كاتبة سورية توصم بالخيانة العظمى بسبب تأييدها للثورة السورية

فازت بجائزة «بن بنتر» للشجاعة الأدبية

القاصة سمر يزبك
TT

بالنسبة لضابط البوليس السري الكبير الذي ظل يصفعها عدة مرات حتى تهاوت قدماها، كانت سمر يزبك خائنة، فالمشاركة في مظاهرات مناهضة للنظام كانت في رأيه فعلا سيئا بما يكفي، إلا أن ما جعل هذا الفعل يصل إلى مرتبة الخيانة العظمى المشينة إلى أبعد حد في نظر ذلك الضابط هو أن سمر يزبك كانت من بين القلة القليلة من العلويين البارزين الذين جاهروا بخروجهم على النظام. فبعد بداية جادة عام 1970، حينما استولى حافظ الأسد على الرئاسة في انقلاب عسكري، انتزع العلويون سوريا من قبضة سادتها التاريخيين من الطائفة السنية، وبالتالي فمن الممكن أن يخسروا كل شيء إذا ما عاد السنة إلى السلطة.

وكان من بين ما صاح به الضابط في وجهها «أنت نقطة سوداء في جبين جميع العلويين»، ثم استدعى رجلين مفتولي العضلات اقتادا سمر يزبك إلى سلسلة من زنازين التعذيب المبنية تحت الأرض كنوع من الوعيد المؤلم. وقد روت أنها وجدت في الزنزانة الأولى 3 شباب أجسادهم نصف عارية ومعلقين من أيديهم في السقف إلى درجة أن أصابع أقدامهم كانت بالكاد تلامس الأرض. وكتبت سمر يزبك في مذكراتها التي نشرت مؤخرا عن أول 4 أشهر للثورة السورية بعنوان «امرأة في تقاطع النيران»: «كانت الدماء تسيل من أجسادهم، دماء طازجة، ودماء جافة، وجراح عميقة في جميع أنحاء أجسادهم، كما لو كانت ضربات ريشة رسام تجريدي. فجأة حاول واحد من هؤلاء الشباب أن يرفع رأسه في وهن، فرأيت وجهه على خيوط الضوء الخافت. لم يكن لديه وجه: كانت عيناه مقفلتان تماما، وكانت هناك مساحة فارغة في المكان الذي كان من المفترض أن يكون أنفه، ولم تكن هناك أي شفاه».

وانهارت سمر يزبك (42 عاما) أمام ذلك المشهد، فأوقفوها على قدميها من جديد كي تواصل جولتها داخل ذلك المجزر، في واحد من أبشع الأيام التي روتها داخل ذلك الكتاب، الذي يعتبر تأريخا مبكرا نادرا للثورة من الداخل. وسواء في الكتاب أو في حياتها الحقيقية، تتذبذب الروائية سمر يزبك بين اعتناقها للشعار العلوي ورفضها له، حيث كرهت ما يجري من تلوين للثورة بألوان طائفية، وهو شعور سائد بين ذلك العدد المحدود من العلويين الذين أعلنوا انضمامهم إلى الثورة. وقد ذكرت باللغة العربية وهي تتناول القهوة داخل فندق في منطقة ميدتاون مانهاتن: «لم أكن أهتم أبدا بما إذا كنت علوية أم لا. لقد كان الأمر كما لو أن شخصا يقول إن لديك عينان زرقاوان».

وقد كان تأييد الحركة الاحتجاجية السلمية التي انطلقت في شهر مارس (آذار) عام 2011 أمرا نادر الحدوث بين الأقلية العلوية، التي تمثل نحو 12 في المائة من سكان سوريا البالغ عددهم 23 مليون نسمة، فرغم كل شيء، فإن الرواية الرسمية عن الثورة تقول بأن عصابات الإرهابيين السنة القادمة من الخارج تسعى إلى إسقاط النظام. إلا أن سمر يزبك تقول: «بدأت أقول إنني علوية وإنني مع الثورة». ولم تكن هذه هي أول مرة تواجه فيها مصاعب في حياتها، فقد ولدت سمر — التي تمتلك ملامح جميلة مثل كثيرين من أبناء المدن الساحلية السورية — في أسرة بارزة بدأت ثرواتها في التضاؤل بعد أن قام جدها طواعية بتوزيع أراضيه الشاسعة على الفلاحين الذين كانوا يعملون فيها (وقد كانت إحدى قريباتها من بعيد متزوجة من أسامة بن لادن). وكانت سمر واحدة من 5 أشقاء و3 شقيقات، وقد فرت من المنزل وهي في عمر 16 عاما وتزوجت وهي في عمر 20 عاما، ثم طلقت بعدها بعامين، فاصطحبت طفلتها الرضيعة معها إلى دمشق، وهي تقول إنها كانت عازمة على المحاربة من أجل حقوق المرأة، «من أجل التصدي لوضعها في العالم العربي».

وفي نهاية المطاف كان رصيدها قد وصل إلى ما يقرب من 12 كتابا، منها 5 روايات، وقد حصلت الشهر الماضي على «جائزة بن بنتر الأدبية للكاتب الدولي الشجاع»، إلا أن السلطات منعت نشر كثير من هذه الأعمال، حيث كسرت سمر يزبك قيود المحرمات بالكتابة عن علاقات الجنسية المثلية بين النساء، كما استعانت بالأدب القصصي في استكشاف التجربة العلوية. وقد تحدثت في واحدة من رواياتها الطموحة عن تفاصيل علاقة عاطفية بين ممثلة وضابط كبير، وكلاهما من العلويين وكلاهما لم يتم إخفاؤه كثيرا عن الواقع، ومن بين التغييرات الأخرى في الحبكة الدرامية أن الاثنين كانا يصران على أنهما سبق أن التقيا كعاشقين مرات كثيرة على مر القرون، فالعلويون على عكس معظم المسلمين يؤمنون بتناسخ الأرواح.

وحتى قبل الثورة، كانت سمر يزبك تقول بأن حكم عائلة الأسد أفقر العلويين، وقد اعتادت على الغضب الذي كان يجلبه ذلك عليها شخصيا، إلا أنها لم تكن متأهبة للمضايقات التي انصبت فجأة فوق رأس أسرتها بعد اندلاع الثورة، حيث وزعت منشورات تطالب برأسها في جميع أنحاء المناطق العلوية الساحلية، ومن بينها مسقط رأسها مدينة جبلة التي تقع بالقرب من اللاذقية. وقد صاحت مدرسة في وجه ابنة أخيها ذات مرة قائلة لها إن عمتها «عاهرة».

وفي النهاية قبلت سمر يزبك بأن يعلن أفراد أسرتها التبرؤ منها من أجل الحفاظ على حياتهم، إلا أنها لم تستطع تحمل التهديدات التي تعرضت لها ابنتها، التي أصبح عمرها الآن 19 عاما، ولا المشاهد المبكية لابنتها الخائفة وهي تحاول منعها من الذهاب إلى المزيد من المظاهرات. غير أن سمر يزبك كانت عازمة على أن تصبح مؤرخة للحركة الاحتجاجية السلمية، وقد تحملت مخاطر كبيرة من أجل القيام بذلك، ففي بعض الأحيان على سبيل المثال، كانت تمثل أنها بكماء حتى تتمكن من المرور عبر نقاط التفتيش.

ويصف الكتاب تفاصيل مؤلمة عن هذه المواجهات المصيرية، منها أن متظاهرا شابا إلى جوارها مباشرة أصيب بطلقة نارية أودت بحياته من بندقية قناص تابع للنظام. وهي تقول: «كنت أعلم أنه نظام قمعي، لكنني صدمت نفسيا في البداية من رؤية الناس وهم يقتلون أمامي». وقد أصابها الذهول من السرعة التي تحركت بها قوات الأمن لضرب المتظاهرين دون أي قدر من الإحساس، وكتبت: «لم أظن أبدا أن عمليات القتل يمكن أن تنتشر فجأة في الشوارع مثل الأشجار. كيف جعلت أجهزة الأمن الناس بمثل هذه الوحشية؟» وقد اضطرت إلى الاعتماد على الأدوية المنومة حتى تتمكن من النوم، وظلت تتنقل من منزل إلى آخر في محاولة ساذجة منها للهروب من البوليس السري، وحينما كانت تمشي في أي شارع من الشوارع، كانت تلاحظ أنها تنظر باستمرار إلى أسطح البنايات بحثا عن القناصة، وقالت وهي تفكر في حياتها إنها رواية أكثر واقعية من كل ما يمكنها أن تؤلفه على الإطلاق. وكثيرا ما كانت تشعر بالوحدة، حيث كتبت: «أنا مجرد امرأة في هذا العالم الصغير تعيش بمفردها مع ابنتها. ما أضيق هذا المكان على روحي. يمكنني تقريبا أن أمد يدي خارجه وألمس السماء».

وتنتهي هذه المذكرات في شهر يوليو (تموز) عام 2011 حينما فرت إلى باريس، إلا أنها ظلت منذ ذلك الحين تتسلل عائدة إلى شمال سوريا، مما أثار مشاجرات مع أصدقائها، حيث تقول رانيا سمارة مترجمة الفرنسية التي تستعين بها وصديقتها منذ 20 عاما: «أخبرتها أنها فقط تحاول إظهار نفسها. لقد سألتها ما الذي تحاول إثباته، وهو أنها ما زالت جزءا من المعركة، مما يجعلها تخاطر بحياتها من أجل الاستجابة لمن يقولون إنه ينبغي عليها البقاء؟» وتقول رانيا سمارة إنها ظلت تتصل بها يوميا لمدة 10 أيام تقريبا، مضيفة: «لقد قلت لها إنها مجنونة، وإنه ينبغي ألا تقوم بهذه المخاطرة، وإن لديها ابنة، وإنني لن أكون مسؤولة إذا حدث أي شيء». وقد شعرت سمر يزبك بالغضب، إلا أن هذا لم يثنها عن رأيها، إذ تؤكد رانيا سمارة: «لديها فكرة واضحة للغاية عما تريد فعله وما لا بد من فعله. إنها شجاعة ومخلصة. كل ما تفعله تفعله باقتناع وإخلاص».

إلا أن مشاعرها ما زالت مشاعر فطرية، ففي الكلمة الافتتاحية التي ألقتها أمام حلقة نقاشية في «معهد السلام الدولي» هنا، انفجرت في البكاء بمجرد أن بدأت في الحديث عن صمود الشعب السوري، رغم الثمن المروع الذي يدفعه. ومثل كثير من السوريين، فهي تلقي باللائمة على الغرب، متهمة إياه بالفشل الأخلاقي لعدم التوسط في الأمر، وقالت إن الغرب لم يتحرك لأن سوريا ليس لديها نفط ولأن إسرائيل تريد أن تراها ممزقة.

ووصفت سمر يزبك المخاوف المتعلقة بمن قد يسيطر على سوريا في يوم من الأيام بأنها حجة واهية، قائلة إن الناس الذين يديرون العشرات من لجان التنسيق المحلية التي نظمت الثورة سوف يتقدمون ليكونوا الجيل التالي من الزعماء السياسيين، إلا أن أكثر ما يشغلهم في الوقت الراهن هو البقاء على قيد الحياة حتى يمكن أن يعتنوا بأمر العملية الانتقالية. وقد صرحت في نهاية الحوار ودموعها تسيل مرة أخرى: «نحن نريد الديمقراطية. بعد كل هذه البطولة وبعد كل هذه الفوضى، الشعب السوري يستحق ذلك، يستحق أن يعيش بطريقة عادلة وشرعية وحرة. إن ما مروا به هو ثمن بسيط يدفعونه من أجل بلوغ ذلك الهدف».

*خدمة «نيويورك تايمز»