حمى الانفصال تتصاعد في إسبانيا وقت الأزمة

أنصار الفريق الكتالوني ينادون بالاستقلال خلال مباراتهم مع ريال مدريد

مشجعو برشلونة يهتفون «الاستقلال.. الاستقلال» (واشنطن بوست)
TT

عندما بدأ ما يربو على 100.000 من مشجعي برشلونة في الهتاف، خلال مباراة ريال مدريد وبرشلونة، قطبي الكرة الإسبانية اللذين يمثلان المدينتين الكبريين في إسبانيا، تعالت الصيحات «الاستقلال.. الاستقلال».

أثار هذا العرض الصاخب للهوية الكتالونية، الذي كان أبرز أحداث المباراة التي انتهت بالتعادل 2 - 2، غضب ملايين المشاهدين الإسبان بتجدد النعرة الانفصالية لمنطقة كتالونيا. وعلى الرغم من أن هذه الرغبة تعود إلى قرون، فإنها عادت لتطفو بشكل مفاجئ على السطح مرة أخرى بسبب الصراع الحالي حول مال الضرائب في وقت تمر فيه البلاد بأزمة مالية.

ويقول أوريول بوجول، زعيم الحزب الإقليمي الحاكم، كونفجرينشيا إي يونيو: «إنها مثل ثورة بركان، لدولتنا. عندما كان الجميع غنيا، لم يفكر أحد كم يكلفنا أن نكون جزءا من إسبانيا. لكن الجميع يفكر في ذلك الآن».

أدهش مشهد صراع الاستقلال في واحدة من أقدم دول أوروبا، التي كانت مثالا للديمقراطية منذ سقوط ديكتاتورية فرانكو قبل أكثر من ثلاثة عقود، كثيرين من الإسبانيين، خاصة أولئك الذين يشعرون بقوة أنهم ينتمون إلى مجتمع القرن الحادي والعشرين وعولمة الاقتصاد.

أثار ذلك بالنسبة للمتشائمين مخاوف قديمة من تجدد الإرهاب في إقليم الباسك الكامن في الوقت الراهن. لكن حتى غالبية الإسبان الواثقين من أن تقليد الصراع غير العنيف سيسود كتالونيا، لكنهم أبدوا تشاؤما بعودته مرة أخرى.

في الوقت ذاته، تخوض إسبانيا صراعا قويا بالفعل للتغلب على أزمة الدين التي رفعت معدل البطالة إلى 25 في المائة وقلصت الفرص الاقتصادية أمام الجميع في دولة كانت قبل خمس سنوات واحدة من أكثر دول أوروبا ازدهارا اقتصاديا. علاوة على ذلك، تسهم أقاليم إسبانيا، التي تشكل 35 في المائة من الإنفاق العام، بشكل كبير في المشكلة، بتراكم الديون عبر الإسراف في الإنفاق على مشروعات البنية التحتية وزيادة أعداد موظفي الخدمة المدنية.

وقد لجأ ستة من بين 17 إقليما في إسبانيا، بما في ذلك كتالونيا، إلى الحكومة الإسبانية للحصول على مساعدات مالية، مما أجبر رئيس الوزراء ماريانو راخوي على تدبير أكثر من 23 مليار دولار لإنقاذهم من الإفلاس في الوقت الذي لم تتمكن فيه حكومة راخوي من الموازنة بين الدخل والإنفاق، وقد طلبت كتالونيا وحدها 6.5 مليار دولار.

على الرغم من ذلك، فإن آرثر ماس، رئيس حكومة كتالونيا، طالب بإجراء انتخابات مبكرة في الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، التي يرجح أن تتمحور حول قضية مكانة كتالونيا في إسبانيا. علاوة على ذلك، قال ماس إنه في حال إعادة انتخاب حزبه كونفجرينشيا أي يونيو ذي العقلية الاستقلالية، سوف يدعو إلى استفتاء حتى يتمكن سكان كتالونيا من تحديد مكانتهم بأنفسهم.

نتيجة لذلك، سارع المسؤولون الإسبان إلى الإشارة إلى أن رغبة كتالونيا في الانفصال غير شرعية، وأشاروا بحسب الدستور الإسباني إلى أن الحكومة المركزية هي الوحيدة المخولة بإجراء الاستفتاء.

وتقول سورايا ساينز دي سانتاماريا، من حزب راخوي الشعبي الحاكم ونائبة رئيس الوزراء: «هناك أدوات قانونية لوقف هذا، وهناك حكومة مستعدة لاستخدامها».

شكا القوميون الكتالونيون لوقت طويل من أن اقتصادهم الغني يتعرض للخداع من قبل الحكومة المركزية الإسبانية، حيث يتم توجيه ما بين 8 إلى 9 في المائة من الناتج الاقتصادي للإقليم من الضرائب والخدمات الأخرى إلى مدريد ولا تعود على الإطلاق، حيث يتم تحويلها إلى الأقاليم الأكثر فقرا التي تحصل على الدعم أكثر مما تدفع.

إزاء هذه الخلفية، ازداد غضب الكتالونيين خلال السنوات الماضية؛ حيث فرضت الحكومة مزيدا من الضرائب وخفضت الإنفاق للتعامل مع أزمة الدين. وتحول ما كان يثير الإزعاج خلال الأوقات الجيدة إلى ما يعتبره الكثيرون استغلالا اقتصاديا لا يحتمل، ومن ثم، فإن الانفصال هو الحل.

وقال ألفريدو باستور، أستاذ الاقتصاد في كلية «آي إي إس إي» لإدارة الأعمال، ووزير الاقتصاد السابق في مدريد: «عندما تتوقف الموسيقى، عندئذ يبدأ البعض في توجيه اللوم إلى الآخرين، وهذا هو ما يحدث هنا. لا يمكننا أن نتواصل مع الموقف الحالي».

بيتريو كاربونيلي إي بيريس، تمتلك صيدلية وسط برشلونة، التي تتعرض هي وزملاؤها من الصيادلة لخطر الإفلاس لأن الحكومة المركزية رفضت تأجيل تعويضات العلاج، وتشكو من خلف طاولة البيع من أن المال بطيء في عودته إلى الصيادلة، لكن الصيادلة لا يزال ينبغي عليهم أن يدفعوا لشركات الدواء مقدما وأن يدفعوا فوائد على قروضهم التجارية في الوقت ذاته.

وتقول كاربونيلي إي بيريس، التي ترأس اتحاد صيادلة برشلونة: «إذا لم يدفعوا، سيكون علينا أن نغلق هذه الصيدليات قريبا. هذا شأن خطير، وخطير للغاية. قبل ذلك لم أفكر بشأن الاستقلال على الإطلاق، لكني أفعل الآن».

قام ماس بخطوته بشأن الانتخابات الجديدة بعد خمسة أيام من رفض حكومة راخوي في 20 سبتمبر (أيلول) الماضي التفاوض بشأن اتفاق مالي جديد، الذي يطلب استعادة كتالونيا مزيدا من السيطرة على 260 مليار دولار. هذا الرد الثابت تم تفسيره على نطاق واسع هنا على أنه صفعة على وجه الطموحات الإقليمية، ووصف باستور ذلك بأنه «يتجاوز الحدود».

رسميا، فسر ماس الانتخابات الجديدة بالقول إنه نظرا لأن الترتيبات المالية الجديدة كانت المنصة الرئيسية للوصول إلى السلطة، فقد أجبر على العودة إلى الناخبين لدعم آخر. لكن الغضب الشعبي تجاه رفض الاتفاق المالي قوي للغاية، وكانت برشلونة في حالة سيئة بعد حشد القوميين أكثر من مليون شخص الذين نزلوا للشوارع في 11 سبتمبر (أيلول)، الذي يذكر الكتالونيون هزيمتهم على يد الجيش المالكي وانضمامهم إلى المملكة الإسبانية.

وأشار بوجول إلى أنه على مدى أكثر من عقد شعر الكتالونيون بالإحباط لرغبة مدريد في وقف؛ بل وحتى التراجع عن الاستقلال الموسع التي حصلت عليه الأقاليم الإسبانية عندما تم استبدال حكم فرانكو المركزي بعد وفاة الديكتاتور عام 1975.

بالنسبة لهم، كان المفترض أن يكون الاستقلال الإقليمي عملية تؤدي على مدار السنوات لزيادة الحكم الذاتي، بما في ذلك المجال الاقتصادي. لكن ذلك تبين أنه حلم، حيث قررت الحكومات الوطنية سواء ذات التوجهات اليمينية واليسارية قمع الحقوق الإقليمية باسم الوطنية والكفاءة الاقتصادية.

وقال بوجول: «كنا نعمل خلال 35 عاما مع الحكومة الإسبانية لجعل هذه عملية سهلة. ومنذ ذلك الحين لم ينجح ذلك، وسوف نغير هدفنا».

بيد أن ماس كان حريصا في تحديد هدفه، وأشار إلى أن هدف كتالونيا هو أن تكون جزءا من «الولايات المتحدة الأوروبية»، لكن ذلك غير قائم، حتى الآن على الأقل. وقال حزبه: «دولتنا هي الهدف»، لكن دون تفسير كيفية ملاءمة ذلك مع الحكومة الوطنية في مدريد.

إزاء هذه الخلفية، يشير المراقبون هنا إلى أنه ستكون هناك مساحة كبيرة من المفاوضات المتواصلة مع الحكومة المركزية بعد انتخابات نوفمبر المقبل، وأشاروا إلى أن الأمل في حكومة إقليمية هو أن ماس سيحظى بتأثير كبير مع التفويض الجديد والتهديد بإجراء استفتاء غير قانوني معلق في الهواء.

في غضون ذلك، يزداد التراشق بين حكومة راخوي المركزية في مدريد والكتالونيين الذين يحلمون منذ وقت طويل، مثل ماس، بإقليم أكثر استقلالا بلغاته الخاصة وسياساته الضريبة والعلاقات الأجنبية.

وقلل وزير الخارجية خوسيه مانويل غارسيا مارغالو، على سبيل المثال، من شعارات الاستقلال التي أطلقها البعض خلال مباراة كرة القدم، قائلا إنهم يظهرون صورة سيئة لإسبانيا في وقت تسعى فيه الحكومة إلى إقناع الأسواق المالية بأن الاقتصاد مستقر وأنها تسير على الطريق نحو التعافي. لكن ماس رد بالقول إن كل الكتالونيين يتمتعون بحرية التعبير عن آرائهم بأسلوب غير عنيف، وحيا الجماهير بشأن «إحساسهم المدني وسلوكهم الطيب».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»