هونغ كونغ.. المحمية البريطانية السابقة تتعلق بهويتها المنفصلة

رموز الحقبة الاستعمارية يلوحون بأعلام الاحتلال ويثيرون غضب الصين

رموز الحقبة الاستعمارية يلوحون للعودة إلى الحكم البريطاني (واشنطن بوست)
TT

قال شين زوير، مسؤول بكين الذي ساعد في مفاوضات عودة هونغ كونغ إلى السيادة الصينية قبل 15 عاما، خلال زيارته الأخيرة إنه كان «حزينا» عندما علم بشأن المظاهرات التي اجتاحت هونغ كونغ رافعة أعلام فترة الاحتلال التي تحمل شعار العلم البريطاني.

وقال شين: «ينبغي أن ترسل هذه الأعلام إلى متاحف التاريخ، لا أن تعرض في الشوارع».

بيد أن ظهور هذه الشعارات القديمة للإمبراطورية في أيدي متظاهرين معادين لبكين كانت نوعا من الهدية الدعائية للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، الذي طالما وصف المظاهرات في هونغ كونغ بتدبير الخونة المتآمرين الموالين لقوى أجنبية، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة.

ووصف صحيفة «تا كونع باو»، الصادرة في هونغ كونغ والتي يسيطر عليها الحزب، التلويح بالأعلام بأنه دليل على الخطر الذي تمثله مجموعة صغيرة من «الذئاب الطموحة» الرامية إلى إشاعة الفوضى في المستعمرة السابقة وخدمة أعداء الصين. وأكدت الصحيفة أن غالبية سكان هونغ كونغ يتمسكون بـ«روابطهم بالأرض الأم التي لا غنى عنها».

كانت أعداد الأفراد الذين جابوا الشوارع حاملين رموز الحقبة الاستعمارية قليلة ولا تعكس حنينا واسعا للعودة إلى الحكم البريطاني. لكن، وبعد 15 عاما بوصفها جزءا من الصين، استيقظ سكان الجزيرة، الذين يشكل الصينيون غالبيتهم، والفخورون للغاية بإرثهم الصيني، ليروا بقية البلاد مصدرا للمشكلات لا الفخر، والحاجة إلى الحفاظ على مسافة منها.

كان رحيل بريطانيا عن هونغ كونغ في عام 1997 الذي حول مستعمرة التاج إلى إقليم إداري خاص تابع للصين، يمثل لحظة انتصار وتفرد في تاريخ شرعية الحزب الشيوعي، فالحزب وحده فقط هو القادر على «محو خزي» الحقبة الاستعمارية من الإذلال، وتمثيل طموحات كل الصينيين بشكل كامل. اعتادت بكين وصف منتقديها هنا وفي مناطق أخرى بمضادي الشيوعية، لكنها الآن تصفهم بأعداء الصين، تلك الإهانة التي تحول أي تحد للحزب الحاكم إلى اعتداء على الأمة الصينية.

بيد أن هونغ كونغ رفضت بشكل متكرر خلال الأعوام التي عادت فيها إلى سيادة الصين، مبدأ احتكار الحزب للوطنية الصينية. فهو الذي يكرم الرياضيين الحاصلين على الميداليات في دورات الألعاب الأولمبية ورواد الفضاء، ويقيم عرض الألعاب النارية للاحتفال بالعيد الوطني في 1 أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، الذي خيم عليه الحزن هذا العام نتيجة تحطم عبارة هونغ كونغ الذي راح ضحيته 38 شخصا.

لكن بدءا من المظاهرات التي قام بها نصف مليون شخص احتجاجا على قانون منع التخريب الذي اقترحته بكين وانتهاء بالمظاهرات الأخيرة ضد مناهج التربية الوطنية في المدارس، تحدى سكان هونغ كونغ (ترجع أصولهم إلى الصين) بأعداد كبيرة رواية بكين التي تتحدث عن لم شمل العائلة ذات الهوية الواحدة التي انفصل بعضها عن بعض قبل فترة طويلة.

ويقول كيني تشوي، 23 عاما، ويعمل في مصنع طباعة وشارك في مظاهرة الشهر الماضي التي قامت بالتلويح بأعلام حقبة الاحتلال البريطاني: «أنا صيني مائة في المائة. لكني لا أثق في الشيوعيين الصينيين.. هونغ كونغ مختلفة ويجب أن نحافظ على قيمها الخاصة». انضم جوي إلى المسيرة التي أقيمت في محطة القطارات القريبة من معبر حدودي مع البر الرئيسي للتعبير عن غضبه من حشود التجار الصينيين الذين يتوافدون كل يوم عبر القطارات لشراء مستلزمات الأطفال وأدوات التجميل والبضائع الأخرى لبيعها في الجانب الآخر من الحدود.

كانت المظاهرة قبيحة وتفيض غالبيتها بالكراهية للأجانب مع لافتات تطالب بعودة سكان البر الرئيسي من حيث جاءوا، لكنها عكست في الوقت ذاته الاستياء المتنامي في هونغ كون نحو أشقائهم الصينيين في الجهة المقابلة من الحدود.

مع الوقت ذاته امتلأت الصحافة المحلية بالغضب من المشاجرات في موقع للتخييم زاعمة أن المتسكعين ومثيري المشكلات كانوا من البر الرئيسي وتحدثت أيضا عن أن سائحة من البر الرئيسي ضربت الدليل السياحي ثم اختفت داخل المدينة لتجنب الملاحقة القانونية.

كانت الأجواء مشحونة إلى حد أن تسببت حادثة العبارة في انطلاق شعور معاد للبر الرئيسي بعد زيارة لي غانغ، نائب مدير مكتب ممثل بكين في هونغ كونغ، إلى المستشفى لتقديم مواساته والتأكيد على قلق الحكومة المركزية.

وقد حظيت زيارة، الرئيس التنفيذي لمنطقة هونغ كونغ ليونغ تشون ينغ، باهتمام واسع في صفحات الجرائد وعلى الإنترنت ووصفت بأنها استعمال لوسائل الحزب الشيوعي وتدخل في شؤون هونغ كونغ. وقد زادت بكين من تطور الأوضاع سواء عندما أعلنت أن القادة الصينيين أصدروا تعليمات مهمة لحكومة هونغ كونغ حول كيفية التعامل مع الكارثة.

تحظى هونغ كونغ بدرجة كبيرة من الاستقلالية عن بكين وفق صيغة عرفت باسم «دولة واحدة ونظامين»، ولا تزال هونغ كونغ تدير شؤونها الخاصة، عدا الدفاع والعلاقات الخارجية. وعلى الرغم من الشكاوى المتزايدة من الرقابة الذاتية التي يقوم بها الصحافيون، لا تزال هونغ كونغ تحتفظ بصحافة حرة جريئة وطورت صناعة نشر قوية مزدهرة تنتج الكثير من الكتب والمجلات حول السياسة الصينية، التي تباع بشكل كبير للزائرين من البر الرئيسي الذين لا يثقون في الإعلام القوي الذي تسيطر عليه الدولة.

ويقول المراقبون الخارجيون إن بكين تدخلت بشكل موسع في اختيار الرئيس التنفيذي لهونغ كونغ بداية العام الحالي من قبل لجنة مؤلفة من 1200 شخص تغص بالسياسيين الموالين لبكين، لكنه عانى منذ ذلك الحين من عقبات واضحة في جهود الصين للترويج للأجندة الوطنية. وبعد ضجة هنا اضطرت هونغ كونغ الشهر الماضي إلى تأجيل خطط دراسة مقررات التربية الوطنية الإجبارية في كل المدارس وتخضع الآن لضغوط مكثفة من الرأي العام لإسقاط المشروع ككل.

من ناحية أخرى، تمارس القوى الاقتصادية والسياسية، خاصة الديموغرافية من جانب البر الرئيسي ضغوطا كبيرة على هونغ كونغ، نتيجة تدفق الزوار من البر الرئيسي. فقد زار نحو 28 مليون صيني هونغ كونغ العام الماضي، وهذا العدد يفوق أربعة أضعاف تعداد سكان الجزيرة. ففي بعض مناطق التسوق، يجري الحديث بلغة المندارين، التي لا يتحدثها كثير من سكان هونغ كونغ، بشكل مساو وربما أكبر من لغة الكانتونيز، اللغة الرسمية للمستعمرة السابقة.

ويرى تشين وان كان، مؤلف الكتاب الأكثر إثارة للنقاشات الذي يدافع عن حق هونغ كونغ في أن تصبح مدينة - دولة، أن هونغ كونغ ليست لديها مشكلة في شكلها الحالي، الذي يصفه بأنه «مزيج من الثقافة الصينية العفنة والاحتلال السوفياتي». وقال إن «هونغ كونغ صينية دون شك لكن بفضل قربها الطويل من الغرب فهي تمثل الثقافة الصينية الحديثة».

أحد أعراض التوتر الذي يصيب العلاقات بين هونغ كونغ وباقي الصين هو الإقبال المتزايد لأمهات البر الرئيسي على حليب الأطفال في هونغ كونغ. فبفضل سيادة القانون ورقابة الصحافة الحرة، لا تسمح متاجر هونغ كونغ على الإطلاق بوضع منتجات الأغذية المعدلة على أرففها على عكس البر الرئيسي، الذي شهد - نتيجة الفساد المستشري وشبه الانهيار التام للثقة - موجة من عمليات الاحتيال الغذائي القاتلة في بعض الأحيان.

تبيع المتاجر في البر الرئيسي أنواع حليب الأطفال نفسها التي تباع في هونغ كونغ، لكن الكثير من الأمهات الصينيات يعتقدن أنها مزيفة وربما تكون خطرة. ونتج عن ذلك زيادة الطلب على المنتجات المهربة من هونغ كونغ وسعادة تجار الجزيرة لكنه أغضب السكان في الولايات القريبة من الحدود الذين شكوا من ارتفاع الأسعار وقلة المواد الغذائية.

ومع انزعاجها من المظاهرات الأخيرة في المدن الحدودية بدأت السلطات في هونغ كونغ إجراءات تعسفية ضد تجار اليوم الواحد من البر الرئيسي، كما فعلوا في السابق عندما فرضوا رقابة قوية لمنع السيدات الحوامل من الولادة في المدينة المزودة بمستشفيات جيدة التجهيز.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»