الخروج على الماضي يشعل غضب الشارع التركي

جدل حول دور الدين في الحياة العامة وسط انسحاب الجيش من السياسة

عناصر من قوات مكافحة الشغب يصطدمون مع متظاهرون أكراد في إسطنبول أمس (رويترز)
TT

أثناء حفل استقبال جرت فعالياته مساء يوم الاثنين الماضي في منزل الرئيس احتفالا بذكرى مرور 89 عاما على تأسيس تركيا، حدث شيء لم نسمع به من قبل: فقد وقف القائد الأعلى للجيش التركي جنبا إلى جنب مع زوجتي الرئيس ورئيس الوزراء، رغم أن السيدتين كانتا ترتديان الحجاب الإسلامي. وقبل سنوات، لم تكن النخبة العسكرية لتقف أبدا إلى جانب سيدات يرتدين رمزا لطالما ظل محور الخلاف الذي تشهده تركيا حول دور الدين في الحياة العامة، فهؤلاء الرجال هم ورثة تقاليد مؤسس تركيا العلمانية مصطفى كمال أتاتورك، الذي كان من أشد أنصار إبعاد الدين عن الحياة العامة، وقد ظلوا لسنوات يرفضون حضور مثل هذه التجمعات احتجاجا على الحجاب.

وبالنسبة لكثير من الأتراك، فإن حفل الاستقبال هذا أبرز خروجا قاطعا على ماض كان الزعماء المدنيون فيه يخضعون للعسكر، وتم فيه نزع الإسلام من الحياة العامة. وعلق طه أكيول، وهو كاتب صحافي في صحيفة «حرييت» اليومية التركية: «الجيش التركي ينسحب الآن من السياسة». وفي وقت يتم فيه تقديم ما تتمتع به تركيا من رخاء ومزج بين القيم الديمقراطية والإسلامية على أنه نموذج ينبغي أن يحتذي به العالم العربي الذي يعج بالاضطرابات، تواجه البلاد صراعاتها الداخلية على السلطة، ما بين الإسلاميين والعلمانيين، أو ما بين الزعماء المدنيين والقادة العسكريين، والمحصلة لا يمكن أن تحدد مستقبل تركيا فحسب، بل يمكن أن تغير أيضا من شكل المنطقة، في ظل اضطلاع تركيا بدور أكبر في شؤون الشرق الأوسط.

ورغم ثناء كثيرين على تراجع سلطة العسكر، فإن النقاد يقولون إن هذه الصراعات قد كشفت أيضا عن أوجه الخلل في الديمقراطية التركية، مشيرين على وجه الخصوص إلى الإجراءات القمعية التي تتخذها الحكومة التي تميل نحو الإسلاميين مع من يخالفها ومع الصحافة أيضا؛ حيث يقبع داخل السجون هنا صحافيون أكثر من أي مكان آخر في العالم، مما أدى إلى ظهور نغمة إحباط تجلت بصورة حية في الشوارع يوم الاثنين الماضي أثناء احتفال تركيا بعيد ميلادها.

ففي العاصمة أنقرة، تصادم آلاف المتظاهرين العلمانيين مع شرطة مكافحة الشغب بعد أن زحفوا في مسيرة حاشدة للاحتفال بالعيد الوطني، وهو العيد الذي يحيي ذكرى تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، رغم صدور قرار من حكومة رجب طيب أردوغان بمنع هذه المسيرة، مستندة دون دليل واضح إلى تقارير استخباراتية تحدثت عن احتمال أن يشهد هذا التجمهر أعمال عنف. وذكر الكاتب الصحافي يوفاز بيدر في عدد الاثنين الماضي من صحيفة «تودايز زمان» اليومية: «يكون الأمر كاشفا لحال الديمقراطية عندما يتم التضييق على حق الاحتفال بالعيد الوطني بطريقة المرء السلمية».

ومن بين التغييرات الكثيرة التي أحدثتها حكومة أردوغان، وهو مسلم متدين غير حكمه من شكل الاقتصاد التركي لكنه أثار حفيظة الحرس العلماني القديم، فرض سيطرة مدنية حاسمة على جيش سبق له 4 مرات خلال الـ89 عاما الماضية أن تصرف فوق القانون من أجل إقصاء حكومات منتخبة. ففي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، تلقى أكثر من 300 ضابط بالجيش أحكاما بالسجن بسبب التآمر لقلب نظام الحكم، في محاكمة عرفت باسم «قضية المطرقة»، وقد أدت هذه القضية إلى حدوث حالة انقسام عميقة داخل المجتمع التركي، كما أثارت علامات استفهام حول استقلالية القضاء، وبدا في بعض الأحيان أنها تعتمد على أدلة ملفقة، إلا أن هذه القضية مثلت نقطة تحول في التاريخ التركي من خلال تقليص سلطة الجيش، الذي ظل لعقود حامي حمى العلمانية. وقد أكد أردوغان في إحدى خطبه الأخيرة: «إن عصر الانقلابات في هذا البلد لن يعود أبدا».

وذكر تقرير إخباري، ترقبا لحفل الاستقبال الذي جرى مساء يوم الاثنين الماضي: «هذا العمل الرمزي سوف يمثل بداية عصر جديد في العلاقات بين المدنيين والعسكر في تركيا». وقد أبرزت رمزية هذا الحفل، بالإضافة إلى المسيرات التي خرجت في يوم العيد الوطني في أنقرة وإسطنبول احتجاجا على ما يرى كثير من العلمانيين أنه تزايد في استبداد أردوغان، الانقسامات العميقة التي تعاني منها تركيا والتهديد الذي ترى أنه يحدق بالعلمانية، بالنظر إلى تلاقي جذور حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه أردوغان مع تيار الإسلام السياسي، وصلاته الوثيقة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

وفي عام 2007، حاول الجيش التركي منع صعود عبد الله غل إلى الرئاسة لأن زوجته محجبة، مثل زوجة أردوغان، وفي البداية كانت سيدة تركيا الأولى خير النساء غل تتحاشى حضور بعض المناسبات العامة مراعاة للحساسيات التي يشعر بها العسكر. وأثناء حفل الاستقبال الذي جرى ليلة الاثنين الماضي، لمح أردوغان إلى ذلك الماضي بقوله الذي نقلته عنه شبكة «إن تي في» التلفزيونية: «عار على الناس الذين لم يسمحوا لي بالدخول إلى هنا مع أمينة أردوغان حتى اليوم». وتبدو تركيا عالقة أكثر فأكثر بين ماضيها العلماني ومستقبل مجهول، وهي تمر بتجربة مريرة وهي صياغة دستور جديد كي يحل محل الدستور الذي فرضه العسكر بعد انقلاب عام 1980، مما قد ينتج عنه نظام جديد يوسع من سلطات الرئاسة، التي تعتبر في الوقت الحالي منصبا شرفيا في الغالب. وينتوي أردوغان ترشيح نفسه للرئاسة بعد عامين.

وفي يوم الاثنين الماضي، تجمع بضع مئات من الناس الذين يلوحون بأعلام تحمل صورة أتاتورك في شارع الاستقلال، وهو شارع للمشاه يمتلئ بالمتاجر والمقاهي، ويعتبر مركز الحياة الليلية الصاخبة في إسطنبول، ويرجح أن ترتدي القلة القليلة من النساء المحتشمات فيه أغطية رأس من ماركة «بيربيري» أكثر من النقاب الشائع في أماكن مثل المملكة العربية السعودية. ومن بين الهتافات التي ارتفعت في هذا الحشد: «تركيا علمانية وسوف تظل علمانية»، وارتفع هتاف آخر يقول: «نحن جنود مصطفى كمال أتاتورك». وانضمت نيلغون تيكير، ممرضة، إلى المسيرة مع زوجها وابنها البالغ من العمر 4 سنوات وكانت تدفعه في عربة أطفال، حيث قالت: «لا نريد نظاما أصوليا كما في إيران». وتحرك مراد كوجوك (30 عاما)، صاحب مطعم، مع المسيرة وهو يرتدي قميصا رياضيا أسود اللون يحمل صورة أتاتورك، وقال: «هذه ثورة مضادة. اليوم هو يوم تركيا الأكبر. إنه ميراثنا من مصطفى كمال أتاتورك».

وتظهر هذه التوترات بين النخبة التي تسكن المدن في أماكن مثل إسطنبول أكثر مما تظهر بين الجماهير الأكثر محافظة في إقليم الأناضول الحيوي، الذي يأتي منه قدر كبير من الدعم الذي يتمتع به أردوغان. ومن الممكن أن تظهر هذه التوترات الشعبية في أماكن مستبعدة، كما حدث ليلة الأحد الماضي بعد أن تغلبت سيرينا ويليامز على ماريا شارابوفا في مباراة من مباريات التنس هنا، فأثناء حفل تسليم الجوائز، ارتفعت صيحات الاستهجان ضد الساسة واحدا تلو الآخر، حتى أثناء الكلمة التي ألقتها إحدى وزيرات أردوغان، وهي فاطمة شاهين، التي تعهدت خلالها باستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 2020 في إسطنبول. وفيما بعد، كتبت شاهين في حسابها على موقع «تويتر»: «أدعو من لم يفهموا الجهد الذي بدا هنا، ولا يرون ما في هذه البطولة من جمال، إلى إدراك المكانة التي وصلت إليها تركيا. من واجبهم تجاه بلدهم أن يقدروا ما تحقق هنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»