصر اتفاقية منع الانتشار في علاقتها بالشرق الأوسط.

* تردد آراء بأنه إذا ما أفلتت إيران من قيود معاهدة منع الانتشار، وتوصلت إلى هذه القدرة النووية، فإن تركيا سوف تسعى هي الأخرى للحصول على إمكانيات نووية.. حتى لا يغيب النفوذ التركي بالإقليم بالمقارنة بالتأثير الإيراني فيه.. والحقيقة فإنني ورغم عدم استبعادي لهذا السيناريو المحتمل فقد كنت دائما أرى أن تركيا، وهي جزء من المنظومة الأمنية والعسكرية الأطلسية على المسرح الأوروبي منذ عام 1949، لن تستشعر الضغوط الاستراتيجية التي قد تحس بها أو تراها دولة مثل مصر أو السعودية، في حالة ظهور إيران نووية.

* كانت الولايات المتحدة تعرض بين الحين والآخر، ومنذ بدء إدارة بوش الابن، الأولى، ثم إدارة أوباما، ومع زيادة احتمالات الإمكانيات النووية الإيرانية، فكرة قيام الولايات المتحدة بتوفير غطاء سياسي استراتيجي تعاقدي مع الدول العربية بإقليم الشرق الأوسط للدفاع عنها ضد التهديدات النووية الإيرانية.. وكنا وما زلنا نرفض هذا الحديث لأنه يستهدف في الحقيقة، ليس التصدي للقدرات الإيرانية التي لا يتصور إطلاقا إمكانية استخدامها - بفرض وجودها - من قبل إيران ضد دول عربية وإسلامية، رغم محاولة الإيحاء الأميركي لنا بذلك، ولكن تمييع وإضعاف فكرة مقاومة البرنامج النووي الإسرائيلي بالادعاء بوجود غطاء أو مظلة أميركية لكل دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، ضد إيران.. ومن ثم فإن الهدف الأميركي في تقديري هو تمييع المقاومة ضد إسرائيل وليس الحماية من إيران.

* أن الاقتناع المستقر لدىّ أن السلاح النووي هو سلاح للردع فقط، وأنه منذ تجربة القنبلة الذرية الأميركية في يوليو (تموز) 1945 في صحراء نيومكسيكو، فقد استخدمت مرة واحدة يتيمة للدفاع ضد اليابان بضرب مدينتي هيروشيما ثم ناغازاكي خلال الأيام العشرة الأولى من أغسطس (آب) 1945. من هنا فإن إنفاق أي دولة لمثل هذه النفقات التي يتطلبها أي برنامج نووي، خاصة إذا ما كان في صورة شاملة ومتكاملة الوجوه، يمثل في تقديري إهدارا لموارد مجتمعات ترنو إلى التقدم والنمو وليس السطوة والسلطان. من هنا فإنني كنت دائما أتحسب من انجراف مصر إلى أوضاع تفرض عليها النظر في أو دراسة مثل هذا البرنامج.. كذلك كنت لا أستشعر الارتياح لآثار وعواقب هذا البرنامج النووي الإيراني العسكري، بافتراض صحة ما يتردد حوله، سواء في التعايش والقبول به من قبل الغرب وإسرائيل أو في ظروف مرتبطة بالمواجهة والحرب. كنت وما زلت أتحسب من الخطرين، أي خطر القدرة النووية الإيرانية التي يتعايش معها الغرب.. أو خطر التصدي لها بالحرب، وهي مرفوضة تماما. واليوم تزداد كثافة النقاش حول الموضوع.. ونبقى على المتابعة اللصيقة، وتصرفات ومواقف وأحاديث الأطراف المختلفة. وكنت من جانبي وفي إطار رصد الموقف الأميركي، باعتبار محوريته لكل المسألة، أقدر صعوباته، بين استمرار التصعيد في الحصار والعقاب الاقتصادي والإجراءات المخابراتية المتخصصة ضد إيران، والتي قد لا تقود في الغالب إلى إيقاف البرنامج الإيراني.. والصعوبة الأخرى في قرار الحرب بكل أخطارها وعواقبها على الجميع.. ويبقى الخيار الثالث، خيار تسوية سياسية فنية، تتيح لإيران الحق الكامل في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية تحت إشراف صارم وعملية تحقق ومراقبة مستمرة.. ونوفر الطمأنينة للجميع.. ويبقى أن تقبل الأطراف بهذا الخيار.