حكايات طوابير الأفران في دمشق.. بين المؤلم والمثير للسخرية

السوريون ينتزعون رغيف الخبز تحت الرصاص.. وبعضهم يتفنن للحصول عليه

يكابد سكان دمشق من أجل الحصول على رغيف الخبز (أ.ف.ب)
TT

على بعد نحو مائة متر من أحد الأفران في حي برزة في العاصمة السورية دمشق، حيث تصطف طوابير لنساء ورجال وأطفال بالعشرات في انتظار الحصول على رغيف خبز، اشتعل اشتباك بالرصاص لدى إطلاق مقاتلين من الجيش الحر النار على حاجز للقوات النظامية. ولأن الوقوف على الدور في طابور الخبز بات عزيزا أكثر من الحصول على رغيف الخبز نفسه، لم يتحرك الطابور أثناء إطلاق النار، الكل تجمد في أرضه لمدة نصف ساعة، وبعضهم كان يقول «الخبز مقابل الروح.. صار لنا أيام من دون خبز.. وأيام ننتظر على الدور ولا نحصل على رغيف».

أزمة الخبز التي بدأت في مدينة حلب وصلت إلى دمشق وراحت تهدد بكارثة، ومؤخرا بلغت الأزمة حدا خطيرا، مع الشح الشديد في مادتي المازوت (الوقود) والطحين، اللازمتين لتشغيل الأفران التي راحت تعمل بنصف طاقتها، في حين ارتفع عدد المستهلكين في دمشق أضعافا مضاعفة نتيجة النزوح من المناطق المنكوبة.

«ندى م»، التي تسكن في شارع الحمرا في الصالحية قريبا من سوق الشعلان المعروفة باسم سوق التنابل لتوافر كل السلع فيها بأسعار مضاعفة عن السوق العادية، ونادرا ما افتُقد فيها شيء، تقول «لأول من منذ سنوات أرى طوابير الناس تقف أمام فرن الشعلان للحصول على الخبز»، مع أن هذا الفرن مخصص للخبز السكري، وزبائنه من الشرائح الميسورة، نظرا لارتفاع سعر الخبز لديه، كما أن الكمية التي يصنعها محدودة. وتقول ندى «صاحب الفرن قال للناس المنتظرين بالدور وكانوا يسدون الشارع: نفقنا.. لم يبق خبز»، وذلك بعد أن ضاعف الكمية التي ينتجها.

وارتفعت أسعار الخبز في دمشق بشكل جنوني خلال الأسبوع الأخير، ومعظم الأفران الخاصة كتبت سعر الربطة على أبواب الأفران وقد زاد نحو ثلاثة أضعاف، لا سيما الأفران التي عادة تصنع «خبزا سياحيا» أي مدعوما بالسكر والحليب ويكون أغلى من الخبز العادي بنحو ضعفين.

ووصل سعر كيلو الخبز السياحي من الحجم الصغير إلى 80 ليرة، بعد أن كان 35 ليرة (الدولار يعادل 88 ليرة). ولا توجد أسعار ثابتة للخبز، حيث تتفاوت بين منطقة وأخرى، فأفران الحكومة ما زالت تبيع الخبز بـ15 ليرة، لكن الدور على أبوابها للحصول على خبز قد يستغرق يوما كاملا أو يومين، كما أنه تم تحديد الكمية للفرد، وهو ما جعل البعض يصطحب معه العائلة للوقوف على الدور لأخذ أكثر من حصة.

وبعض الأفران الخاصة تبيع 6 أرغفة بخمسين ليرة، بينما تباع الأرغفة الستة على بسطة أمام الفرن بـ200 ليرة، و14 رغيفا بـ400 ليرة. أما خبز الصاج فيتراوح سعره بين 100 و140 ليرة، وهو لا يلبي الحاجة.

ونقلت وسائل الإعلام الرسمية معلومات عن «توجه محافظة دمشق إلى اعتماد إجراءات جديدة لتوفير مادة الخبز في الأماكن التي لا توجد فيها أفران سواء كانت عامة أو خاصة»، وأحد تلك الإجراءات «يتضمن وضع سيارات وأكشاك خاصة لبيع الخبز في الأماكن التي لا توجد فيها أفران عامة أو خاصة»، وذلك بناء على «توجيه من رئيس مجلس الوزراء الدكتور وائل الحلقي لتأمين المادة والتأكيد من وصولها إلى كل مستحقيها وبالأسعار الرسمية». وأكدت مصادر في المحافظة بحسب وسائل الإعلام الرسمية «عدم وجود أزمة خبز»، وما يحصل أنه «نتيجة إشاعات بثها البعض بأن أزمة في نقص المادة قد تشهدها المدن السورية» زاد الاستهلاك والتخزين خوفا من الأزمة، في حين «لجأ البعض إلى استغلال تلك الإشاعات بمنحى آخر وهو بيع المادة بأسعار خيالية ووصل سعر (الربطة) إلى مائة ليرة سورية، ما أدى إلى نشوء أسواق سوداء لم تكن موجودة من قبل». وقالت المصادر إن هناك آلية جديدة ستعتمد لمراقبة الأفران العامة والخاصة، عبر لجان شعبية تراقب الأفران بعد تقسيمها إلى عشرة قطاعات.

وردا على ذلك يقول الناشط أحمد الدمشقي «اعتدنا على الكلام الرسمي الذي ينفي الأزمة دائما، ويروج لحلول بات معروفا سلفا أنها تهدف لتخفيف الأزمة عن مناطق الموالين للنظام، وجرى هذا سابقا في حمص وكل المناطق المنكوبة. فالمناطق الموالية في نظر النظام هي المقصودة بكلمة توصيل الدعم لمستحقيه، فمن يستحق الحصول على الخبز والغاز والمازوت هم الموالون للنظام فقط. أما اللجان الشعبية فتتألف من الشبيحة الذين يتجاوزون الدور على الأفران ويحصلون على كميات لا محدودة من الخبز وبقوة السلاح».

وعن أزمة الخبز وما قيل عن استغلالها، يقول أحمد «نتيجة للأزمة الاقتصادية ووقوف الناس على الدور نشأت مهنة جديدة للتكسب للعاطلين عن العمل، وهي الوقوف على الدور والحصول على الخبز ومن ثم بيعه قريبا من باب الفرن بأسعار مضاعفة، كما عاد تهريب المواد الغذائية وبالأخص الخبز من الدول المجاورة لينشط بشكل كبير».

ولفت أحمد إلى أنه خلال اليومين الماضيين تفاقمت الأزمة المعيشية في دمشق على نحو غير مسبوق، حيث تفتقد المواد الأساسية من طحين وسكر ومعكرونة، بالإضافة لشح المازوت والكهرباء، وقال إن «أفرانا كبيرة كفرني شمسين وتفاحة الشهيرين في سوريا ولبنان مهددان بالإغلاق نتيجة شح المازوت، كما أن العشرات من الأفران الصغيرة المنتشرة بالأحياء توقفت عن صناعة الخبز».

ومع أن دعوات كثيرة وجهت للأهالي للعودة إلى الاعتماد على صناعة الخبز بالمنازل، فإن شح مادة الطحين حال دون ذلك. وتقول «ندى م»: «سألت صاحب السوبر ماركت المعروف بتوافر معظم المواد لديه عن سعر كيلو الطحين، فأجابني مستغربا: أي طحين؟ ما في ريحته بالسوق من أسبوع».

كمال (22 عاما) يقول إنه تفرغ لتأمين الخبز لعائلته، 5 أفراد، ورأى أن أفضل طريقة هي السهر حتى صلاة الفجر الخامسة صباحا، حيث يذهب إلى الجامع الصغير في الحي يؤدي صلاة الصبح مع شيوخ الحي من المسنين ويذهب معهم للوقوف على باب الفرن المجاور للجامع لحجز دور قبل بدء الفرن عمله، وخلال ساعتين أو ثلاث بإمكانه الحصول على الخبز، بعدها يذهب إلى النوم.

ويقول كمال «هذه أفضل طريقة للحصول على الخبز بأقل عناء ممكن، فالطوابير فجرا تكاد تقتصر على المسنين فتخلو من النساء والأطفال والشباب، فيخف التدافع بنسبة 70 في المائة، كما أن الأحاديث التي تدور على باب الفرن بين الرجال فيها مودة وكأنك جالس في مقهى، أما حين يكون هناك نساء وأطفال فتحصل فوضى ومشاجرات تصل إلى استعمال الأيدي».

«خديجة ن»، تسكن في حي ركن الدين، وكانت تعتمد على ابنها (18 عاما) للحصول على خبز، قالت إنه في الأسبوع الأخير صار يمضي عشر ساعات واقفا بالدور ومن ثم يعود خالي اليدين لأن «طبعه خجول ولا يجيد المطاحشة»، فقررت هي أن تتصدى لهذه المهمة الشاقة وراحت تخصص ساعات من يومها للوقوف أمام الفرن في طوابير النساء. وتقول «أرتدي حذاء مريحا وملابس رياضية لا تتمزق، وأدخل في العجقة وأنا مهيأة نفسيا للشجار. المرة الأخيرة نزع الحجاب عن رأسي بسبب التدافع فلم أعد قادرة على شد الحجاب، وفي الوقت نفسه الإمساك بالخبز والخروج به سالما من وسط الزحام». وتؤكد أن «النساء أكثر فوضى وصخبا وشراسة من الرجال أمام الأفران، فتراهن يتدافعن ولا يتوقفن عن الثرثرة والشكوى، كما يظهرن استبسالا لعدم الرجوع من دون خبز». وتحكي عن امرأة «تحاول دائما تجاوز الدور مستخدمة الصراخ والبكاء والشكوى بأنها تعول أيتاما، وتبين لاحقا أنها تحصل على الخبز أكثر من مرة باليوم وتبيعه لأولاد يمتهنون بيع الخبز أمام الفرن، وبعدما انكشف أمر هذه المرأة صارت كلما أطلت لتأخذ دورا قوبلت بنهر واستنكار من الجميع، وكلما ارتفعت الأصوات ضدها زادت إصرارا على تجاوز الدور والوصول إلى الشباك، ولكم أن تتخيلوا الفوضى التي تحدثها».