ميانمار تتخلى عن الصين لصالح اليابان

البلد المتحول إلى الديمقراطية يضع الاعتبارات التاريخية جانبا ويمنح مشاريعه الكبرى لليابانيين

تلميذ يجتاز أنبوب ماء في رانغون. يذكر أن الجزء الأكبر من البنية التحتية للمدينة، بما فيها شبكة المياه، بني خلال فترة الاستعمار البريطاني الذي انتهى في عام 1948 (نيويورك تايمز)
TT

في شارع وسط رانغون، التقطت الثواني الأخيرة من حياة كينجي ناغاي في صورة حازت جائزة «بوليتزر»، وهي صورة تجسد وحشية الحكم العسكري في ميانمار. تعرض الصحافي الياباني ناغاي لطلق ناري قبل خمس سنوات أثناء قمع وحشي لمتظاهرين من قبل قوات الأمن، وكانت وفاته نقطة تحول في العلاقات بين ميانمار واليابان.

والآن، مع سعي ميانمار للتخلص من ماضيها الاستبدادي، تظهر صورة مختلفة تماما. فقد بدأت اليابان توسيع نطاق وجودها في ميانمار من خلال دعم حكومي واسع وبروز للشركات، على نحو يذكر بالاستثمارات الضخمة في أوج القوة الاقتصادية العالمية لليابان في ثمانينات القرن العشرين.

على بعد عمارة واحدة من الموقع الذي قتل فيه ناغاي، بالطابق الرابع من سيتي هول، يرسم أربعة وعشرون مهندسا يابانيا خطة رئيسية لإعادة بناء الطرق وشبكات الهواتف والإنترنت وإمدادات المياه وأنظمة الصرف الصحي في رانغون، العاصمة التجارية التي ظلت مهملة لفترة طويلة. ومع الاهتمام بالتفاصيل الذي يشتهرون به، يقيس المهندسون اليابانيون أنماط الحركة في رانغون، بفحص مواسير مياه تعود إلى سبعين عاما مضت، ودراسة خرائط ومخططات. وقال إتشيرو ماروياما، نائب رئيس البعثات بالسفارة اليابانية في رانغون «لسان حال ميانمار يقول: مرحبا!.. من فضلكم ساعدونا».

يقوم الرئيس ثين سين، الذي سافر إلى طوكيو في وقت مبكر من هذا العام لطلب المساعدة، بتعهيد أجزاء رئيسية من جهوده الرامية لإعادة تطوير البلاد إلى اليابانيين. وإضافة إلى تطوير رانغون، أوكلت إلى اتحاد شركات ياباني مهمة بناء منطقة صناعية ضخمة ومدينة أقمار صناعية في ضواحي رانغون. وقد أذهل إجمالي الدعم الياباني هؤلاء الذين يراقبون البلاد عن كثب. «لقد انتابتني الدهشة من حجم المشاركة اليابانية والسرعة التي تحركوا بها»، هكذا تحدث شون تيرنل، خبير في اقتصاد ميانمار بجامعة ماكواري في سيدني.

وباختيار اليابان لتنفيذ هذه المشروعات الرئيسية، تتحول ميانمار بعيدا عن الصين، أكبر مستثمريها الأجانب في السنوات الأخيرة. وقد أصبحت ميانمار ساحة معركة استراتيجية بين أكبر قوتين آسيويتين، الصين واليابان، بحسب تيرنل، الذي قال «هذه منافسة على التفوق والسيطرة في آسيا».

للصين واليابان مصالح مختلفة في ميانمار. فاليابان متلهفة على استغلال القوة العاملة الرخيصة في ميانمار وتوسيع نطاق شبكاتها الضخمة من المصانع الممتدة إلى تايلاند والهند الصينية. كما تبدو الصين أكثر تركيزا على استخلاص مصادر طبيعية من ميانمار مثل الغاز الطبيعي والمجوهرات والخشب والرصاص والمطاط، إضافة إلى كهرباء من سدود كهرومائية.

وقد أدى الانطباع بأن الصين تنتزع من البلاد تلك الموارد إلى رد فعل معاد للصين، بما في ذلك مظاهرات اندلعت مؤخرا ضد منجم نحاس بالقرب من وسط مدينة مونيوا، وتعليق عمل سد مييتسون الهيدروليكي. ويقول جون بانغ، المدير التنفيذي لمؤسسة «سي إيه آر آي» البحثية الكائنة في ماليزيا، إن اتجاه حكومة ميانمار إلى اليابان «لا يعد انجذابا لليابان بقدر كونه اشمئزازا من الصينيين». وأضاف «إنها لعبة تخلى عنها الصينيون». وتابع بانغ أن اليابانيين أعطوا انطباعا بأنهم ليسوا مصدر تهديد»، وتمكنوا من بناء الثقة مع قادة ميانمار.

وقد سعت حكومات أخرى إلى تحسين العلاقات واتصالات العمل مع ميانمار - شركات من كوريا الجنوبية وسنغافورة نشطة جدا في البلاد - غير أن اليابان كانت أكثر شمولية في أسلوبها. وتتمثل الاستراتيجية العامة لليابان في نشر القوة الكاملة لما كان من المتعارف الإشارة إليه باسم «اتحاد الشركات اليابانية». تعمل بعض أكبر الاتحادات في الدولة - «ميتسوبيشي» و«ماروبيني» و«سوميتومو» - بالتنسيق مع وزارة التجارة الدولية والصناعة اليابانية. وقال ماساهيكو تاناكا، كبير ممثلي وكالة التعاون الدولي في اليابان، والتي ستقدم التمويل للمشروعات «لم يكن لدينا أي مشروع على هذه الشاكلة خلال عشرين عاما على الأقل».

وتقول الحكومة اليابانية إنها على استعداد لإقراض ميانمار أموالا لتنفيذ المشروعات بناء على شروط تعتبر أقرب إلى منح: قروض بفائدة قيمتها 0.01 في المائة مستحقة الدفع خلال 50 عاما مع عدم وجود أي مدفوعات مستحقة للسنوات العشر الأولى.

وبينما تعتبر الأموال الرخيصة بلا شك مصدر جذب لبلاد تفتقر للمال، يبدو أن ثين سين يركن إلى شيء آخر: المساعدة في الفوز بالانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في عام 2015. «إنهم يطلبون انتهاء المشروع قبل بداية عام 2015»، هذا ما قاله ماروياما، نائب رئيس البعثات، مشيرا إلى المنطقة الصناعية، المعروفة باسم ثيلاوا، والتي سوف تضم أيضا بنوكا ومدارس ومستشفيات ووسائل راحة بمدينة بنيت من العدم. ويطلق على الجدول الزمني بشكل ساخر تسمية «مهمة مستحيلة». ويقول يوهي ساساكاوا، رئيس «نيبون فاونديشن»، المؤسسة الخيرية اليابانية التي تركز دعمها على المناطق التي تعيش فيها الأقليات العرقية الفقيرة، إن الحكومة على وعي تام بأن السكان سيرغبون في رؤية «ربح من الديمقراطية» - مكاسب ملموسة من التحول من الحكم العسكري. وقال ساساكاوا «كل شخص في البلاد سيرغب في جني ثمار التحول إلى الديمقراطية». وقد طالب ثين سين بأن تعطي «نيبون فاونديشن» أولوية للمشروعات التي يمكن إتمامها بسرعة، مثل بناء مدارس ابتدائية في مناطق نائية، على حد قول ساساكاوا.

وتعد خطط اليابان لتطوير رانغون رائدة. فقد أنشئت أجزاء ضخمة من البنية التحتية في المدينة إبان أيام الاستعمار البريطاني، التي ولت في عام 1948. وتسير سيارات التدريب على طرق أقامها بريطانيون على خطوط سكك حديدية بالية. ويغطي نظام صرف صحي متهدم المنطقة المركزية فقط، والأنابيب المفترض أن توفر المياه النظيفة مليئة بالشقوق التي تؤدي إلى ارتشاح المياه.

«التحكم في الارتشاح مشكلة ملحة»، هكذا تحدث ماسارو ماتسوكا، أحد المهندسين الذين تم إرسالهم لإصلاح نظام المياه. وفي مدينة فوكوكا التي ولد فيها، في جنوب اليابان، تتسرب نسبة 2.6 في المائة من مياه الصنابير من النظام. وفي رانغون، تزيد النسبة على 40 في المائة. وقد تم نقل المعدات من اليابان، الأمر الذي سيساعد في تحديد مواضع الشقوق والتصدعات تحت الأرض، بحسب ماتسوكا.

وفضلا عن ذلك فإن الحكومة اليابانية تعكف على دراسة خطط لأنظمة نقل ضخمة وعلى إعادة تأهيل أربع محطات طاقة تزود رانغون بالكهرباء، وعلى بناء جسر ثان فوق نهر باغو وإضافة ستة مراس إلى الميناء بالقرب من رانغون والتي سوف تخدم مشروع ثيلاوا. وتقول الحكومة اليابانية إن لديها فكرة أفضل تتعلق بتكلفة المشروعات فور الانتهاء من دراسات الجدوى نهاية العام.

وبينما يبدو اهتمام اليابان بميانمار جيو-استراتيجيا بشكل جزئي، فإنه بالنسبة لبعض اليابانيين الأكبر سنا ترسيخ لإعادة المشاركة من جانب اليابان علاقة طويلة الأمد - تميزها تحولات هائلة - بين البلدين. تلقى أونغ سان، بطل الاستقلال في البلاد (والد أونغ سان سو تشي، زعيم المعارضة في البرلمان الآن) التدريب في اليابان قبل أن يقود الجهود للإطاحة بالبريطانيين من الدولة.

وبمد يد العون للشخصيات الرئيسية في حركة الاستقلال في بورما، ينظر اليابانيون لأنفسهم باعتبارهم هم من حققوا استقلال بورما عن بريطانيا، بحسب تيرنل. وكان الغزو الياباني اللاحق لبورما إبان الحرب العالمية الثانية وحشيا. إلا أن البلدين وطدا نوعا من العلاقة بين الأعداء السابقين، وهو ما يشبه بدرجة كبيرة العلاقة التي تربط الولايات المتحدة وفيتنام اليوم.

* خدمة «نيويورك تايمز»