جدل بين الكونغرس والخارجية حول الاستعانة بشركات الأمن الخاصة بعد هجوم بنغازي

وسط دعوات لتوفير مزيد من الحماية للدبلوماسيين في الخارج

TT

في خضم الجدل الذي تشهده سنة الانتخابات الأميركية حول الهجوم الذي شنه مسلحون على بعثة الولايات المتحدة في بنغازي الليبية، تاهت قصة قديمة معقدة تتحدث عن تصاعد حالة السخط التي تسود المنطقة تجاه شركات الأمن الأميركية الخاصة ذات التسليح المكثف، وزيادة الطلب على موارد وزارة الخارجية الأميركية، وتفاقم شعور الإحباط بين الدبلوماسيين من تشديد إجراءات الحماية أكثر من أي وقت مضى، مما يجعل من الأصعب عليهم القيام بوظيفتهم، على حد قولهم.

وتأتي هجمات بنغازي، التي قتل فيها سفير الولايات المتحدة و3 أميركيين آخرين، في نهاية فترة 10 سنوات عكفت فيها وزارة الخارجية، التي ترسل موظفيها إلى قائمة متزايدة من مناطق الحرب والمناطق القابلة للانفجار، على تشديد الإجراءات الأمنية لحماية دبلوماسييها، وقادت التدابير العدوانية التي تستخدمها شركات الأمن الخاصة في النهاية إلى حدوث حالات إطلاق نار في أفغانستان والعراق أثارت موجة من الاحتجاجات، ومن بينها واقعة إطلاق حراس من إحدى شركات الأمن الأميركية، وهي شركة «بلاك ووتر» النار على 17 عراقيا على الأقل في ساحة النسور ببغداد.

وتحوم أشباح عملية إطلاق النار هذه فوق بنغازي، ففي وقت سابق من هذا العام، أعلنت الحكومة الليبية الجديدة صراحة منع الشركات المسلحة الشبيهة بشركة «بلاك ووتر» من التدفق إلى داخل البلاد. وأوضح مسؤول كبير في وزارة الخارجية: «الليبيون لم يكونوا متحمسين للسماح بدخول جنود على الأرض». وقد أجبر ذلك وزارة الخارجية على الاعتماد في المقام الأول على ذراع الأمن الدبلوماسي الخاصة بها، التي يقول المسؤولون إنها تنقصها الموارد اللازمة لتوفير مستوى ملائم من الحماية في مناطق الحرب.

كما شهد الكونغرس هذا الأسبوع جدلا بين الديمقراطيين والجمهوريين أثناء جلسة استماع عقدتها لجنة الإشراف والإصلاح الحكومي التابعة للكونغرس بشأن ما جرى في بنغازي، وما إذا كان الأمن المرافق للبعثة كافيا أم لا، وما كان يمكن فعله، إن وجد من أجل منع حدوث هذه المأساة. ولكن وسط الدعوات إلى توفير مزيد من الحماية للدبلوماسيين في الخارج، حذر بعض المسؤولين الحاليين والسابقين في وزارة الخارجية من مخاطر تجاوز الحدود المعقولة. فقد ذكر إريك نوردستورم، الذي ظل حتى وقت سابق من هذا العام يعمل رئيس الأمن بسفارة الولايات المتحدة في مدينة طرابلس الليبية، أمام اللجنة: «الحل لا يمكن أن يكون العمل من غرفة محصنة تحت الأرض». وقالت باربارا بودين، التي كانت تعمل سفيرة لدى اليمن وقت تفجير المدمرة «كول» عام 2000: «ما نحتاج إليه هو سياسة لإدارة المخاطر، ولكن ما لدينا الآن هو سياسة لتجنب المخاطر. لا أحد يريد تحمل المسؤولية في حال حدوث شيء، وبالتالي فلا أحد لديه استعداد لعقد مناقشة حول ما يعتبر إجراءات أمنية معقولة وما يعتبر تجاوزا للحدود».

ومن وجهة نظر وزارة الخارجية، فإن الوضع الأمني في ليبيا يتلخص جزئيا في السؤال التالي: هل تعتبر هذه منطقة حرب أم مجرد مركز دبلوماسي آخر في أفريقيا؟ ورغم أن البلاد ما زالت قابلة للانفجار في أعقاب الثورة الدامية التي أسقطت العقيد معمر القذافي، فإن وزارة الخارجية الأميركية لم تدرج ليبيا على قائمة المناطق الخطيرة التي تحظى بأولوية أولى في تخصيص المزيد من الموارد الأمنية. وكشف تقرير صدر عن المفتش العام بوزارة الخارجية في شهر فبراير (شباط) الماضي، عن أن السفارات الأميركية لدى العراق وأفغانستان وباكستان هي الوحيدة المعفاة من إسناد العقود الأمنية إلى الشركة صاحبة أقل عطاء، حيث يسمح للمناطق الخطيرة بدلا من ذلك بأن تمنح العقود على أساس «أفضل قيمة».

وقد حاولت الشركات الأمنية الخاصة الكبرى التي تولت حماية الدبلوماسيين الأميركيين في العراق وأفغانستان، أن تحصل على عقود من وزارة الخارجية الأميركية في ليبيا، وواحدة منها على الأقل تقدمت بعرض شخصي إلى السفير كريستوفر ستيفنز، الذي قتل في الهجوم الذي شنه المسلحون في بني غازي بتاريخ 11 سبتمبر (أيلول) الماضي، وذلك بحسب ما صرح به مسؤول كبير في إحدى هذه الشركات. ولكن بالنظر إلى المرسوم الليبي الذي يحظر نشاط الشركات الأمنية الخاصة، تحمست إدارة الرئيس أوباما لتقليل الوجود الأميركي هناك، وبعد أن طلب مبدئيا من كبرى الشركات الأمنية التقدم بعروض للعمل في ليبيا، لم يكمل مسؤولو الخارجية المناقصة أبدا. وذكر المسؤول الكبير في الشركة الأمنية: «شاركنا من أجل التقدم بعرض، لكن شيئا لم يحدث»، وأشار إلى أن وزارة الخارجية كان يمكنها أن تجد طريقة للالتفاف حول اعتراضات ليبيا لو أنها أرادت ذلك، ولكن الوزارة بدلا من ذلك اعتمدت على شركة بريطانية صغيرة من أجل توفير بضعة حراس ليبيين غير مسلحين لتولي أمن البعثة المقيمة ببنغازي. وفي ما يتعلق بالحماية الشخصية للدبلوماسيين، اعتمدت الوزارة في المقام الأول على «دائرة الأمن الدبلوماسي» التابعة لها.

ويعتبر الجدل الدائر حول مسألة الحماية جزءا من جدل أكبر ظل دائرا لسنوات داخل وزارة الخارجية، حول كيفية الموازنة بين أمن الدبلوماسيين الأميركيين وحاجتهم إلى التحرك بحرية، فالكثير من الدبلوماسيين يشعرون بالاستياء من القيود التي يفرضها عليهم المسؤولون الأمنيون، الذين يطلبون منهم التنقل داخل العواصم الأجنبية في مواكب مدرعة بكثافة، يرى الأهالي المدنيون أنها مهينة، وتجعل من المستحيل تقريبا على المبعوثين الالتقاء بالمسؤولين الأجانب سرا.

كما يشعر الكثير من الدبلوماسيين الأميركيين بالإحباط أيضا من القيود التي يفرضها عليهم العمل داخل السفارات الجديدة المؤمنة تأمينا عاليا والتي تم إنشاؤها في مختلف أنحاء العالم على مدار العقد الماضي. فبعد قيام تنظيم القاعدة بتفجير سفارتين أميركيتين في شرق أفريقيا عام 1998، أطلقت وزارة الخارجية الأميركية برنامجا تكلف عدة مليارات من الدولارات للاستعاضة عن الكثير من السفارات بوحدات قوية ومؤمنة تأمينا جيدا، وفازت شركات إنشاءات أميركية، لديها خبرة في بناء السجون والثكنات العسكرية، بالكثير من عقود إنشاء مبان موحدة تبدو أشبه بالحصون منها بالمقرات الدبلوماسية، وتم ما بين عامي 2001 و2010 بناء 52 سفارة، والكثير من السفارات الأخرى حاليا تحت الإنشاء أو في مرحلة التصميم. وهذه المباني التي تقع غالبا في ضواح نائية بعيدا عن الشوارع المزدحمة، مصممة بحيث تتحمل تفجيرات السيارات المفخخة، إلا أنها تتطلب أيضا قوات أمن محلية وحراسا مدججين بالسلاح لمقاومة أي هجوم من ذلك النوع الذي شنه المسلحون في بنغازي.

غير أن الكثير من الدبلوماسيين يقولون إن السفارات المحصنة تجعل من الصعب عليهم القيام بعملهم، مما يجبرهم على البحث عن طرق للالتفاف حولها. وقد ذكر رونالد نيومان، الذي عمل سفيرا لدى أفغانستان من عام 2005 حتى عام 2007، وعمل قبلها في بغداد، أن الكثير من المسؤولين الأجانب يرفضون المجيء إلى السفارات الأميركية لأنهم يشعرون بالمهانة بسبب التدابير الأمنية المتطفلة، كما أنهم لا يريدون أن يأتي المسؤولون الأميركيون إلى منازلهم في مواكب ضخمة. وأضاف نيومان، الذي يعمل حاليا رئيسا لـ«الأكاديمية الأميركية للدبلوماسية» في واشنطن: «لهذا فأنت تضطر إلى مقابلة الناس في الفنادق. الأمن يجبرك على أن تكون أكثر إبداعا».

وقد يعني ذلك مواجهة المزيد من المخاطر، حيث يقول أنتوني كوردسمان، وهو محلل متخصص بالأمن القومي لدى «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» في واشنطن: «الكثير من الناس ببساطة يخالفون الضوابط التنظيمية الأمنية من أجل القيام بوظيفتهم. عليهم أن يجدوا طرقا للخروج، فأحيانا ما يقومون بالتحايل على ضابط الأمن، أو أحيانا ما يغض ضابط الأمن الطرف».

والحقيقة أنه وقت أن وقع هجوم بنغازي، كانت إدارة الإنشاءات في وزارة الخارجية على وشك البدء بمعالجة بعض الأسباب المثيرة لهذا الإحباط، من خلال اقتراح تصميمات للسفارات تكون أكثر انفتاحا وأسهل في الوصول إليها. وفي ظل هذه السياسة الجديدة، سوف يظل من الضروري توافر نفس المعايير الأمنية في السفارات، ولكن وزارة الخارجية سوف تطلب منح أولوية أكبر للمظهر الخارجي للمباني، وسوف تحاول أن تختار لها مواقع في أماكن أكثر قربا من مراكز المدن حتى لا تكون معزولة إلى هذا الحد. وليس من الواضح ما إذا كانت أزمة بنغازي ستجبر وزارة الخارجية على التخلي عن سياسة التصميمات الجديدة هذه أم لا. وتقول جين لوفلر، صاحبة كتاب «هندسة الدبلوماسية»، الذي ترصد فيه تاريخ تصميم وإنشاء السفارات الأميركية: «المشكلة هي أن السفارات لم تعد تعمل باعتبارها مبان عامة. لقد كانت عامة، لكنها لم تعد كذلك». وبالنسبة لوزارة الخارجية، فإن العثور على التوازن المناسب بين الأمن والدبلوماسية يزداد صعوبة داخل بيئة سياسية. ولعل أحدا لا يفهم ذلك جيدا مثل باتريك كنيدي، فمنذ 5 سنوات ورد اسم كنيدي، الذي كان حينها وكيل وزارة الخارجية لشؤون الإدارة في إدارة الرئيس بوش، في تحقيق رفيع المستوى أجراه الكونغرس في الواقعة التي شهدتها ساحة النسور، ووجه النواب الديمقراطيون في لجنة الإشراف التابعة للكونغرس انتقادات إلى الوزارة بسبب الإدارة المتراخية لشركات الأمن التي تبالغ في العدوانية.

وهذا الأسبوع، مثل كنيدي الذي يتولى نفس المنصب في إدارة الرئيس أوباما أمام الجمهوريين داخل نفس اللجنة البرلمانية، التي انتقدت وزارة الخارجية بسبب الإدارة المتراخية وعدم توفير أمن أكثر صرامة في بنغازي.

* خدمة «نيويورك تايمز»