سوريون في غياهب النسيان بضيافة تركيا

دفعوا مدخراتهم للمهربين حاملين أحلاما لم تكتمل

لاجئون سوريون في مخيم الزعتري على الحدود الأردنية السورية (رويترز)
TT

داخل مسكن إيواء معدني مؤقت في مخيم لاجئين مكتظ بالنزلاء، ظل عبد الواحد، وهو عامل بناء وأب لسبعة أطفال، جالسا يفكر في صمت لمدة تقترب من الأسبوع بعد وصول أسرته المصدومة إلى هنا في شهر يونيو (حزيران) الماضي، وكانت سيقان أبنائه مليئة بالجروح من السير لمدة 3 أيام متواصلة حتى وصلوا إلى تركيا عبر الحدود الجبلية قادمين من سوريا التي مزقتها الحرب، إلا أن نظرة الضياع في أعينهم هي ما كان يجرحه، وبعد ذلك بدا كما لو كان الرجل النحيل المنهك البالغ من العمر 50 عاما قد جاءه الإلهام فجأة وهو يقول: «لم تكن لدي أي إجابة حينما كانوا يسألونني متى سنعود إلى منزلنا؟ لذا قلت لنفسي إننا سوف نبني بلدتنا هنا». وبعد ذلك بـ5 أشهر، بدأت بلدة الحفة السورية، التي كان يسكنها في السابق 6 آلاف نسمة، تتشكل بكل معنى الكلمة في ركن المساحة الصغيرة التي يعيشون فيها. وكان النموذج المصغر الذي يعمل فيه عبد الواحد كل يوم بكل تفاصيله الدقيقة هو الوحيد الذي يخلو من ثقوب طلقات الرصاص في جدران مسجده المحلي المفضل، وهناك صف دائب الحركة من الجرارات وعربات القش يملأ طرقات ما تحول إلى مدينة أشباح بعد أن استعادت القوات الموالية للحكومة السيطرة عليها من المعارضة في معركة غير شريفة الصيف الماضي، ولم تتعرض أسطح المنازل المصغرة التي بناها للتهدم من قذائف الهاون التي دفعت أسرته إلى الفرار إلى تركيا، التي عبر إليها ما يزيد على 135 ألف لاجئ سوري، من بينهم 106 آلاف في مخيمات مقامة بصورة رسمية، ليفروا من براثن الحرب ويسقطوا في غياهب النسيان.

وقال عبد الواحد، بينما كان جالسا في أحد الأركان ويضع لمسة أخيرة على نسخة طبق الأصل مصنوعة من حجر الخفان لمنزل أحد جيرانه: «سوف أصنع نموذجا آخر في وقت لاحق، نموذجا حقيقيا يصور البلدة وهي مدمرة مثلما هي اليوم، أما هذا فهو ما أرجو أن تبدو عليه يوما ما. الأمل يجب أن يأتي أولا».

وفي الجحيم المؤقت داخل هذه المخيمات، تناضل الشابات المخطوبات مع الهواتف الجوالة من أجل الوصول إلى خاطبيهن الذين يقاتلون في صفوف المعارضة، ويصرخ الرجال الذين عركتهم الحرب وفقدوا فيها أطرافهم في مرارة بسبب نقص الدعم الغربي للمدنيين السوريين الذين يموتون. ومع تحول الأسابيع إلى أشهر والأشهر (بالنسبة للبعض) إلى ما يزيد على العام، تم إلحاق الأطفال في الأعمار ما بين 5 و16 عاما بمدارس مؤقتة، ليتعلموا اللغة التركية الأصلية التي يتكلم بها الشعب المضيف لهم، وليكافحوا في حصص الرسم والرياضيات كي يكونوا إحساسا بأنهم يحيون حياة طبيعية.

وما زالت الحكومة التركية تفضل أن تطلق عليهم اسم «الضيوف» وليس اللاجئين، وقد منحت أحد المراسلين الصحافيين تصريحا كي يقوم بزيارة نادرة إلى داخل ما بدا أنه من بين أفضل المخيمات تجهيزا ضمن الـ14 مخيما التي تم إنشاؤها منذ دخول الصراع السوري في مراحله الحرجة العام الماضي، وسمح المسؤولون الأتراك بهذه الزيارة الخاضعة للإشراف بشرط الإمساك عن نشر اسم المخيم وألقاب اللاجئين الذين يتم إجراء حوارات معهم.

وفي ظل تصاعد وتيرة العنف، يتكدس المزيد والمزيد من اللاجئين على الحدود، مما دفع الحكومة في أنقرة (التي تمول عمليات الإغاثة بأدنى قدر ممكن من المساعدات الدولية) إلى فرض قيود صارمة على عدد من يسمح لهم بالدخول. ويصف عمال المساعدات أوضاع المخيمات التي توشك على الانفجار على الجانب السوري بأنها أسوأ بدرجة كبيرة، وليس من المستغرب أن يقوم عشرات اللاجئين كل يوم بعبور المنطقة الحدودية سهلة الاختراق بطريقة غير شرعية، حيث يتشبث الفقراء بالأمل في العثور على مساحة شاغرة داخل المخيمات، بالإضافة إلى منظمات المساعدات الإسلامية وتدبير الموارد المادية على المستوى الشخصي من أجل العثور على أسقف تظلهم، ومن لديهم الثروة والاتصالات يستأجرون أماكن إقامة خاصة، مما تسبب في ارتفاع أسعار الوحدات السكنية المحلية بشدة خلال الأشهر الأخيرة، أو البحث عن طرق للذهاب إلى شمال أفريقيا وأوروبا وغيرهما. أما الأغلبية فتستقر في المخيمات التي تمولها تركيا والتي يصفها دبلوماسيون غربيون بأنها تتجاوز بشدة المعايير الدولية، وهو أحد الأسباب التي جعلت الفاتورة التي تتحملها الحكومة تتجاوز بالفعل 400 مليون دولار. ويقول دبلوماسيون إن الكبرياء الوطنية يبدو أنها تمنع الأتراك من السماح للهيئات التابعة للأمم المتحدة بأن تقود جهود الإغاثة هنا، وهو مستوى إضافي من المساءلة تقول الحكومات الغربية إنه سوف يكون ضروريا قبل أن يكون في مقدورها الموافقة على المساهمة في مساعدات كبيرة الحجم.

وهناك دلائل قوية على أن مقاتلي المعارضة، وعددا متزايدا من المتطرفين كما يشكو البعض، يستغلون الجانب التركي من الحدود ليكون بمثابة منصة انطلاق بالنسبة لهم، وهو ما يؤدي على وجه الخصوص إلى تصاعد حدة التوترات مع الأتراك العلويين، الذين ينتمون إلى الطائفة الدينية نفسها التي ينتمي إليها الرئيس السوري بشار الأسد. ويقول رفيق إيريلمظ، وهو نائب في البرلمان من منطقة هاتاي الحدودية عن «حزب الشعب الجمهوري» المعارض: «من المؤسف أن بعض من تم تسكينهم في المخيمات يعودون إلى سوريا ليقاتلوا ثم يعودون إلى المخيمات. لا توجد لدى الأهالي المحليين في هاتاي أي مشكلة مع الناس العاديين الأبرياء الذين فروا من الحرب ولجأوا إلى المخيمات، ولكن هناك أفراد من تنظيم القاعدة والجماعات المتشددة الأخرى جاءوا من ليبيا والعراق والشيشان وأفغانستان واستأجروا منازل في مراكز المدن».

ومع ذلك، فإن الأغلبية العظمى من ساكني المخيمات هم أناس مثل عائشة (وهي فتاة ذات 18 ربيعا من مدينة اللاذقية الساحلية فرت منذ 9 أشهر مع أسرتها) ممن يدفعون للمهربين القدر الأكبر من مدخراتهم ويصلون إلى هنا وهم يحملون ملابسهم على ظهورهم. وقبل أن تفر من وابل من قذائف الهاون أطلقته القوات الحكومية، كانت عائشة هي وخطيبها يخططان لزفافهما، وتم تحديد موعد وحجز مطعم من أجل إقامة حفل الزفاف فيه، وكانت سعادتها بذلك لا توصف. أما الآن، فإن خطيبها يقاتل في صفوف المقاومة، ولم تستطع الوصول إليه عبر الهاتف طوال الأسابيع الثلاثة الماضية، وهي تشاهد باستمرار القنوات الناطقة باللغة العربية (حيث تمكن الكثير من الأسر من تزويد وحداتها ذات الجدران المصنوعة من الألمنيوم بأجهزة تلفزيون قديمة) بحثا عن أي أخبار، إلا أنه لا يوجد لديها أي إحساس بالقلق على نفسها، وهي تقول: «لا يصنع فارقا أن أكون مخطوبة وفي انتظار زوج المستقبل. نحن جميعا نعاني. سوريا تعاني. الألم الذي يشعر به شعبنا واحد».

وأثناء انتظارهم بدأ يتكون لدى اللاجئين إحساس بالحياة الطبيعية، وصارت الأشياء مألوفة بالنسبة لهم. وفي ظل السماح لهم بالخروج من المخيم من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، بدأ بعض الرجال في العمل جامعين للزيتون وعمالا باليومية، بينما يتوجه الأطفال (كما كانوا يفعلون وهم في سوريا) إلى سفح تل قريب للإمساك بالطيور البرية المغردة والاحتفاظ بها في أقفاص معلقة خارج مساكن الإيواء الخاصة بهم.

وقد أخذ البعض (من أمثال عبد الواحد عامل البناء وصانع النماذج) على عاتقه مهمة رفع الروح المعنوية، وهو ليس بالأمر اليسير، فهو لم يسمع شيئا عن أشقائه الـ7 منذ فراره من سوريا، ويمتقع وجهه كلما فكر فيما يمكن أن يكون قد آل إليه مصيرهم. ولكن مثلما بنى بلدة مصغرة باستخدام الأحجار وأقلام الكريون القديمة التي عثر عليها، فهو يرى أن كتابة القصائد وأغاني الأمل تهون ما يحدث، سواء بالنسبة لأطفاله الصغار أو بالنسبة للآخرين داخل المخيم الذين كثيرا ما يتجمعون لسماع أغانيه. ويختم الرجل حديثه قائلا: «نحن لا نفقد الأمل وسط كل هذا الانتظار، ولكننا في بعض الأحيان نحتاج إلى من يذكرنا بهذا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»