الجامع الكبير في القيروان شاهد على حرب المساجد في تونس

السلفيون يسيطرون على 5 من 35 مسجدا بالمدينة

TT

يوم الجمعة الذي أعقب سقوط الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، اعتلى محمد الخليف منبر الجامع الكبير التاريخي في مدينة القيروان من أجل الهجوم على ثقافة الفساد الموجودة في البلاد، وإدانة العلاقات القوية بين تونس والغرب، مطالبا بتطبيق الشريعة الإسلامية من خلال الدستور الجديد.

وصاح الخليف، الذي كان ممنوعا طوال العشرين عاما الماضية من أن يخطب في الناس بأمر من النظام البائد: «لقد ذبحوا الإسلام». وأوضح أن من يحارب الإسلام وينفذ مخططات الغرب يصبح في أعين السياسيين الغربيين قائدا مباركا موفقا ومصلحا حتى إذا كان أكثر القادة إجراما وأقذرهم يدا.

لم تعصف مثل هذه الخطب بالمساجد في أنحاء تونس في ذلك اليوم فحسب، بل استمرت في كل يوم جمعة منذ ذلك الحين، في ما أصبح معركة منابر يتبارى فيها المتنافسون على تعريف الهوية الدينية والسياسية لتونس.

حررت الثورة خمسة آلاف مسجد في البلاد، بحسب التقديرات الرسمية، من القيود الصارمة التي كان يفرضها النظام السابق، الذي كان يعين كل إمام جامع، ويصدر قائمة بالمواضيع المسموح بتناولها في خطبة الجمعة. لقد أبعد هذا النظام نموذجا معتدلا غير سياسي للإسلام تفادى الدخول في صدام مع حاكم طاغية مستبد. وبعد انهيار النظام العام الماضي، سيطر السلفيون المتشددون على نحو 500 مسجد بحسب تقديرات الحكومة.

وتقول الحكومة، التي تدعم نموذج إسلام سياسي أكثر اعتدالا، إنها لم تستعد السيطرة إلا على 70 من هذه المساجد، لكنها تقر بعدم توجيهها للمتطرفين أو إحباطها لأهدافهم.

كانت الدولة في الماضي تخنق الدين من خلال السيطرة على الأئمة والخطب الدينية والمساجد كما يوضح الشيخ الطيب الغزي، إمام الجمعة في الجامع الكبير بالقيروان. وقال: «كل شيء بات خارج السيطرة الآن. الوضع أفضل لكنه بحاجة إلى انضباط».

حتى هذه اللحظة يركز الدعاة السلفيون، من أمثال الخليف الذي يؤيد أكثر التأويلات تشددا للإسلام، على مواضيعهم المفضلة ومنها تطبيق الشريعة الإسلامية فورا، وفرض الحجاب على النساء، وتجريم شرب الخمور، وقطع العلاقات مع الغرب، والمشاركة في الجهاد في سوريا. ويؤكدون أن الديمقراطية لا تتوافق مع الإسلام.

وقال الشيخ الخطيب الإدريسي، الذي يعد الأب الروحي لكل السلفيين في تونس: «إذا كانت الأغلبية تجهل تعاليم الدين الإسلامي، فهم يحادون الله؟ وإذا كانت الأغلبية فاسدة، فكيف لنا أن نقبلها؟ حكم الله هو الحق».

إن المعركة التي تحدث على المساجد في تونس ما هي إلا جبهة واحدة في صراع أشمل وأكبر، حيث تنتشر جيوب التطرف في مختلف أنحاء البلاد.

فازت الحكومات الإسلامية، التي توجد في وضع جديد عليها إلى حد كبير، على خصومها من العلمانيين المتشرذمين خلال الانتخابات التي جاءت ثمرة للثورة، لكن تلك الحكومات الجديدة محصورة في منافسة شرسة، تميل إلى العنف أحيانا، مع جناح أكثر تشددا من حركات الإسلام السياسي حول نسبة الإيمان بالديمقراطية في هذا المزيج، وحول وحدات بناء الهوية الإسلامية. وتتجلى هذه المنافسة بصورة خاصة في تونس، التي كانت يوما ما أكثر الدول العربية علمانية، والتي بها قاعدة كبيرة من الطبقة المتوسطة المتعلمة وتربطها علاقات وطيدة مع أوروبا. لقد بدأ الربيع العربي في تونس، وربما تصلح أن تكون قدرتها على المواءمة بين التدين والحكم معيارا يقاس عليه حال المنطقة بأكملها. ويربط بعض المحللين بين عدوانية واغترار الحركة السلفية التونسية وبين انتشار أحداث التطرف العنيفة المثيرة للقلق في أنحاء شمال أفريقيا، بما في ذلك سيطرة ذراع من أذرع «القاعدة» على الحكم في شمال مالي، والهجوم على البعثة الدبلوماسية الأميركية في بنغازي بليبيا، الذي أسفر عن مقتل السفير وثلاثة دبلوماسيين، وتنامي قوة الجهاديين في سيناء المهددة لإسرائيل، ونهب مدرسة أميركية وأجزاء من السفارة الأميركية في تونس.

وقال مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى، إن المجموعات المتنوعة تتبنى الآيديولوجية نفسها، وعلى اتصال ببعضها البعض. وأشاروا إلى أنه في الوقت الذي يبدون فيه متفرقين ولا يوجد تنسيق بينهم في العمليات، يدعمون أهداف بعضهم البعض. وتم إلقاء القبض على عدد من الجهاديين وهم يهربون أسلحة خفيفة من ليبيا إلى مالي أو الجزائر عبر تونس على سبيل المثال، وتم استخدام في هذه العملية شاحنتين محملتين بـ«الكلاشنيكوف» ونوع من الصواريخ التي تحمل على الكتف أو قنابل يدوية في يونيو (حزيران)، على حد قول وزير الداخلية علي العريض.

ويرى الرئيس التونسي، المنصف المرزوقي، ووزراء أن النظام البائد هو السبب وراء انتشار التطرف الإسلامي في البلاد، لأنه خلق فراغا بتدميره للتعليم الإسلامي التقليدي على مدى الخمسين عاما الماضية. ويقدر المرزوقي عدد المتطرفين، الذين ينتهجون نهجا عنيفا في البلاد، بثلاثة آلاف فقط، لكنه أقر بأنهم كانوا يمثلون خطرا متناميا على الأمن القومي.

وأوضح العريض أن أكثرهم من الشباب المضلل والمغرر به، باستثناء حفنة من القادة «المؤمنين بهذه الأفكار بشدة». ويرى المنتقدون أن احتمال تحولهم إلى العنف أمر مثير للقلق، حيث تشوه الحوادث الأمنية المتكررة، مثل قتل قوات الأمن لشاب سلفي في مواجهة الأسبوع الماضي، صورة الدولة التي تعتمد على السياحة.

وتبذل الحكومة، التي يقودها حزب النهضة الإسلامي، جهودا لاحتواء المشكلة من دون اللجوء إلى الوسائل العنيفة التي كان يستخدمها النظام المستبد السابق. وتم اعتقال نحو 800 سلفي، على حد قول وزير حقوق الإنسان سمير ديلو. وازداد القبض على مؤيدي العنف بعد احتجاجات تم خلالها نهب مجمع السفارة الأميركية في 14 سبتمبر (أيلول) على خلفية الفيلم المسيء للإسلام.

وفي مدينة القيروان، التي تقع على بعد مائة ميل جنوب العاصمة تونس، يسيطر السلفيون على خمسة من مجموع خمسة وثلاثين مسجدا موجودين في المدينة، على حد قول الشيخ الغزي، إمام الجامع الكبير.

وقال الشيخ الغزي: «يشعر السلفيون بالقوة لأنهم لم يواجهوا أي مقاومة من الحكومة». والشيخ الغزي رجل ضئيل الحجم يبلغ من العمر 70 عاما ويرتدي جلبابا رماديا قصيرا. وأوضح أنهم سيتحولون إلى «خطر على الدولة» لو لم يتخذ ضدهم موقف «صارم» جنبا إلى جنب مع الحوار.

وتتجلى في الجامع الكبير، وهو قلعة من الحجر الرملي، الجذور العسكرية لمدينة القيروان، التي تعد عاصمة أول جيش إسلامي يغزو شمال أفريقيا. ويعد هذا المسجد هو الأقدم في تونس. ويتهم الشيخ الغزي وآخرون المتطرفين بمحاولة فرض قراءة متشددة للإسلام وأقل تسامحا من القراءة التي ظلت منتشرة في تونس لفترة طويلة. وأوضح أن الأئمة السلفيين يجندون الشباب حتى يموتوا في القتال الدائر في سوريا، رغم أن الإسلام يحرم على المسلم قتل أخيه المسلم.

ويحاول السلفيون باستمرار طرد السياح من الجامع الكبير، وهددوا بإزالة ضريح سيدي الصحبي، الذي يحظى بشعبية كبيرة هنا، رغم أنهم لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة إلا من الشجار مع الزائرين الذين يحاولون الصلاة هنا. وتم تهديد بعض الأئمة من غير السلفيين في بعض المساجد بالضرب بل وبالقتل أحيانا إن لم ينصاعوا لأوامرهم ويغادروا المسجد، كما يوضح الشيخ الغزي. وتم تغيير أقفال المساجد في حالات أخرى لمنعهم من الدخول.

وتحول الصراع في بعض المدن إلى الاشتباك بالأيدي والعصي. وبدأ السلفيون يطبقون الشريعة الإسلامية بأنفسهم، حيث أغلق 70 سلفيا في مدينة سيدي بوزيد خلال شهر سبتمبر الفندق الوحيد الذي يبيع الخمر في المدينة، وكذلك حطموا النافورات التي أمامه بقذفها بصناديق كاملة من البيرة. وأوضح الشيخ الغزي قائلا: «إنهم يريدون أئمتهم الذين يتحدثون لغتهم. إنهم يريدون شخصا يؤيد الجهاد، ويدعوهم إلى الجهاد في بلدان أخرى، ويصب اللعنات على الشيعة، ويدعوهم إلى الدفاع عن القرآن بالقوة».

وطلب المصلون من الدكتور الخليف عدم العودة بعد أول خطبة جمعة ألقاها بعد سقوط النظام، على حد قول الشيخ الغزي. مع ذلك قال الدكتور الخليف، طبيب الأطفال وابن أحد الأئمة المشاهير للجامع الكبير، الذي يبلغ من العمر 60 عاما، إن التونسيين المضللين فقط هم الذين يرون خطبه غريبة. مع ذلك، قال وزير الشؤون الدينية، نور الدين الخادمي، إن وزارته بصدد تقييم أئمة جدد، مشيرا إلى تعيينه نحو ألفي إمام منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. وأوضح قائلا خلال مقابلة: «ستكون كل الأمور على ما يرام بحلول فصل الشتاء»، رغم أنه توقع خلال الربيع الماضي، أن يتم هذا بحلول شهر أغسطس (آب).

وقال عبد الفتاح مورو، مؤسس حزب النهضة، والذي كان ضحية لاعتداءات بعض السلفيين: «إنها مشكلة من الصعب حلها.. إنك بحاجة إما إلى رأي عام وإما إلى قوة شعبية. لا يمكنك طلب نشر الشرطة في المساجد، فهذا مستحيل وغير أخلاقي وضد الدين».

* خدمة «نيويورك تايمز»