الأقاليم تتكتل سياسيا أمام ضعف المركز في الهند

قادة الولايات يتجهون لتشكيل «جبهة ثالثة» لمواجهة الحزبين الكبيرين قبل انهيار متوقع للحكومة

مانموهان سينغ
TT

يبدو الأمر وكأن عصورا قد مضت، لكن كان رئيس الوزراء الهندي، مانموهان سينغ، وحكومته الائتلافية، مصدر إلهام ومحل توقعات وآمال عريضة في وقت من الأوقات. كانوا يسعون إلى إنعاش الاقتصاد الهندي وتحسين التعليم ومساعدة الفقراء وإنشاء خطوط نقل عصرية وأنظمة طاقة متقدمة، وربما إثبات إمكانية نجاح حكم الهند، التي تعد أكبر الدول من حيث عدد السكان، وأكثرها فوضوية بين الدول الديمقراطية. كان هذا عام 2009، عندما فاز الائتلاف الحاكم بقيادة حزب المؤتمر الهندي في الانتخابات، على عكس المتوقع. كان الاقتصاد الهندي حينها يتعافى بالكاد من حالة الركود العالمي، وبدا أن البلاد تنتقل من حقبة السياسة المفتتة التي تتسم بالتمزق إلى مرحلة جديدة تمتلك خلالها حكومة مركزية في نيودلهي زمام الأمور. وكان هذا نبأ سارا بالنسبة لمن كان ينظر إلى الهند باعتبارها قوة عالمية صاعدة.

عادت الحسابات السياسية في الهند اليوم إلى مرحلة التقلب مرة أخرى. يتجه الاقتصاد نحو الانهيار ويحاول سينغ وحكومته بكل قوتهم استعادة مصداقيتهم، وتتحول دفة السلطة حاليا إلى رؤساء وزراء الولايات، الذين يفكرون بشكل استفزازي في تكوين تحالف سياسي قومي، يُطلق عليه اسم الجبهة الثالثة التي تنافس القوتين الأخريين، وهما حزب المؤتمر الوطني وحزب بهاراتيا جاناتا المعارض.

وأصبح رؤساء وزراء الولايات، الذين كانوا مختفين في الظل، في موقع صنّاع الملوك مرة أخرى. ويسعى مولايام سينغ ياداف، رئيس حزب ساما جوادي، لأن يكون مصدر إلهام شعبي كرئيس وزراء المستقبل. وقال براتاب بهانو ميهتا، رئيس «مركز الأبحاث السياسية في نيودلهي»: «ما يدفع كل حزب من المعارضة نحو الحلفاء هو توجيه رسالة مفادها أن حزب المؤتمر لا يستطيع أن يحكم. إنها بمثابة دعامة في الانتخابات».

لو كانت حكومة سينغ وصلت إلى مستوى التوقعات الأولية، أو حتى اقتربت من تحقيق ذلك، لكان المشهد السياسي قد تغير تماما بالتأكيد. وقال ميهتا: «لقد أفسدوا الأمر برمته». ويحمل بزوغ نجم ياداف وعدد من الزعماء السياسيين على مستوى الولايات الكثير من الدلالات الضمنية فيما يتعلق بالسياسة الهندية، لكن في الوقت ذاته يثير هذا التوجه تساؤلا أكبر بشأن منحنى التغير في الاقتصاد الهندي. إذا كانت الفرضية القديمة تقوم على حاجة الهند إلى حكومة مركزية حتى تستطيع أن تنافس عالميا وتتفادى الميزة التنافسية للصين، ما الذي سيحدث الآن إذا كان ما يحدث هو العكس؟

لا يقدم لنا التاريخ كثيرا من المؤشرات التي تبعث على الطمأنينة. فقد تولت حكومات من جبهة ثالثة السلطة مرتين خلال العقود الماضية، وانهارت مرتين بسبب التطاحن والتناحر الداخلي الذي يعد مظهرا من مظاهر عدم الاستقرار الذي لا يلقى قبولا لدى من في نيودلهي وواشنطن ممن يتطلعون إلى هند مستقرة وذات دور مؤثر فاعل في آسيا. ويشكك أكثر المحللين في وصول جبهة ثالثة حقيقية إلى الحكم في المستقبل القريب، لكنهم يتفقون على تنامي نفوذ حكام الولايات. وقال أشوتوش فارشني، وهو خبير سياسي في شؤون الأحزاب الإقليمية، خلال مقابلة تمت عبر البريد الإلكتروني: «سيتعين على السياسة الهندية أن تتعايش مع الصفقات والمفاوضات مع الأحزاب الإقليمية. وربما تظهر جبهة ثالثة أو لا تظهر، لكن سيتعين على كل من الحزبين القوميين الكبيرين التفاوض وعقد الصفقات. ويعني هذا أيضا أن الهند ستجد صعوبة أكبر في التماسك على المستوى الدولي أمام الصين. ستتزايد قوة الهند لكن تدريجيا».

لقد انهارت حكومة سينغ الائتلافية تقريبا الأسبوع الماضي بعد دفعه باتجاه اتخاذ إجراءات اقتصادية لا تحظى بقبول شعبي، مثل زيادة أسعار وقود الديزل وإجراء تحول في السياسة يتيح لشركات عملاقة مثل «وول مارت» فتح متاجر تجزئة هنا. ووصفت ماماتا بانيرجي رئيسة وزراء ولاية البنغال الغربية، التي تحظى بشعبية كبيرة، تلك الخطوات بأنها ضد الفقراء، وانسحب حزبها من الحكومة الائتلافية، مما هدد بانهيار حكومة سينغ، إلى أن تدخل ياداف وزعيم إقليمي غير مشارك في التحالف هي ماياواتي لإنقاذ الحكومة، على الأقل حتى هذه اللحظة، وتعهدا بتقديم دعم «خارجي».

لم تكن الخطط تتسم بالإيثار، حيث ظل ياداف وقادة إقليميون آخرون لشهور يتوقعون، أحيانا بسعادة، انهيار الائتلاف الحاكم، وهو الأمر الذي يستدعي إجراء انتخابات برلمانية مبكرة قبل الموعد المقرر في عام 2014. ويرى محللون أن زعماء الولايات اتخذوا موقفا باردا بسماحهم ببقاء الحكومة، حيث رأوا أن ترك الحكومة المركزية الجريحة تستمر يمنحهم في الوقت الحالي ما هو أفضل من محاولة الحصول على مزيد من المقاعد من خلال الدفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة.

تتلخص الاستراتيجية في تسديد لكمة لحكومة سينغ، بحيث إذا لم تقض عليها هذه اللكمة، تتسبب بضرر أكبر لحزب المؤتمر الوطني على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال يقدم ياداف دعما برلمانيا إلى الحكومة، على الرغم من تخطيطه للحشد ضد «وول مارت» وبعض الإجراءات الاقتصادية الأخرى. لقد عانى الاقتصاد الهندي كثيرا بسبب فترة الركود العالمي الطويلة، لكن المحللين يقولون إن مشكلات الهند الحالية لها أسباب داخلية بشكل غير متناسب، فنظام القيادة المكون من رأسين هما سينغ وسونيا غاندي، رئيسة حزب المؤتمر الوطني، كان جيدا وفعّالا في السابق، لكن تزداد عدم فعاليته يوما بعد يوم. ويحاول سينغ من جانبه تغيير المسار إلى الاتجاه المعاكس وإعادة تموضع حزب المؤتمر كعنصر من العناصر المشاركة في الإصلاح. ومن المتوقع أن يجري تغييرا وزاريا خلال الأسبوع الحالي ويعلن عن مزيد من الإجراءات الاقتصادية، منها الإسراع بالإنفاق العام على إنشاء مطارات جديدة وأنظمة مترو أنفاق.

ويبدو سنيغ، الذي أتم عامه الثمانين الأربعاء، أكثر عزما وإصرارا على اتخاذ خطوات حاسمة ربما رغبة منه في الحفاظ على تاريخه. ألقى خطابا على شاشة التلفزيون القومي في الآونة الأخيرة سعى خلاله إلى توضيح سبب زيادة أسعار الوقود ودوافع اتخاذ إجراءات أخرى ضرورية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد. وبعد أشهر عانت خلالها سمعته من التشويه، أصبح لسينغ نصيب من المديح في وسائل الإعلام الهندية على الرغم من تحذير كثير من المعلقين له من رجوعه إلى ما بدا كثيرا أنه أسلوب حكم يتسم باللامبالاة والاستهتار. وذكرت صحيفة «إنديان إكسبريس»، الصادرة باللغة الإنجليزية، في مقالها الافتتاحي: «جوهر السياسة التقدمية هو الاتصال، وهي مهارة على الحكومة الحالية تعلمها سريعا». وعلى الجانب الآخر، سيستمر قادة الهند في الولايات بالدفع من أجل الحصول على مكاسب. وتعتزم بانيرجي تنظيم مظاهرة ضخمة حاشدة في نيودلهي الاثنين المقبل ضد الإجراءات الاقتصادية الجديدة التي اتخذتها الحكومة. وعلى الرغم مما يُوجه لبانيرجي من انتقادات بسبب إدمانها للخمر وسلوكها الذي لا يمكن توقعه، لا يمكن إنكار نفوذها، حيث التقتها السفيرة الأميركية نانسي باول، الأسبوع الحالي، بشكل شخصي، وكذلك أشارت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى مقابلتها، خلال زيارتها المقبلة إلى الهند المقررة في مايو (أيار).

ويتزايد نفوذ زعماء ولايات آخرين بصفتهم شخصيات قومية ذات تأثير قوي. ولمح نيتيش كومار، رئيس وزراء ولاية بيهار، إلى إمكانية انضمام حزبه إلى أي ائتلاف يمنح الولاية التي يحكمها مكاسب خاصة. وأعرب نافين باتنيك، رئيس وزراء ولاية أوريسا، عن دعمه لائتلاف جبهة ثالثة. كما تحدثت جايالاليتا، رئيسة وزراء ولاية تامل نادو، عن تحالف سياسي جديد مقترح. وحظي أكثر هؤلاء الزعماء بالدعم السياسي من خلال الإسهام في النمو الاقتصادي، وشاركوا بذلك في تحسين وضع الحكومة بدرجات مختلفة. وهذا من أسباب تحديث إمكانية استمرار اقتصاد البلاد على الرغم من عودة السياسة الهندية إلى مرحلة التمزق مرة أخرى، بحسب ما يعتقد بعض المحللين. وخلال السنوات الأخيرة التي شهدت جمودا سياسيا في الحكومة المركزية، تحول تركيز كثير من الشخصيات البارزة على المستويين المحلي والعالمي إلى التفاوض مع زعماء الولايات. ويتوقع أكثر المحللين أن يخسر كل من حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا مقاعد خلال الانتخابات المقبلة، لكن سيتحالف أحد الحزبين مع بعض زعماء الولايات من أجل تشكيل حكومة، وربما يتفقون على تصعيد أحدهم إلى منصب رئيس الوزراء. ولا يوجد أدنى شك في رغبة كثيرين منهم في الوصول إلى هذا المنصب.

* خدمة «نيويورك تايمز»