البرد يعصف باللاجئين السوريين في ظل تدهور المساعدات

عائلات بدأت في العودة إلى الأساليب القديمة للبقاء.. من بناء أفران تعمل بالخشب إلى الاعتماد كلية على ضوء النهار

لأجئون سوريون برأس العين في طريقهم لعبور الحدود نحو تركيا أمس (رويترز)
TT

هبت الرياح من ناحية جبل الشيخ المغطى بالجليد حاملة معها بدايات زمهرير الشتاء، ليتردد صفيرها عبر النوافذ المكسورة لمدرسة ابتدائية مهجورة احتشد بداخلها لاجئون سوريون في هذه القرية الصغيرة الواقعة في سهل البقاع. ويواجه الآن مئات الآلاف من السوريين المهجرين بسبب الحرب، الذين هرع الكثيرون منهم إلى الفرار من سوريا أثناء الصيف وهم يرتدون ما لا يزيد كثيرا على بعض القمصان الصيفية والأحذية الخفيفة، انقضاضة الشتاء عليهم داخل مأوى غير ملائم، طبقا لما أعلنه مسؤولون حكوميون ومنظمات تعمل في مجال المساعدات.

ويقول محمد خير القريبي، وهو شاب قوي البنية يبلغ من العمر 27 عاما كان قد فر إلى هنا الصيف الماضي مع زوجته وطفليه: «سوف يكون هناك شتاء في الخارج وشتاء في الداخل. لقد بدأنا بالفعل نستيقظ مبكرا لأن الجو شديد البرودة».

ومع انخفاض درجات الحرارة بالفعل إلى ما دون الصفر أثناء الليل في التلال المحيطة بهذا السهل، تتعمق أكثر فأكثر الأزمة الإنسانية التي تواجه ملايين السوريين المهجرين، حيث تقول الأمم المتحدة إن ما يربو على المليون شخص ممن هم بحاجة إلى مساعدات يظلون بعيدين عن مرمى جهود الإغاثة الدولية. ويعتبر عجز جماعات المساعدات الدولية عن التعاطي مع هذه الأزمة، التي تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة، متعلقا في جزء منه بإمكانية الوصول إلى مناطق الحروب. إذ تؤكد الوكالة الأممية لشؤون اللاجئين أن أكثر من 400 ألف شخص قد فروا من سوريا، وأن 1.2 مليون شخص اضطروا إلى الرحيل عن منازلهم داخل البلاد. وهناك أكثر من 2.5 مليون شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية، وما زال هذا العدد في تصاعد مستمر، إلا أن الأمم المتحدة أعلنت أنها لم تتمكن من الوصول إلا إلى مليون شخص منهم.

غير أن هذه الجهود قد تعطلت أيضا بسبب نقص الموارد، حيث تسعى الأمم المتحدة إلى جمع ما يصل إلى 487 مليون دولار من أجل اللاجئين في مختلف أنحاء المنطقة، جمعت منها حتى الآن نحو 35 في المائة. ويقول بانوس مومتزيس، وهو المنسق الإقليمي التابع لـ«المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»: «إن قدرة مجتمع المانحين الدولي على تقديم الدعم في الأزمة لا تسير بنفس السرعة التي تتكشف بها أبعاد الأزمة». وتقوم البلدان المجاورة التي تواجه هذا التدفق البشري بوضع خططها الخاصة: فالأردن يسعى إلى جمع نحو 700 مليون دولار، وتركيا - التي أنفقت 400 مليون دولار من جيبها الخاص على إقامة مخيمات حديثة تقدم 3 وجبات يوميا - بدأت هي الأخرى في طلب مساعدات. وداخل سوريا تعتبر الأوضاع أسوأ من ذلك بكثير، حيث يقول مسؤولو المساعدات إن توزيع المساعدات ابتلي بمشكلات تتعلق بإمكانية الوصول والأمن وعدم وجود منظمات لتنفيذ العمل، فمعظم هذه المنظمات تنطلق من دمشق، حيث بلغ من شراسة الاقتتال هناك في الأسابيع الأخيرة أن تم إصدار تعليمات إلى عمال المساعدات بين الحين والآخر بعدم مغادرة منازلهم، كما أن بعض المناطق سقطت في قبضة قوى جهادية مجهولة تنظر إلى منظمات المساعدات الغربية على أنها خلايا تجسس.

وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، نجحت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» أخيرا في التفاوض مع الميليشيات الأصولية التي تسيطر على المدينة القديمة في حمص كي تسمح لها بالدخول لفترة قصيرة. وقد استقبل الأهالي عمال الإغاثة بالسخط بسبب تأخرهم لما يزيد على 4 أشهر حتى يصلوا إليهم، حيث صاح رجل يرتدي زيا عسكريا مموها في تسجيل فيديو للزيارة تم بثه على موقع «يوتيوب» وهو يشير بإبهامه إلى الأسفل: «لقد ظللنا محاصرين شهورا، والآن خطر على بالكم أن تأتوا؟ نحن لا نريدكم، ولا نريد طعامكم، ولا نريد أي شيء منكم».

ويوضح مسؤولو المساعدات أن هناك على الأقل 20 منطقة داخل سوريا لا يمكن الوصول إليها بسبب القتال، كما أن مساحات شاسعة من الريف يتعذر الوصول إليها أيضا، ومن بينها معظم أنحاء الشمال، لأن الطرق المقبلة إليها من دمشق شديدة الخطورة. وقد بدأت العائلات في محافظة إدلب الريفية في العودة إلى الأساليب القديمة في البقاء، ففي بعض القرى التي انقطعت عنها الكهرباء منذ شهور على سبيل المثال، قام الأهالي ببناء أفران تعمل بالخشب في أفنية منازلهم الخلفية، وقد أصبح ضوء النهار الآن هو الذي يحدد إيقاع حياتهم، حيث أصبحوا يخلدون إلى النوم بعد غروب الشمس بوقت قصير ويستيقظون مع الفجر.

ومن الصعب تخطيط عمليات الإغاثة لأن الأعداد غير ثابتة والاتصالات تتم كيفما اتفق، وفي مدينة حمص التي تشهد قتالا منذ وقت طويل على سبيل المثال، سجلت الأمم المتحدة 223 ألف شخص يحصلون على حصص غذائية شهرية، وبالتالي اعتمدت على هذا الرقم ليكون عدد الناس المحتاجين. ولكن عندما مكن هدوء القتال «الهلال الأحمر السوري» من إجراء دراسة مسحية، كان هناك 492 ألف شخص يطلبون الحصول على مساعدات. ولم تسمح الحكومة السورية سوى لـ8 من منظمات المساعدات الأجنبية بالعمل، وكلها كانت تعمل بالفعل في سوريا قبل اندلاع الثورة في شهر مارس (آذار) عام 2011، حيث كانت تتولى مساعدة اللاجئين العراقيين. وقد فقد 7 من العاملين في «الهلال الأحمر السوري» حياتهم.

وتعتبر أكبر الدول المانحة هي الولايات المتحدة (التي تقدم 8.5 مليون دولار) وبريطانيا (التي تقدم 7.8 مليون دولار)، وأسهمت دول الخليج العربي الغنية بالقليل من خلال منظومة الأمم المتحدة، باستثناء الكويت التي قدمت مليون دولار. والآن فقد بدأ البرد يضيف بعدا آخر إلى الاحتياجات المطلوبة، ذلك أن فصول الشتاء في الشرق الأوسط قد تكون قاسية، من خلال تساقط الثلوج في بعض المناطق وهبوب الرياح الباردة التي تضرب جميع أنحاء الصحارى. ويوضح مومتزيس أنه نظرا لعدم تمويل سوى نحو 35 في المائة من مبلغ الـ70 مليون دولار المحدد في الميزانية الخاصة بالاستعداد لقدوم الشتاء، فإن ثلثي السكان الأكثر تضررا فقط هم الذين سيحصلون على مساعدات. أو على حد تعبير دبلوماسي كبير، فإن اللاجئين سوف يحصلون على الطعام «ولكن ليس بسخاء»، وسوف يحصلون على الكساء «ولكنهم سيشعرون بالبرد».

وتعتبر الجهود المبذولة للفرز حسب الأولوية واضحة للعيان، إذ يوضح المسؤولون الأمميون أن هناك 10 إلى 15 عائلة تصل إلى سهل البقاع يوميا، وأن 75 في المائة منها هم من النساء والأطفال. وقد ناشد أحمد فليدي، وهو نائب عمدة بلدة إرسال الواقعة في سهل البقاع، أحد عمال المساعدات وهو يدخل إلى حجرة مكتبه: «هل يمكننا نقل تلك الأسر الـ150 الأخرى؟ لأن درجات الحرارة الرهيبة في فصل الشتاء قد بدأت». وقد استقبلت البلدة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 27 ألف نسمة وتقع على بعد 12 ميلا من سوريا، ما يزيد على 10 آلاف لاجئ، وبعضهم يقيم بمعدل 10 أفراد أو أكثر داخل غرفة واحدة، في 250 مسكنا مبنية من الطوب اللبن ومكشوفة للهواء بلا أي نوافذ أو أبواب. وتبلغ العيادات الطبية عن وجود ارتفاع مفاجئ في معدلات ظهور مشكلات صحية مثل الأمراض الجلدية، التي تنتشر نتيجة وجود عدد كبير جدا من الناس الذين يعيشون معا دون توافر ما يكفي من العوامل الصحية المناسبة. وهناك عجز في أعداد البطاطين التي يتم التبرع بها، مما يعني توزيع 3 أو 4 بطاطين فقط على العائلة الواحدة، وهو رقم دون المستهدف بتوزيع بطانية واحدة لكل شخص. وقد تبرعت قطر بمواقد للتدفئة، إلا أنها لا تكفي سوى لنحو نصف عدد العائلات.

وأشار فليدي إلى أن هناك 3 مدارس استوعبت 300 طفل سوري، غير أن هناك 2600 طفل آخر يرغبون في الالتحاق بها. وفي لبنان، التي منعت إقامة مخيمات قماشية، تم تسكين معظم اللاجئين في منازل خاصة، وهم موزعون بين ما يزيد على 500 بلدة، وذلك طبقا لما قالته نينيت كيلي، وهي مبعوثة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان. والتبرير الرسمي لهذا المنع هو أنهم يريدون تجنب تكرار تجربة اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، حيث تحولت المخيمات الـ12 التي تم بناؤها من أجلهم إلى مدن دائمة، تعج بما يصل إلى 250 ألف شخص بلا وطن. غير أن السبب الرئيسي الآخر وراء ذلك هو أن حلفاء سوريا في الحكومة اللبنانية يريدون تحاشي مثل هذه الرموز الواضحة للعنف الذي تمطر به سوريا شعبها. ويقول خالد ضاهر، وهو نائب برلماني معارض لسوريا: «لقد سمتهم الحكومة الضيوف، كما لو كانوا هنا للاستمتاع بالمتنزهات والملاهي الليلية».

ولكن مع وصول عدد اللاجئين السوريين في لبنان إلى 128 ألف لاجئ، وصلت الحكومة إلى حالة من الإجماع على أن هذه مشكلة إنسانية، ويأمل المسؤولون في أن يكون الأسوأ قد انتهى، إلا أنهم يتأهبون لليوم الذي ستتفجر فيه المعارك الضارية في العاصمة دمشق، ففي أول يوم من العنف الموسع الذي شهدته دمشق مطلع يوليو (تموز) الماضي، عبر 18 ألف شخص إلى لبنان في يوم واحد. إلا أن هناك مخاوف متصاعدة في جميع البلدان المجاورة الـ4 التي استقبلت عددا ضخما من اللاجئين من حجم الآلاف الأخرى التي يمكنها استيعابها وإلى متى. ويؤكد مومتزيس: «هناك قلق متزايد بشأن الأمن والاستقرار السياسي»، ولمح إلى أن جيران سوريا قد أبقوا حدودهم مفتوحة حتى الآن، إلا أنهم بدأوا في التساؤل: «أين نضع حدا لما يجري لأنه قد يؤثر على استقرارنا؟».

* شارك في التقرير هويدا سعد وهانيا مرتضى من بيروت

* خدمة «نيويورك تايمز»