فجوة بين تطلعات الشعب التونسي وما حققته القوى الحاكمة منذ الثورة

إضراب عام الأسبوع المقبل يظهر مدى انعدام الثقة بين أعمدة البلاد

أعضاء ينتمون إلى «الاتحاد التونسي للشغل» يحتجون على شرفة أحد مقراته بمدينة القصرين أمس مطالبين بتحسين الاوضاع الاجتماعية للعمال (أ.ف.ب)
TT

تقترب تونس من موعد إحياء الذكرى السنوية الثانية لاندلاع الثورة التي أدت إلى إسقاط نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وانطلاق موجة من الثورات والاحتجاجات في العالم العربي، إلا أنه مع الاستعداد للاحتفال بهذه الذكرى يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) الحالي لإحياء ذكرى أولى احتجاجات الثورة، تواجه تونس إضرابا عاما في كل أرجاء البلاد يوم الخميس المقبل دعت إليه أكبر نقابة عمال في البلاد، الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد إضراب في 4 ولايات اليوم. وبينما الاتحاد يقول إن هذه الإضرابات تهدف إلى الاحتجاج على هجوم للناشطين الإسلاميين ضد أعضائها أمام مقر الاتحاد يوم الثلاثاء الماضي، والتي أدت إلى إصابة 10 تونسيين على الأقل، تؤكد جهات عدة في تونس أن القضية أعمق من ذلك. والصدامات بين النقابات وعناصر أمنية وعناصر موالية للحكومة الحالية تأتي في إطار الأزمة التي تشهدها البلاد والتي تفاقمت خلال العام الماضي.

وظاهرة انعدام الثقة باتت تؤثر على مفاصل كثيرة من الحياة في تونس وفي التخطيط لشكل البلاد مستقبلا. وأمام القوى الحاكمة، التي تتجسد بالترويكا التي يقودها حزب النهضة الإسلامي بالتحالف مع التكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية، تحديات عدة لكسب الثقة، إذ تتزايد الفجوة بين تطلعات الشعب التونسي وطموحاته بعد الثورة والواقع على الأرض. ومع نسبة بطالة تصل إلى 17.6 في المائة ومشكلات البطالة المبطنة في البلاد، تعتبر أكبر التحديات التي تواجه تونس على المدى القصير، ولكن وضع خارطة طريق واضحة للانتقال السياسي وتحديد علاقة المواطن مع الدولة، من خلال الدستور الذي من المرتقب أن يتم وضعه العام المقبل، تحدٍّ آخر مهم.

وكانت هذه كلها قضايا طرحت يوم أمس في مؤتمر استمر يوما واحدا عقدته الحكومة التونسية مع مشاركين من العالم العربي وأوروبا لبحث الانتقال السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. ونظم المنتدى الاقتصادي العالمي المؤتمر مع مكتب رئيس الوزراء التونسي حمادي الجبالي ضمن جهود الحكومة التونسية لجذب المستثمرين الأجانب وإعطاء رسالة إلى العالم بأن تونس مستعدة للعمل، وتطمح لجذب المستثمرين والسياح بالإضافة إلى التأكيد على تنافسية البلاد. وافتتح الجبالي المؤتمر قائلا إن مشاركة نحو 90 من أبرز الشخصيات السياسية والاقتصادية من 15 دولة مختلفة ومؤسسات دولية عدة «دليل على اهتمامكم في بلادنا، الذي أصبح شبه مختبر للديمقراطية في العالم العربي». والشعور بأن تونس «مختبر» للدول العربية التي تمر بانتقالات سياسية موجود في تفكير الكثير من المسؤولين التونسيين، وعلى رأسهم وزير المالية سليم بسبس، الذين حضروا مؤتمر يوم أمس الذي تضمن 5 جلسات مغلقة من أجل الحديث الصريح بين المشاركين.

ولفت جبالي إلى أن «بلادنا تعيش تحولا تاريخيا»، مؤكدا أن «الديمقراطية ثقافة وطريق يستغرق وقتا طويلا»، وهذا المسار الطويل يؤثر على الكثير من الخطوات المقبلة التي تواجه تونس. وأكد رئيس الوزراء أن «على الصعيد الاقتصادي - الاجتماعي التركيز سيكون على التشغيل ودعم الجهات المحرومة». وفي الجلسة الختامية، أضاف: «الرهان الاجتماعي هو الذي سيمكن العملية السياسية»، مذكرا بأن «محور الرهان الاجتماعي التشغيل، والتركيز على تشغيل أصحاب الشهادات والخريجين». وهنا تحدث عن أحداث سليانة التي شهدت مظاهرات الأسبوع الماضي، معتبرا أن البطالة وصرف 200 موظفة من مصنع نسيج من عملهن جعلهن «رأس الحربة» في المظاهرات هناك.

وعلى صعيد آخر، لفت الجبالي: «تعمل الحكومة على ترسيخ الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد»، بالإضافة إلى «ضرورة متابعة الأموال العامة المنهوبة». وكانت قضية الفساد وضرورة العمل ضد مظاهرها من أهم القضايا التي أثارها المستثمرون المجتمعون في تونس أمس.

وشدد المدير الإقليمي للبنك الأفريقي للتنمية ياكوب كولستر على أن قضية مكافحة الفساد أمر مهم لبناء الثقة في البلاد، موضحا: «تونس لديها إدارة قوية على النمط الفرنسي منذ عقود، وهي بحاجة إلى رأس يقودها، كان بن علي يترأسها وقبله (الرئيس التونسي الأسبق الحبيب) بورقيبة، هكذا عملت البلاد منذ 60 سنة». وأضاف: «اليوم الإدارة تعمل ولكن لا يوجد رأس لها. من قبل كان الفساد محصورا في القصر، ولكن اليوم لا أقول إن الفساد في القمة، بل أصبح في أسفل مستويات الإدارة، فرجال الشرطة يرتشون بطريقة لم نرَها في البلاد من قبل».

ومن جهة أخرى، قال الجبالي إن «الاتحاد الأوروبي شريكنا الأساسي»، لافتا إلى المشكلات التي واجهت تونس اقتصاديا بسبب الأزمة الاقتصادية في أوروبا. ولفت المدير الإداري لمنتدى الاقتصاد العالمي بورغه برانده إلى أن «جارة تونس الشمالية، القارة الأوروبية، تعمل حثيثا لمعالجة الوضع الاقتصادي»، مذكرا بتبعات ما يحدث في أوروبا على تونس التي كانت تصدر نحو 70 في المائة من صادراتها عبر البحر المتوسط إلى أوروبا قبل الأزمة الاقتصادية.

وقال كولستر إنه «يمكن النظر إلى ما يتم التخطيط له في الإضراب العام بشكل إيجابي، إذ لدى تونس الآن ما لم يكن لديها قبل عامين، وهو حرية التعبير». وأضاف: «القدرة على الإضراب حق من حقوق الناس ولكن المشكلة أن المطالب الاجتماعية التي تشهدها تونس منذ الثورة لا يمكن تلبيتها في الوقت الراهن، فالدولة شهدت ركودا ولديها معدل ناتج إجمالي أقل مما كانت عليه منذ عامين». وتابع: «المطالب الاجتماعية مثل زيادة المرتبات بمعدل 50 في المائة غير واقعية، ولكن لا توجد ثقة بين الحاكم والمواطنين مما يزيد من الأزمة». ولفت إلى أن «انعدام المصداقية وضرورة بناء المصداقية أمر مهم لتونس، لا يوجد رابط مباشر بين الوعود من الحكومة وما تقوم به على واقع الأرض».

ولفتت عالية محمود، وهي المديرة الإدارية لـ«المبادرة المغاربية للمشروعات التنموية»: «في الماضي، كان هناك انعدام ثقة مؤسس في البلاد، لم يكن باستطاعة أحد الحديث من دون المخاطرة وإمكانية الاعتقال، وعلى الرغم من أن هذا الخطر المباشر تلاشى فإن ثقافة انعدام الثقة ما زالت قائمة وتنطوي على كل مستويات الحياة». وعلى الصعيد السياسي، قالت محمود إن «العامل الأساسي لبناء الثقة بين الدولة والمواطنين هو إصلاح القضاء ليكون الجميع أمام القضاء سواسية، كما أن هناك ضرورة لإصلاح النظام الأمني لتصبح الأجهزة الأمنية قائمة لحماية الشعب بدلا من حماية المصالح في الدولة».

وبينما يغادر المستثمرون والمهتمون بالشأن التونسي اليوم تونس، يبقى الانتباه المباشر على الإضراب العام الأسبوع المقبل. وقال حاكم البنك المركزي التونسي السابق مصطفى النابلي لـ«الشرق الأوسط»: «الطريقة التي ستتعامل بها الحكومة مع الإضراب العام ستكون محورية تحديد المرحلة المقبلة، إما أن تزداد الأزمة عمقا، وإما أن تتجه نحو الانفراج». وأضاف: «القضية الجوهرية بعد عامين أننا وصلنا إلى وضع في انعدام ثقة متبادل بين مختلف الأطراف السياسيين والمنظمات العمالية والمنظمات المدنية، إننا نعيش أزمة ثقة عميقة التي أصبح فيها الحوار صعبا». وهناك شعور بالإحباط من الوصول إلى هذه النقطة، إذ قال النابلي: «كان من المفروض أن الوفاق يكون هو سيد الموقف». وتابع: «بعد سنة من الثورة كان الوضع وأزمة الثقة أحسن مما عليه اليوم، لأن بعد الانتخابات والمجلس التأسيسي والحكومة، الذي حدث أننا ضيعنا خارطة الطريق، تواريخ إعداد الدستور والمؤسسات الانتخابية، كل ذلك ضاع». ويذكر أنه حتى الآن لم يتم تحديد موعد إعداد الدستور التونسي الجديد على رغم عمل لجان على بعض مبادئه. وحذر النابلي من أن «الشعب يرى ضبابية أمامه، والمستثمر يرى ضبابية أيضا.. وهذا أمر يزيد من المخاوف». ولفت إلى أن «الإضراب العام يعطي صورة مصغرة لانعدام الثقة».