ألمانيا المزدهرة تستفيد من عمالة جيرانها المتعثرين

تدفق المؤهلين من إسبانيا والبرتغال واليونان يلاقى بالترحاب والتوجس من برلين

(من اليمين) فولفغانغ، وبولا برنيدو، ورافاييل مونتويا في توتلينغين بألمانيا
TT

بعد أكثر من ثلاث سنوات من وقوع أوروبا رهينة أزمة اقتصادية تهدد وحدتها، لا تزال إحدى دول القارة تشهد فورة في التوظيف، وتستقطب أفضل وألمع العمالة من دول الجوار.

توافد الآلاف من العمالة المدربة من إسبانيا واليونان اللتين أصابهما الكساد، إلى ألمانيا التي لا تزال تشهد مستويات منخفضة من البطالة، ويشير البعض إلى أنهم قد لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية على الإطلاق. وتعد الهجرة الاختبار الأصعب الذي يواجه وعد الاتحاد الأوروبي بإلغاء الحواجز بين الدول، مع هجرة العمالة المدربة بلدانها الأصلية بأعداد كبيرة منذ تشكيل الاتحاد. ويصطدم هذا الحق الجديد في العمل في أي مكان الآن بالعنصرية القديمة بشأن تجاوز الحدود الوطنية، إذ هناك توترات جديدة في الشراكة مع بعض الألمان الذين يشعرون بالقلق إزاء عملية تدفق العمالة الأجنبية وقلق صناع السياسة الإسبان واليونانيين من تبخر آمالهم في التعافي.

ويأتي التوافد إلى ألمانيا كأحدث التطورات في عملية شهدت زيادة ثراء الدول الغنية في الوقت الذي تم فيه تفريغ الدول الأكثر فقرا من كفاءاتها. وعلى الرغم من نضال إسبانيا والبرتغال لفتح آفاق جديدة في الداخل، تسارع الشركات والأفراد الأكثر قدرة على المساعدة في ذلك للانتقال إلى البحث عن فرص أكثر استقرارا في أماكن أخرى. كان إنشاء الاتحاد الأوروبي قد وفر للعمال في دوله الأعضاء حرية الانتقال، وأصبح بمقدور دول أوروبا الغربية الإقامة والعمل في أي مكان في دول الاتحاد الـ27 دون تصاريح أو تأشيرات خاصة. ونفس الحقوق تم منحها سريعا على مراحل لمواطني الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية.

وتشير باولا برنيدو، 37 عاما، وهي مهندسة من جزر الكناري، التابعة لإسبانيا، إلى أن الجليد المتراكم في مدينة بلاك فورست في مقاطعة توتلينغين هو آخر مخاوفها بشأن التأقلم مع المكان. وهي واحدة من بين 100 مهندس غادروا إسبانيا باتجاه معقل الصناعة الألمانية في زيارة خلال الصيف. استقر ثلاثون منهم، وبعد فقد وظائفهم في إسبانيا سعت برنيدو للبحث عن فرصة عمل في ألمانيا حيث أقامت لفترة قصيرة عندما كانت طالبة قبل أعوام.

وقالت: «في إسبانيا يتقدم ما بين 800 و900 شخص للحصول على نفس الوظيفة»، في المقابل تقول الشركات الألمانية إنها لا تجد العمالة المؤهلة بما يكفي في الداخل، ففي ولاية بادن فورتمبرغ الجنوبية الغنية حيث تقع الشركة التي تعمل بها برنيدو، يقول المسؤولون المحليون إن الشركات في المقاطعة قادرة على استيعاب 30.000 مهندس إضافي.

بلغ معدل البطالة في ألمانيا خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 5.4 في المائة، في الوقت الذي وصل فيه معدل البطالة في إسبانيا إلى 26.2 في المائة - وهناك زيادة كبيرة في الإقبال على تعلم اللغة الألمانية في معهد «غوته». كما ارتفعت أعداد المهاجرين إلى ألمانيا بنحو 17 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها عن العام الماضي. وارتفعت الهجرة من اليونان بأكثر من ثلاثة أرباع، وارتفعت الهجرة من إسبانيا والبرتغال بمقدار النصف.

ويسعى هؤلاء العمال إلى العيش في عالم الوظائف الثابتة وعلاقات العمل الرسمية حيث ينادي الزملاء بعضهم بعضا «سيد» و«سيدة» على الدوام بدلا من استخدام الأسماء الأولى. وتقول برنيدو التي تعمل في شركة بيندر، شركة تصنيع أدوات المعامل منذ سبتمبر (أيلول): «الطريقة التي يتحدث بها الأفراد عن الخطط مختلفة تماما. هنا ينبغي أن تحدد موعدا للآخرين. في إسبانيا على سبيل المثال نقول: لنجتمع معا ونفعله، لكن الأمر بالغ الجدية هنا».

كان مكسب ألمانيا خسارة لإسبانيا، إذ تعتقد برنيدو أنها لا تنوي العودة إلى بلادها، على الأقل في الوقت الراهن. وفي غضون أسابيع قليلة سينتقل زوجها وابنتها البالغة من العمر خمس سنوات إلى ألمانيا. وقد أسهمت السفارة الإسبانية في برامج العثور على عمل لمواطنيها في ألمانيا، فكل هجرة تخفف الضغوط التي يعاني منها نظام التأمين المضطرب. لكن البعض ممن فضلوا الاستمرار في دول أوروبا المضطربة عبروا عن حنقهم تجاه ألمانيا قائلين إنها تفرض التقشف على دول الجوار وتحصد الفوائد لنفسها. وتضيف برنيدو: «إن بلدي غاضب حقا من رحيل العمال.. فهم يقولون: لقد تحملت الدولة فاتورة تعليمهم والآن ينتجون لألمانيا».

في المقابل، ينظر الاقتصاديون الألمان إلى عدد السكان الذي يعاني من التراجع وتقدم السن، ويقولون إن اجتذاب المهاجرين هو السبيل الوحيد الذي سيمكنهم من دفع فواتيرهم في السنوات القادمة. لكن على الرغم من عدم الارتياح الكامل الذي تشعر به إسبانيا تجاه التخلي عن عمالتها المدربة، لا تبدي ألمانيا راحة في استيعابهم. وسوف يتطلب ذلك تغييرا كبيرا في مواقف دولة لا تتمتع بقدر وافر من التعددية الثقافية أو الانفتاح على المغتربين.

ويقول هاينز رودي لينك، رئيس مجموعة التنمية الإقليمية التي نظمت الرحلة الأولى للمهندسين الألمان في بلاك فورست: «هذا الأمر يمثل بالنسبة لنا أهمية وجودية.. فخلال خمس إلى عشر سنوات سيكون هناك نقص في السكان بنحو 500.000 شخص، لأنه لا يوجد أحد».

ويقول مالك شركة «ماورير» للتبريد والتدفئة في مدينة فيلينغين شوينغين إنه يحاول تثبيت العمالة المدربة ما إن يجدهم. ويقول كليمنس ماورير: «نعلن عن الوظائف في الصحف، ولا نتلقى أي طلب للتوظيف. إذا جاء الناس إلى الشركة وأظهروا لنا أنهم مؤهلون للعمل نصحبهم مباشرة إلى الإدارة ونوقع معهم العقد». وستضطر شركته إلى تقليص الوظائف لأنه لا يستطيع العثور على عمالة كافية، ويصف ذلك بأنه «عنق الزجاجة للنمو». وقد استعانت الشركة بمهندس من ألمانيا وتبدي رغبة في العثور على عمال آخرين.

لكن الكثير من المواطنين الألمان ينظرون إلى جيرانهم الجدد بنوع من الترقب.. فقد عرضت قناة تلفزيونية محلية مؤخرا برنامجا عن بعض المهندسين الإسبان تحت عنوان «الدكتور الضيف»، في إشارة إلى برنامج الستينات الذي جلب العمال الأتراك إلى ألمانيا دون منح الجنسية لهم أو لأبنائهم. ولم يعد العمال الأتراك إلى بلدهم، لكن الكثير من الألمان لا يرحبون بهم على الإطلاق وهو ما ساهم في تكوين طبقة تتمتع بحقوق أقل وعزز الاستياء الذي لا يزال مستمرا حتى الآن. وقال هارتموت ريتشل، مدير قسم الاقتصاد الخارجي في وزارة المالية في بادن فورتمبرغ: «السلوك الودي يعتمد على العدد، لكن بمرور الوقت سيفوز العمال الأجانب بقلوب الألمان». وأضاف أن «الألمان يقدرون الأشخاص الذين يعملون. وعندما يعملون فسيلقون الحب».

في هذه الأثناء يبحث الوافدون الجدد عن استراتيجيات للتأقلم مع المكان من خلال إرسال بريد إلكتروني لمزيد من الوضوح إذا كانوا لا يفهمون اللكنة الإقليمية الصعبة التي يتحدث بها بعض المواطنين الألمان، واللجوء إلى مزيد من اللباقة في مكان الإنتاج حيث لا يتقبل العمال الألمان في بعض الأحيان بسهولة أن يقوم الأجانب بتوجيههم إلى القيام بما ينبغي عليهم فعله.

ويقول رافاييل مونتويا، مهندس آخر في بيندر، الذي انتقل من مدينة فالنسيا التي تطل على البحر الأبيض المتوسط في منتصف أغسطس (آب): «حاولت أن أتقرب إلى بعض الأفراد بدعوتهم إلى الخروج وتناول الشراب معي، لمجرد الحديث»، لكنهم جميعا رفضوا العرض.

* شاركت بترا كريسهوك في إعداد هذا التقرير.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»