ممثل الأزهر في لجنة الدستور: لم ندع أحدا للتصويت بنعم أو لا

الشيخ حسن الشافعي لـ «الشرق الأوسط»: ليس لنا دور سياسي ولم نجامل تيارا على حساب آخر

TT

استرجع الدكتور حسن الشافعي، كبير مستشاري شيخ الأزهر، ورئيس وفد الأزهر في الجمعية التأسيسية للدستور الجديد، ذكرياته في ما جرى داخل أول جمعية شهدتها مصر لوضع الدستور، قائلا في حوار مطول مع «الشرق الأوسط»، إن «الأزهر لا يدعو أحدا للتصويت بنعم أو بلا على الدستور الجديد»، مطالبا جموع الناخبين بالتوجه إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، وأن تعمل كافة الأطراف على أن تتم إجراءات الاستفتاء في مناخ ملائم.

ونفى الدكتور الشافعي، وهو أول عالم أزهري يتولى رئاسة مجمع اللغة العربية في مصر، الاتهامات التي توجهها القوى والتيارات الليبرالية بـ«سلق الدستور‏». ووصفه في الوقت نفسه بـ«الدستور الحضاري».

كما نفى الشافعي، (82 عاما)، حقيقة الخلافات والمخاوف من المواد المتعلقة بالمادة الثانية من الدستور وما يثار حولها، مؤكدا أن المرجعية في الدستور هي للأزهر الشريف بيت الأمة ومدرسة الوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي.

وعبر الدكتور الشافعي، وهو عضو في هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، عن ما يحدث في مصر الآن، بقوله: «الاتجاه العام في مصر الآن ليس مقلقا، والجماعة الوطنية سوف تتجمع حول أهداف موحدة ومتقاربة قريبا، ولست ممن يقولون إن ما يحدث في مصر الآن نذير سوء أو انهيار».

وتذكر الدكتور الشافعي نزوله إلى ميدان التحرير إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011. وقال إن «ذهابي إلى الميدان كان بتوصية من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وأوصاني بألا أذهب إلى ميدان التحرير إلا مرتديا الزي الأزهري، وأن أقول على لسانه وباسمه ما شاء، فكان التفويض عاما».

وسرد الدكتور الشافعي، ولأول مرة، قصة الشاب المسيحي الذي أراد أن يتصور معه في الميدان. وقال: «الأزهر ليس له دور سياسي يمارسه في الحياة السياسية، ولم يجامل تيارا على حساب آخر». وفي ما يلي نص الحوار:

* دخل الأزهر بقوة على خط الأزمة التي تشهدها مصر مؤخرا. كيف حدث ذلك؟

- الأزهر لم يكن يوما غائبا عن أي حدث في تاريخ مصر، وكلما اشتدت الأزمات كان الأزهر بوابة الأمل والإنقاذ من أجل دعم مبادئ الاستقرار والحرية، وما حدث مؤخرا أمام قصر الاتحادية الرئاسي، كان الأزهر حاضرا فيه، فقد وجه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، نداء ناشد فيه الرئيس محمد مرسي التأكيد على سيادة القانون وإنهاء الفرقة، ودعا المصريين إلى أن يملكوا أمرهم، وأن يحرصوا على وحدتهم ويحافظوا على وطنهم ويفتدوه بكل غال ونفيس، والاجتماع كان بداية للتوافق وخطوة مكملة لما بدأه الأزهر في لم شمل القوى الوطنية، وهذا هو الدور الطبيعي للأزهر في حالة وجود انقسام بين التيارات في المجتمع.

* البعض اتهم الأزهر بمحاباة جماعة الإخوان بسبب عدم انسحابه من أعمال الجمعية التأسيسية؟

- نحن لا نحابي أحدا ولا نجامل تيارا على حساب الآخر داخل (التأسيسية)، وليس لنا دور سياسي نمارسه في الحياة السياسية، وجمعنا مع الجميع مشترك واحد ضمن استمرارنا في العمل داخل «التأسيسية»، هو إعلاء المصلحة العامة، كما بذلنا محاولات جادة لعودة المنسحبين من الجمعية وفي مقدمتهم الكنائس المصرية والقوى المدنية، لبحث جميع المواد محل الخلاف والجدل التي تثير تحفظات بعض الأعضاء، لنصل إلى صيغة توافقية يرضى عنها جميع الأطراف.

* بصراحة، هل وجه الأزهر الشريف للتصويت بنعم أو بلا على مسودة الدستور الجديد؟

- أؤكد مجددا أن الأزهر دوره وطني ولا يحابي تيارا على حساب آخر، فمصلحة مصر قبل أي شيء. وقد ناشد الأزهر الجميع أن يراعوا ضميرهم الديني والوطني وهم أمام صندوق الاقتراع يوم الاستفتاء على الدستور الجديد للبلاد، باعتباره واجبا وطنيا، على نحو يجعل مصر نموذجا للدول الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة؛ وطالب الجميع بأن يراعوا نزاهة الاستفتاء وشفافيته، ليعبر عن الإرادة الشعبية الحرة، وسلمية الاستفتاء، وإبعاد كافة صور العنف أو التأثير على عملية الاقتراع، وتجنب التأثير على الرأي العام الحر للمواطنين، والتقبل التام لنتيجة الاستفتاء الذي يرتضيه الشعب بإرادة حرة قوية.

* وكيف ترى المشهد السياسي الآن في مصر؟

- الاتجاه العام في مصر الآن ليس مقلقا، والجماعة الوطنية سوف تتجمع حول أهداف موحدة ومتقاربة قريبا، ولست ممن يقولون إن ما يحدث في مصر الآن نذير سوء أو انهيار، فهذا كلام لا أصل له، والأمور سوف تمضي وتصل إلى ما نطمع فيه من استقرار.

* وما الدعوة التي توجهها الآن للقضاء بشأن الانقسام الذي يشهده المجتمع؟

- أطالب الجميع بالعودة لروح ثورة «25 يناير»، وأذكرهم لما عادت الجماهير الوطنية إلى الساحة السياسية بعد طول غياب، وقبضت على مقدراتها ومصائرها بأيديها، أحست الجماهير بقدرتها على التغيير، واستعادت مواريثها التاريخية ومنها الوحدة الوطنية أثناء ثورة 1919. وشاهدنا بأنفسنا - ومعنا العالم كله - ثورة 25 يناير في «ميدان التحرير» - روح الوطنية المصرية الخالصة - تستوي فيها العمائم البيضاء للأزهريين والعمائم السود للآباء المسيحيين، والفتيات غير المحجبات مع أخواتهن المحجبات، والشباب الليبرالي واليساري مع قوى الإسلام السياسي، وظهر لنا أروع ما في الروح المصرية من نبل وصفاء.

* وما الدعوة التي تود أن توجهها للجماهير الثائرة في كل مكان على أرض مصر؟

- أطالب الجماهير الثائرة بالحرص على الانتقال سريعا إلى التنظيم المؤسسي والاستقرار السياسي، والحرص على العدل الاجتماعي، والشراكة الوطنية، وإرساء العلاقة التعددية على أوضاع مؤسسية، والبحث عن حلول جديدة لمشاكل المنطقة المزمنة.

* بصراحة شديدة، هل رفض أحد داخل «التأسيسية» أن يكون الأزهر هو المرجعية الدينية الوحيدة في مصر؟

- لم يعترض أحد على أن يكون الأزهر هو المرجعية في الأمور الدينية، فالأزهر كما هو معلوم مؤسسة إسلامية عالمية، له مكانته في العالم الإسلامي وبالأخص عالم أهل السنة والجماعة، وهو ليس مجرد مدرسة علمية، وإنه المرجعية النهائية للمسلمين في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، بصرف النظر عما أثير حول الشريعة وعلاقتها بالتشريع وغير ذلك، فمرجعية الأزهر مسألة تاريخية، وجرت عليها مصر والمجتمعات الإسلامية، ومكانة الأزهر خارج العالم الإسلامي ربما تفوق في رسوخها وقوتها ما هو موجود في مصر والعالم العربي.

* وماذا عن الأولويات التي وضعها الأزهر خلال مشاركته في الجمعية التأسيسية؟

- كانت لدينا أولويات محددة؛ وهي أولا الجانب الوطني العام، وهو أننا ممثلون للشعب كله والمواطن المصري أولا، ولكننا كنا نريد دستورا لمصر الجديدة يرضي كل أطيافها الوطنية وليس دستور عام 1923 مع جودته أو دستور عام 1971 الذي غير وعدل مرارا أكثر من مرة؛ ولكن دستورا دائما يضمن الحريات الأساسية للمواطنين بصرف النظر عن الجنس واللون والدين، وأي اعتبار آخر يعيد لمصر دورها الرائد في المنطقة، ويؤكد ثوابتها وهوياتها. أما الأمر الثاني بعيدا عن الجانب الوطني العام، فهو التأكيد على استقلال الأزهر عن الجانب التنفيذي والسلطة التنفيذية، وإن كان ركنا من أركان المجتمع والدولة المصرية، والتأكيد على أنه المرجعية النهائية في كل ما يواجه المجتمع المصري بل والعالم الإسلامي من شؤون تتعلق بالإسلام وشريعته، وأخيرا التأكيد على عروبة مصر وعلى اعتزازها باللغة العربية وترقيتها في كل متطلبات العمل العلمي والإداري والسياسي..

* هل كانت هناك تكليفات محددة من الأزهر كمؤسسة لممثليه في «التأسيسية»؟

- لم تكن هناك تكليفات محددة من شيخ الأزهر أو من أي أحد.

* وما رأيك بصراحة في الدستور الجديد؟

- دستور حضاري يتفق عليه الجميع، وسيتمنى أي مواطن في العالم أن يعيش في ظله.

* وما ردك على أوجه اعتراض المنسحبين من الجمعية التأسيسية للدستور؟

- نحن عملنا معا جميعا، سواء إخواننا الذين يطلق عليهم الليبراليين أو اليساريين، وكذلك إخواننا ممثلي الكنيسة القبطية نحو خمسة أشهر، ولم تكن هناك دواع ظاهرة للخلاف أو الشكوى، ورأينا في ما بعد من الاعتراضات أن التشكيل لم يكن متوازيا؛ ولكن كيف يمكن أن نعمل خمسة أشهر؟ ولا يتضح هذا الخلل من التشكيل إلا في الشهر الأخير، وقد كنا قبلها بشهر تقريبا قد فرغنا من كل شيء ولم يكن يتبقي إلا المراجعة والتدقيق، وأيضا مادة أو اثنتان فقط موضع خلاف ولم يتم التوافق عليها؛ لكن ما يتعلق بالأمور الأساسية، سواء في الجانب الديني لأول مرة، وهذا ما نفخر به أن حقوق إخواننا المسيحيين وأيضا أي مصري يدين بدين سماوي هي حقوق كاملة، وبعض الناس اتهمتنا بأننا نناصر الصهيونية، وهذا قول خاطئ، فالصهيونية عقيدة عنصرية، ونحن من أعدى أعدائها، وضد التطبيع مع الدولة التي تقوم على هذه العقيدة؛ ولكن هذا لا يمنعنا من أن ننظر إلى مواطنينا حتى ولو كانوا يهودا.

* لكن البعض قال إن الدستور تم «سلقه» في جلسة الجمعية الأخيرة؟

- يظن البعض أن الدستور أقر في الـ17 ساعة الأخيرة من عمل الجمعية، ولكن الجمعية التأسيسية ناقشت أبواب الدستور بابا بابا لمدة ستة أشهر، وكل باب أخذ منها نحو أسبوع أو أسبوعين، وبعضها أخذ شهرا كاملا، أما التصويت على الدستور مادة مادة فهذا الذي تم في17 ساعة، فهل ستة أشهر تسمى سلقا للدستور؟

* وما ردكم على المخاوف من المواد الخاصة بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية ومرجعية الأزهر في الدستور الجديد؟

- في الحقيقة، ليس من حق أحد الاعتراض على هذه المادة، فقد أخذنا بالنصوص التي جاءت من المجمع المقدس، ومن حقنا أن نأخذ أيضا بالنصوص الآتية من هيئة كبار العلماء، وقد قلت في اجتماع عام للجمعية عندما كلفت أن أقدم محاضرة عن المقصود بكلمة مبادئ الشريعة، وبعد ذلك عرضته على هيئة كبار العلماء التي أقرت هذا التفسير، وهو أن مبادئ الشريعة هي أدلتها الكلية (أي القرآن والسنة والقياس والإجماع)، وهي المصادر المتفق عليها في جميع المذاهب، أي المصادر التي تستقى منها الأحكام، أما إضافة كلمة (ومصادرها المعتبرة) فلا يقدم شيئا أو يؤخر، فالمصادر هي الأدلة الكلية وليس الأحكام.

* لكن البعض اعترض على كلمة (مبادئ الشريعة) في الدستور الجديد؟

- كلمة (مبادئ الشريعة)، التي رأى الأزهر بقاءها في الدستور، وتوافقت على ذلك لجنة المقومات الأساسية والكثير من القوى السياسية، تشمل المصادر الكلية للأحكام الشرعية، والقواعد الفقهية الكلية، وتحقيق مقاصد الشريعة، بالإضافة إلى القواعد الأصولية التي تحكم عمل المجتهدين، والشريعة الإسلامية نظام قانوني مستقل، وهي نظام حياة شامل، وتتميز بالعمومية والشمول، وهو ما يمثل الأصول والمصادر الكلية والقواعد العامة.

* لنعد بالذاكرة إلى الوراء قليلا، هناك الكثير ممن لا يعلمون أنك من المشاركين في ثورة يناير منذ بدايتها نائبا عن شيخ الأزهر وبإيعاز منه.. نريد أن نعرف القصة من بدايتها إلى نهايتها؟

- ذهابي إلى ميدان التحرير كان بتوصية من الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وأوصاني بألا أذهب إلى ميدان التحرير؛ إلا وأنا مرتد الزي الأزهري، وأن أقول على لسانه وباسمه ما شاء فكان التفويض عاما، وبالفعل ارتديت زي الأزهر ونزلت إلى ميدان التحرير، فلم يلقني شاب في الميدان إلا وأفسح لي المجال وأخذ في الترحيب الحار بوجودي.

* حدثنا عن ذكرياتك في الميدان التي لم تحكها من قبل ونسيتها مع الزخم السياسي؟

- في أول يوم بالميدان، قابلت مجموعة من الشباب من محافظة بني سويف (القريبة من القاهرة) بلدي وتجمعوا حولي، وطلب أحدهم أن يلتقط صورة معي وعندما وقف بجواري، قال لي إنه مسيحي، فرحبت به كثيرا وقلت هذا لا يغير من الأمر شيئا، وملت على أذنه وقلت له: «إنني كما ترى شيخ أزهري، وأبي أيضا كان شيخا أزهريا وكان عندما يضحي في عيد الأضحى، يرسلني إلى البلدة المجاورة لأعطي لحما لصديق له اسمه الخواجة روفائيل، وكنت أسأله لماذا اسمه الخواجة وهو مصري فقال لي: «الخواجة هو المعلم، وكان الحواريون يقولون للسيد المسيح ما تقول: يا معلم. وكان صديق والدي يهدي أسرتنا في الأعياد المسيحية هدايا متعددة»، ولاطفته وقلت له: «لدينا في الإسلام عيدان، ولديكم في المسيحية أعياد كثيرة فنحن الفائزون».

* لكن، هناك من حاول المزايدة على دور الأزهر في الثورة؟

- سأذكر أمرا أرد به على هؤلاء، أذكر أنني كنت في مؤتمر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فقام أحد العمداء السابقين لإحدى كليات جامعة الأزهر، محاولا المزايدة على دور الأزهر معتليا المنصة، وقال رسالة لمن يريد الحوار مع الغرب: «إن ما حدث يؤكد أننا يجب أن نحارب لا أن نحاور»، متحدثا بصورة غير لائقة عن الأزهر، فتصدى له الحاضرون وكنت من بينهم. وسأنقل لك شعوري وشعور الحضور بأنه لا مجال للمزايدة على دور الأزهر في أي مجال أو موقف، ثم جاءت وثيقة الأزهر بعد ذلك في أعقاب الثورة، لتحدد الدور الوطني وتوحد القوى السياسية والتوافق التام بين جميع المصريين نساء ورجالا مسلمين ومسيحيين، وتدعم الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة.

* هل ترى أن ابتعاد الأزهر عن الساحة أتاح الفرصة لصعود تيارات متشددة بحثت عن أدوار سياسية. ألست معي أن ذلك يسيء للإسلام؟

- غياب الأزهر هو السبب الحقيقي لظهور هؤلاء على الساحة، فقد أتاح ذلك الغياب المجال والفرصة لبروز هذه العناصر الجديدة أيا كان فكرها أو انتماؤها.

* وما الحل من وجهة نظرك؟

- أعتقد أن الحل في أن يمسك الأزهر الشريف بزمام الدعوة الإسلامية كاملة في مصر، وأن توحد أجهزة الدعوة تحت مظلة الأزهر، فلا تترك لأجهزة أخرى أو عناصر من الهواة الذين لا يحسنون فقه الإسلام ولا خطاب الدعوة الذي حدد القرآن ملامحه في قولة تعالي: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، فضلا عما يحدث من حصار للمنابر على نحو لا يليق بكرامة بيوت الله وأماكن العبادة.

* لكن بعض التيارات حاولت جاهدة أن تقصي الآخرين لتنفرد بالقرار على الساحة السياسية بمفردها؟

- لا يمكن إقصاء أحد أو تهميشه أو إغفال وجود أحد؛ بل المشاركة الوطنية هي الحل، وطبقها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، غداة وصوله إلى المدينة، فعقد بين أهلها من المسلمين واليهود «وثيقة المدينة» التي أكدت الشراكة الوطنية في الحقوق والواجبات، وبهديه الشخصي في علاقته مع جيرانه من اليهود، وتعامله مع نصارى نجران والحبشة ومصر والشام، فالتجربة التاريخية لمصر - في عهدها العربي - جاءت نموذجا بعلاقة المسلمين والمسيحيين المتضامنين في حياة واحدة، يمارسون ثقافة واحدة تقريبا، ويشاركون جميعا في تجربة تاريخية واحدة ممتدة، واجهوا فيها معا - متضامنين - الغزوة الصليبية الجائرة، والهجمة المغولية الجائرة، والاحتلال الأجنبي البغيض بصورتيه الفرنسية والإنجليزية، وضربوا بذلك مثلا للعالم قليل النظير، لا يعكر عليه ما قد يحدث من مشكلات تجلبها أزمات اجتماعية واحتكاكات عادية أحيانا، ومشكلات تفتعلها السلطات المنحرفة وتستغلها أحيانا، ومشكلات يضخمها الإهمال وسوء التدبير أحيانا، كما كان الأمر في نهاية عهد مبارك، ورأينا العدوان على كنيسة القديسين بالإسكندرية، وقد أسهمت فيهما العوامل المشار إليها، من افتعال واستغلال وإهمال.

* بعيدا عن السياسة، ماذا عن أهم أنشطة مجمع اللغة العربية لكونك أول أزهري يرأسه؟

- أهم نشاطات المجمع، تتلخص في إصدار المعاجم العربية، ومن أبرزها المعجم الوسيط الذي صار مرجعا للدارسين والمثقفين من جميع البلاد العربية والإسلامية، وطبع أكثر من مائتي مرة منذ صدوره ويجري الآن تحديثه، وإصدار المعاجم اللغوية المتخصصة، وقد صدرت معاجم في الطب والهندسة والاقتصاد، وإصدار الدراسات وعقد المؤتمرات والندوات في قضايا اللغة العربية سواء كانت تراثية أو قضايا معاصرة أو مستقبلية، ويدرس المجمع مشكلات التعليم والإعلام، ويحاول ربط اللغة العربية بحركة العلم العالمية، وترجم المجمع نحو مائتين وخمسين ألف مصطلح علمي، ويعمل المجمع الآن على تجلية القضايا اللغوية والثقافية المتعلقة بالعربية وماضيها وحاضرها بالنسبة للمثقفين العرب، وذلك عن طريق ربط المجمع بالحياة الثقافية في مصر والعالم العربي.

* في اعتقادك.. هل تتعرض اللغة العربية لغزو فكري الآن؟

- اللغات الآن كلها تتعرض للأخطار نتيجة فكرة العولمة التي لم تؤد إلى ما يطمع فيه الناس وهو أن يصبح العالم كله قرية واحدة، وأن تزول الفوارق، وأن تزدهر كل اللغات والثقافات والحضارات وتتبادل التأثر والتأثير في حرية وندية ومساواة؛ لكن الذي يجري في حركة العولمة السياسية هو سيطرة لغة واحدة، وثقافة واحدة هي اللغة الإنجليزية والثقافة الأنجلو - سكسونية الأميركية، وهذا يهدد بعض اللغات في العالم بالاختفاء الكامل كما يقول الخبراء؛ ولكن اللغة العربية لا يلحقها هذا التهديد، اللغة العربية هي خامس لغة من حيث الترتيب في العالم من حيث التصنيف الكلي، ومن حيث الناطقون بها والذين يفهمونها فهي ثالث لغة في العالم، وهي ليست مهددة بالاختفاء، ولا صحة لما يقوله البعض من هذا القبيل؛ لكنها نعم مهددة بالتأثر السلبي نتيجة غلبة ثقافة واحدة ولغة واحدة تنال كل الإمكانات للإشاعة العالمية وبالتأكيد تحدث تأثيرا سلبيا في اللغة، ونحن نقاوم ذلك كما تقاومه بعض اللغات الأوروبية كاللغة الفرنسية وغيرها، وننتبه له ونعتقد أن اللغة العربية لا تشكو من الجمود كما يقول البعض، لو قارنا اللغة العربية الآن بما كان ينطقه أجدادنا في بداية القرن الماضي، فسنجد أنها ازدادت مرونة واتساعا وقدرة على التعبير عن مصالح الحياة، وهو الجانب النفعي من اللغة، والتعبير عن المشاعر والعواطف وهو الجانب الأدبي والفني والحضاري من اللغة، لا مقارنة، لقد ازدادت جمالا ومرونة وحيوية، لكن الخطر الحقيقي هو ضعف اللغة وتحريفها على ألسنة الناشئة العرب الذين لا يحسنون النطق بها هذا هو الخطر الحقيقي.

* في تصورك.. كيف ننشئ جيلا يعتز بلغته وبهويته؟

- هذا يحتاج إلى ثورة ثقافية، لأنه في الحقبة الماضية كان هناك كثير من المتعلمين، لا نقول من المثقفين، يعتزون بالتعبير عن أنفسهم بلغات أخرى أو بمزيج من اللغة العربية واللغات الأخرى ولا يستحون من ذلك، وكان السياسيون والزعماء ينطقون العربية بطريقة مهينة وسيئة بما يدل على عدم الاعتزاز بلغتهم القومية.

* ألا يقلقك ما يحدث في سوريا الآن من مواجهة الحاكم لشعبه بقوة السلاح؟

- أولا، لا يجوز للحاكم المسلم أن يقتل شعبه، ومن مات دون حقه فهو شهيد، وثانيا إذا فعل الحكام ذلك فإن هؤلاء فقدوا شرعيتهم.

* بصراحة.. كيف يرى الغرب وضع المسلمين في الشرق؟

- المتابعون لأوضاع الشرق الأوسط في وضعه الجديد، وأطواره المتصلة المفتوحة لا تزال، بعد موجة الربيع العربي، يتوقعون - عن جدارة - عهدا جديدا من الحرية والنهضة الاجتماعية، والطفرة الاقتصادية، والاستقرار السياسي؛ بل والتمهيد لحل المشكلة المحورية في الشرق الأوسط وهي مشكلة فلسطين بما لها من أبعاد سياسية واقتصادية ودينية أيضا، وأحسب أن عودة شعوب المنطقة إلى الساحة سيمهد لحلول غير تقليدية لهذا الصراع التاريخي العتيد.

* الشافعي في سطور

* من مواليد عام 1930 في محافظة بني سويف (القريبة من القاهرة)، والتحق بكليتي أصول الدين بجامعة الأزهر، ودار العلوم بجامعة القاهرة عام 1953. وتخصص في دراسة الفلسفة الإسلامية، وتخرج فيهما عام 1963، وحصل على الماجستير من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1969، والدكتوراه من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1977. وتولى الشافعي عضوية المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية، ثم رئيس الجامعة الإسلامية في إسلام آباد.

ومالا يعرفه الكثيرون أنه لولا الشافعي ما بقيت الجامعة الإسلامية قائمة حتى الآن، فقد حدثت لها أزمة مالية كبيرة كادت توقفها عن العمل، فأصر على البقاء فيها والإنفاق عليها من ماله الخاص طوال أكثر من ثلاث سنوات، إيمانا منه بأن جامعة إسلامية بهذا الحجم يجب ألا تتوقف رسالتها، فكان له ما أراد، ثم عاد الشافعي إلى مصر ليستكمل رسالته.

واعتقل النظام المصري الشافعي عام 1954 وهو في الفرقة الثانية بكلية دار العلوم ليقضي في السجن ست سنوات.