الدستور العراقي.. «عون» التوافقات و«فرعون» الأزمات

العراق في عشر سنوات

TT

طبقا لما كشفه سياسي عراقي رفيع المستوى لـ«الشرق الأوسط»، وكان هذا السياسي من بين أبرز من أسهموا في صياغة الدستور العراقي النافذ (جرى التصويت عليه بالأغلبية عام 2005)، وممن قابلوا في مدينة النجف المرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني في الأيام الأولى من عزمهم المباشرة بكتابة الدستور، فإن السيستاني قال لهم «لا داعي للاستعجال في كتابة الدستور». كانت تلك الأيام - والكلام للسياسي العراقي البارز «مشحونة بالمزيد من الآراء والخلافات لا سيما مع وجود المقاطعة السنية آنذاك». واستنادا لتلك المقاطعة من قبل «العرب السنة» فإنه لم يكن في الساحة وقتها سوى الشيعة والأكراد. ومع ذلك فإن المرجع السيستاني أصر في حال عدم تأجيل كتابة الدستور على «إشراك العرب السنة في كتابته».

وبالفعل فقد تمت إضافة عدد من رجال الطبقة السياسية من العرب السنة كأعضاء أصليين في لجنة كتابة الدستور وعدد آخر تمت إضافتهم كمستشارين للجنة. وأقر الدستور بسرعة، وجرى التصويت عليه بأسرع مما هو متوقع، وحصل على 80 في المائة من أصوات العراقيين. ومع أنه كاد يسقط بالاقتراع بعد أن رفضت كل من الأنبار وصلاح الدين ونينوى أول الأمر الاقتراع عليه، وهو ما يعني عدم حصوله على ثقة سكان ثلاث محافظات، فإن جهودا بذلت لإقناع الحزب الإسلامي بزعامة طارق الهاشمي آنذاك وما يمثله من ثقل في الموصل وقتها، مما كان عاملا أساسيا في تمرير الدستور طبقا لمبدأ «التوافقات». وهذا المبدأ الذي هو تحوير معدل لمفهوم «المحاصصة» أنقذ الطبقة السياسية العراقية التي تولت الحكم بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 من مشكلة كبيرة في حال سقط الدستور بالاستفتاء. فالآمال كانت معقودة آنذاك على كتابة دستور دائم للبلاد يخلصها من سلسلة من الدساتير المؤقتة منذ عام 1958 وحتى عام 2003.

وبالفعل تم لها ما أرادت من الناحية الشكلية في الأقل، حيث كتب الدستور بناء على مبدأ «التوافقات»، قبل أن يتحول في ما بعد إلى «فرعون» لأخطر الأزمات في البلاد وفي المقدمة منها الأزمة الأخيرة، أزمة طوزخورماتو، وهي إحدى «المناطق المتنازع» عليها والتي تقع في واحدة من المحافظات ذات الأغلبية السنية «محافظة صلاح الدين» والتي كانت من المحافظات التي رفضت التصويت على الدستور وفيه المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وفي المقدمة منها كركوك. وقد حدد لتنفيذ هذه المادة سقف زمني لا يتعدى سنة 2007. سقف زمني آخر كان من حصة المادة 142 والخاصة بالتعديلات الدستورية، فبسبب الخلافات حول الدستور فقد جرى تشكيل لجنة أطلق عليها «لجنة التعديلات الدستورية»، وقد حدد لها سقف زمني أمده أربعة أشهر لتنفيذ عملها. لكن مشت رياح السلطة بما لم تشته سفن المعارضة. فلا المادة 140 تم تنفيذها وفقا لسقفها الزمني وهو عام 2007، ولا المادة 142 جرى تنفيذها في غضون أربعة أشهر.

المناطق المتنازع عليها وفق الدستور العراقي واستنادا إلى المادة 140 جرى تحويرها سياسيا وإعلاميا من خلال خطابين سياسيين لكل من الحكومة الاتحادية التي باتت تسميها «المناطق المختلطة»، أو «المناطق الكردستانية خارج إدارة الإقليم» طبقا لخطاب حكومة إقليم كردستان. وهو ما يعني أن المادة 140 الدستورية ماتت سريريا وفقا لتسميتين سياسيتين إحداهما أطلقها نوري المالكي والأخرى مسعود بارزاني.

عضو لجنة كتابة الدستور وعضو البرلمان العراقي يونادم كنا أبلغ «الشرق الأوسط» بأن «لجنة كتابة الدستور كانت قد انتهت من الصياغات القانونية لكل مواد الدستور خشية أن تخضع للتأويل، لكنها لم تتمكن من حسم الخلافات السياسية».

وأضاف أن «الطبقة السياسية فشلت في إعادة الحياة للجنة التعديلات الدستورية على الرغم من أنها مادة بالدستور، وهو ما يعكس خللا في الأداء السياسي». وأوضح «لكن هناك مساعي لإعادة تفعيل تلك اللجنة لأن أمامنا لا يزال عمل كثير وكبير، لأن العديد من المواد الدستورية إما تحتاج إلى تعديل أو تنظيم بقانون». الدستور العراقي الذي كان مؤملا أن يحسم كل أشكال وأنواع الخلافات ويذيب مفهوم التنوع في المجتمع العراقي المتعدد عرقيا ومذهبيا تحول إلى أزمة بحد ذاته. فالعراقيون بعد عشر سنوات من التغيير ونحو 8 سنوات من إقرار هذا الدستور يضعون أيديهم على قلوبهم من إمكانية نشوب حرب عرقية هذه المرة بين العرب والأكراد في المناطق المتنازع عليها، وهي في الغالب يقطنها العرب السنة.

النائب في البرلمان العراقي عن القائمة العراقية شعلان الكريم (أحد نواب محافظة صلاح الدين)، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «العرب السنة لن يكونوا سببا في إشعال نار الفتنة الطائفية أو القومية، ولن نسمح بأن تنطلق النار من مناطقنا». وأضاف أن «موقفنا واضح منذ البداية، وهو موقف مؤيد للحلول السياسية وللمبادرات الهادفة إلى إيجاد حل للأزمة السياسية على الرغم من أننا لسنا طرفا فيها». ومع أن الأزمة الحالية التي تتواجه فيها القوات الحكومية مع قوات البيشمركة الكردية في المناطق المتنازع عليها تكاد تكون الأخطر فإن هناك مشاكل أخرى في الدستور العراقي يصعب التوصل إلى حلول لها وأبرزها التناقض الحاد بين ما هو إسلامي وما هو ديمقراطي. فكل مادة في الدستور تشير صراحة إلى عدم تشريع قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام تقابلها مادة تقول بعدم تشريع قانون يتعارض مع ثوابت الديمقراطية، الأولى لإرضاء الإسلاميين والثانية لإرضاء العلمانيين، وفي كلتا الحالتين فإن الطرفين قبلا بوضع قنبلة موقوتة تحت وسادة نومهما قابلة للانفجار في كل لحظة.