النظام يحول وسط دمشق إلى مربع أمني بالجدران العازلة

السكان قلقون من انتشار الحواجز الإسمنتية.. وتخوف من اشتعال قلب العاصمة

TT

لم يعد التجول وسط مدينة دمشق فرصة للتسوق والاستمتاع بطقسها وطقوسها اللطيفة على مدار العام تقريبا، فقد تحول قلب العاصمة إلى مربع أمني يرزح تحت وطأة وجود عسكري مسلح في حالة تأهب دائمة، وتفتيش دقيق للمارة في بعض الشوارع والسيارات وإبراز الهوية الشخصية، مع تزايد الحواجز والجدران الإسمنتية في الشوارع ومحيط المقرات الأمنية والحكومية.

فشارع العابد، الذي يمر من أمام مبنى البرلمان القريب من ساحة السبع بحرات، تم قطعه من جانبين بسيارات أمنية تتوقف على عرض الشارع.. ومن خلفها كتل حواجز حديدية متنقلة، تعزل الجزء المار من أمام البرلمان؛ ولا يسمح إلا للمشاة بعبوره بعد إبراز الهويات وتفتيش للحقائب. ويعد شارع العابد أحد أكثر شوارع العاصمة حيوية، فعدا أنه يضم مقهى الروضة الشعبي الذي كان يرتاده المثقفون والناشطون، وأهم أكشاك بيع الصحف، ومكاتب ومحال تجارية، يصب هذا الشارع بين ساحة السبع بحرات وجسر الرئيس الذي يصل جنوب المدينة بشمالها.. وإغلاقه على هذا النحو مع عدة شوارع أخرى تتصل بساحة السبع بحرات خلق أزمة مرورية خانقة وسط المدينة.

كما تم عزل مبنى المحافظة من خلال سد الطريق المار من أمامه بجدار إسمنتي بارتفاع متر ونصف على طول الشارع، ومنعت السيارات من دخول مسرب الإياب باتجاه ساحة المحافظة.. وترك فتحة باتساع متر تقريبا في أول الشارع وجد عليها جنود بكامل عتادهم يتولون مهمة تفتيش المارة.

كيفما التفت المرء في دمشق سيصدم بكتل إسمنتية ضخمة تحيط بالحدائق العامة وتسد الطرق وتحول مسارات السير، ويقول أحمد، صاحب أحد المحلات في الصالحية: «نعيش في سجن كبير، فالوصول إلى مكان العمل يتطلب كل يوم خريطة جديدة للاستدلال على الطرق السالكة. مؤخرا لم أعد استخدم سيارتي للوصول إلى وسط البلد، صرت أركنها في مكان بعيد وأتابع سيرا على الأقدام، ولكن حتى هذا يتطلب خريطة لعبور متاهات الحواجز الإسمنتية».

أما لمى (28 عاما)، التي قصدت وسط العاصمة لتسديد فواتير الهاتف والكهرباء، فقالت بتذمر: «كل يوم هناك جديد.. اليوم فوجئت بالجدار العازل الذي أقيم أمام مركز شركة الخليوي، وفوجئت بجدار آخر يلف حديقة عرنوس، وحواجز وعسكر في كل مكان. وكل عدة أمتار علي التوقف وفتح حقيبتي كي ينبشها عسكري منهك يشعرك بأنه يكره نفسه». وتضيف: «أصبحت دمشق وكأنها جهاز رنين مغنطيسي ضخم.. على المواطن أن يكون مهيأ دائما للخضوع للكشف».

أبو خالد، وهو رجل مسن كان يتوقف أمام مكتبة ميسلون في محيط فندق الشام، قال إنه اعتاد على حالة التأهب وسط العاصمة ولم تؤثر في عادته، كل يوم سيذهب إلى مقهى الكمال في منطقة التجهيز القريبة. أما التفتيش فهو لا يهتم لذلك أبدا كونه لا يحمل شيئا في جيوبه سوى مبلغ زهيد من المال وبطاقته الشخصية وصحيفة محلية، إذ لم يعد يسمح للصحف العربية والأجنبية بالدخول إلى السوق السورية؛ سوى بضع صحف لبنانية موالية للنظام.

ويتابع أبو خالد الذي عاصر فترة فجر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي وما تلاه من حروب عاشتها المنطقة: «إن ما تمر به سوريا اليوم لم يمر في تاريخها مثله»، ومع ذلك برأيه أن الشعب السوري شعب مؤمن وقوي وقادر على اجتياز المحنة. وبالنسبة له، فهو مستمر في ممارسة نشاطه اليومي إلى أن «يسلم الأمانة لباريها».. فهو يوميا يذهب إلى المقهى ويلعب «الطاولة» مع أصدقائه.

ويقول إنه أضاف حديثا لنشاطه «عد أصوات القذائف المنطلقة من قاسيون والتكهن مع رفاقه بمكان سقوطها، والتداول في أحوال البلاد والحواجز ووضع توقعات جديدة». ويؤكد، ساخرا من الإجراءات الأمنية: «كل ما يقومون به لن يفيد سوى بالتضييق على الناس، فتلك الحواجز لم تمنع وقوع تفجيرات في أكثر المناطق اكتظاظا بالناس، كما أن الانفجارات لن تمنع الناس من ممارسة حياتهم اليومية. في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وكل ما نراه شاذ وحالة طارئة لا بد أن تنتهي».. لكن أبو خالد على الرغم من يقينه بالنهاية لا يراها قريبة، لذا يقول: «نحن شعب حيوي ولدينا قدرة هائلة على التكيف مع أسوأ الظروف».

إلا أن لمى الشابة تأمل بنهاية سريعة لأن «الناس ملت حالة الطوارئ، والجميع يفكر بالفرار من الجحيم».. وتقول: «من غير المعقول أن تخرج من البيت لتروح عن نفسك في الشارع فتختنق من الازدحام والحواجز، ومن غير المعقول أيضا أن نعتقل في منازلنا ونحرم النوم بسبب أصوات القصف والتدمير، فللصبر حدود.. وصبرنا تجاوز كل الحدود».

من جهته، يأسف ناهل (60 عاما)، الذي نزح من ضواحي دمشق مع عائلته إلى بيت أهله في الصالحية، لعمره الذي «ضاع بين بناء بيت وأسرة.. وعندما أراد أن يرتاح اشتعل البلد». هو لم يعد يرجو من الله شيئا سوى سلامة أسرته، أما شيخوخته فيبدو أنه سيعيشها بـ«قلق دائم؛ إن كتب له العيش»، بحسب تعبيره. ويقول: «انتقلت لوسط المدينة لأنه ما زال آمنا نسبيا، ولكن انتشار الحواجز الكثيف في الأسبوع الأخير، ووصول الاشتباكات إلى وسط دمشق لا يشير إلى أنها ستبقى آمنة».