الفساد يزعزع ثقة الإيطاليين المهتزة أصلا في رجال السياسة

حكومة مونتي تعرض مشروعا لمحاربة الظاهرة.. وتوجه لحل حكومة إقليمية بسبب الفضائح

ماريو مونتي
TT

دفع 260 ألف دولار للمافيا في إقليم كالابريا مقابل شراء 4 آلاف صوت انتخابي، وإحضار فتيات الليل من أجل رئيس الوزراء، وسرقة أكثر من 1.3 مليون دولار من المال العام في إقليم واحد فقط، وإجازات مترفة وحفلات عشاء مبهرة، كل هذا على حساب الموازنة العامة الضئيلة. فبعد 20 عاما من سقوط النظام السياسي الذي قام في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية في فضيحة رشوة، عادت الاتهامات إلى التطاير هنا وهناك في موجة متزايدة من الفضائح الجديدة التي تزعزع أكثر من ثقة الإيطاليين المضعضعة أصلا في ساستهم. وقد قادت الجولة الأخيرة إلى صعود رئيس وزراء سابق هو سلفيو برلسكوني، والسؤال الآن هو: ما الذي ستسفر عنه تلك الموجة الأخيرة؟

تقول ميشيل أينيس، وهي أستاذة قانون دستوري وكاتبة سياسية: «نحن في لحظة انتقالية، مما يخلق حالة من القلق. الجميع يرون أن مرحلة الجمهورية الثانية قد شارفت على الانتهاء، ولا نعلم بعد ما هي الجمهورية الثالثة».

واستجابة للغضب الشعبي المتصاعد ضد ظاهرة الكسب غير المشروع التي تفشت بين رجال السياسة، تقدمت حكومة التكنوقراط التي يرأسها ماريو مونتي الأربعاء بمشروع قانون يدعو إلى إنشاء هيئة رقابية لمحاربة الفساد وتشديد العقوبات المفروضة على الابتزاز واستغلال المنصب. وصرح مونتي، الذي تولى السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بأنه لا يريد الانضمام إلى أي حزب سياسي، لكنه لا يستبعد الاستمرار إذا طلب منه أن يترأس حكومة منتخبة انتخابا ديمقراطيا بعد الانتخابات الوطنية المتوقع إجراؤها في الربيع المقبل.

وقد أذهل اتساع دائرة الفساد الذي بدأ يخرج الآن إلى النور الجميع حتى الإيطاليين المغرمين بالتشكيك، ففي يوم الأربعاء الماضي ذكر روبرتو فورميغوني، حاكم إقليم لومبارديا الذي كان في السابق يتمتع بقوة ونفوذ كبيرين، أنه سيحل حكومة الإقليم يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) في سلسلة متصاعدة من الفضائح التي أسقطت بالفعل رئيس إقليم لاتسيو وأدت الأسبوع الماضي إلى عزل حكومة مدينة ريدجو كالابريا بالكامل من أجل منع تسلل الجريمة المنظمة.

وأعلن فورميغوني، وهو من أشد أنصار حزب شعب الحرية الذي أسسه برلسكوني وظل يحكم إقليم لومبارديا لمدة 17 عاما، أن حكومته قد انتهت بعد إلقاء القبض الأسبوع الماضي على أحد المشرعين في قضية بيع الأصوات، وهو واحد ضمن أكثر من 12 مشرعا من الإقليم تورطوا في فضائح. ويخضع فورميغوني للتحقيق في اتهام بقبوله إجازات مدفوعة الأجر ورحلات على متن يخت من عضو بجماعة ضغط تعمل في مجال الرعاية الصحية، وهو ينكر ارتكاب أي مخالفات ويؤكد أن أغلبية المواطنين يريدون بقاءه في السلطة.

وفي حوار أجري معها مؤخرا، قالت وزيرة العدل باولا سيفيرينو إن هذه الفضائح أسوأ مما كان يسمى تحقيق «الأيدي النظيفة» الذي قضى على جيل سياسي كامل قبل 20 عاما لأنها تجري في لحظة «ضعف سياسي خطيرة». وتابعت في حديثها مع تلفزيون «سكاي»: «التربح غير المشروع من المال العام هو دائما في منتهى الخطورة، ولكن التربح غير المشروع من المال العام بينما تطلب البلاد تضحيات من مواطنيها هو أمر فادح إلى حد غير مسبوق».

والكثير من الفضائح الحالية تعود جذورها إلى قانون صدر عام 2001 بغرض إقرار المزيد من القواعد الفيدرالية و(نظريا) المزيد من المساءلة المحلية. وقد عاد هذا الإجراء الذي كان يقدم تمويلا حكوميا سخيا من دون اشتراط أن تربح الأقاليم الكثير من الأموال بمفردها بنتائج سيئة، حيث ساعد على انتشار سياسات الإنفاق غير المتعقلة في جميع أنحاء البلاد. ويقول روبرتو بيروتي، وهو أستاذ اقتصاد في جامعة بوتشوني بميلانو: «من الناحية الفعلية، كان هذا مثل أن تعطي أحدهم بطاقة ائتمان وتقول له: افعل ما يحلو لك». كما أن الزمن تغير، إذ يقول ماركو كوبيانشي، الذي ألف كتابين عن الفساد: «اليوم لا تملك الشركات الأموال التي تمكنها من الفساد، لذا فإن الساسة ينهبون مباشرة من المال العام».

ومع تقسيم الأقاليم الإيطالية عام 1970، وخاصة في السنوات التي أعقبت عام 2001، قفزت تكلفة حكومات الأقاليم قفزة رهيبة، كما تضخمت رواتب مشرعي الأقاليم في إيطاليا البالغ عددهم 1113، لتتراوح ما بين 4 آلاف و6500 دولار شهريا، علاوة في الغالب على ضعف هذا المبلغ في صورة مزايا إضافية، وهو مقابل كبير مقارنة بمتوسط الأجر في إيطاليا الذي يتراوح حول 1500 دولار شهريا. وبعد أن رفعت الحكومة سن التقاعد العام الماضي إلى ما بين 62 و66 عاما في خطة معقدة، قل الصبر على القانون الذي يسمح بأن يتمتع الساسة بمعاشات تقاعد ثانية وفيرة قبل وقت طويل من بلوغ سن التقاعد (في بعض الأقاليم يبدأون الحصول على المعاش السنوي في سن الـ50).

ونتيجة لهذا، بدأت موجة من التذمر الشعبي تتعالى مطالبة بخفض كلفة الحياة السياسية، إلا أن الأحزاب السياسية كانت بطيئة في الاستجابة لهذه المطالب، والكثير من الإصلاحات المقترحة تم تخفيفه أو تجميده عند المستوى التشريعي، بما في ذلك تشريع يقضي بتقليل عدد رجال السياسة في الإقليم. ويقول بيروتي: «مستوى الغضب في جميع قطاعات الشعب من الشمال إلى الجنوب يدل على أن نقطة الغليان قد اقتربت».

ومع غرق الساسة في مستنقع الفضائح، يزداد الشعور بالسخط قبل 6 أشهر من الانتخابات العامة المبكرة التي يتمتع اليسار بأفضلية في الفوز بها، ولكن من دون دعم كاف لتشكيل حكومة، كما أن قوى التيار الشعبي المناهضة لرجال السياسة وأبرزها حركة النجوم الخمسة التي أسسها الممثل الفكاهي بيبي غريلو تكسب المزيد والمزيد من قوة الدفع. وتبين استطلاعات الرأي أنه من المتوقع أن تبلغ حالات الامتناع عن التصويت أعلى مستوياتها على الإطلاق، حيث قال ماسيمو روسي (49 عاما)، وهو بائع متجول في روما، وهو يضع جانبا كيسا من الفاصوليا الخضراء: «كنت أحرص دوما على الإدلاء بصوتي، ولكن هؤلاء الساسة يستحقون معدل امتناع عن التصويت يبلغ 99 في المائة في الانتخابات المقبلة، كي يعطيهم هذا إشارة ما. وهذا للأسف ينطبق على جميع ألوان الطيف. أنا لا أتحدث عن الأحزاب أو الألوان السياسية، بل عن الافتقار إلى الأشخاص الذين يمثلوننا نحن المواطنين تمثيلا حقيقيا».

ويقول البعض إن الفضائح الجديدة كشفت عن ثقافة سياسية تقوم على مستوى المعيشة أكثر مما تقوم على آيديولوجية، كما أظهرت «انحراف الحياة السياسية، التي أصبحت مهنة بالنسبة للكثيرين، في ظل نظام تعيين عالي الأجور»، كما كتب إيزيو ماورو، محرر صحيفة «لا ريبابليكا». وفي إشارة إلى «إحساس بالحصانة» ساد في عهد برلسكوني، أضاف محرر «لا ريبابليكا»، أن «تدهور معنى السياسة وطبيعتها» قاد إيطاليا إلى هذه النقطة، وأن «ديمقراطيتنا تآكلت بفعل فساد عام 1992، وهي الآن مريضة».

وقال غيراردو كولومبو، الذي كان من بين وكلاء نيابة مدينة ميلانو الذين قادوا تحقيقات الكسب غير المشروع قبل 20 عاما، إن المؤسسات الإيطالية اليوم أضعف مما كانت عليه في أوائل التسعينات من القرن العشرين، مضيفا أن التشريعات التي تمت صياغتها على مدار العقدين الماضيين «جعلت الفساد أسهل والكشف عنه أكثر صعوبة». وأشار كولومبو إلى أنه كانت هناك أيضا تحولات ثقافية، وأن المجتمع الإيطالي يذعن لمناخ اللاشرعية. واستطرد: «أنت لا ترى سخطا، بل لا مبالاة، وهذه ليست علامة جيدة، فهي تعني أن هناك تحررا من الوهم، ولكنها تعني أيضا أن الناس لا يرون أن هذه مشكلة تحتاج إلى تغيير».

* خدمة «نيويورك تايمز»