الإسلاميون يحاولون السيطرة على الأزهر من خلال الدستور الجديد

مخاوف من تخليه عن دوره كمنارة للاحترام والاعتدال والمنهج الدعوي الوسطي

TT

تحولت الثورة التي انطلقت هنا قبل عامين بمطالب العدالة والحرية إلى حالة من الفوضى والشغب على يد القوى الإسلامية التي سجلت نصرا بعد نصر في عمليات التصويت المتعاقبة، ولكن داخل مصر وعلى امتداد المنطقة فإن المصدر الحقيقي للمخاوف من أن تكون البلاد قد بدأت تميل نحو الثيوقراطية وحكم رجال الدين يكمن في مكان لا يخطر على بال: إنه الممرات الحجرية القديمة للأزهر، تلك المؤسسة القاهرية التي ظلت منذ زمن بعيد معروفة بأنها منارة تحظى بالاحترام من منارات الاعتدال والوسطية، إلا أن هذه السمعة قد باتت مهددة، في ظل قيام العناصر الأكثر تشددا بين ألوان الطيف الإسلامي في مصر بتحركات من وراء الكواليس للهيمنة والسيطرة عليه، وهي معركة اكتسبت إلحاحا جديدا (أمس)، بعدما بات متوقعا أن يوافق الناخبون على مسودة دستور تمنح الأزهر سلطات كبيرة في الحكم على مدى صلاحية قوانين البلاد من منظور الدين.

ويقول قيادات الأزهر إنهم لم يكونوا راغبين في هذا الدور، إلا أنهم يتعرضون لضغوط من أجل قبوله من قبل أتباع المذهب السلفي، الذي تنامى نفوذه في عهد الديمقراطية الجديد الذي تعيشه مصر. ويقول عبد الدايم نصير، وهو أحد مستشاري شيخ الأزهر وعضو بالجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور الجديد «إن السلفيين يريدون أن يجعلوا الأزهر جزءا من النظام السياسي، وهو ما نقف ضده. نحن لا نريد أن نضع القانون في إطار عقيدة دينية تقول (هذا صواب) و(هذا خطأ)»، وهو بالضبط ما سيؤول إليه دور المسجد والجامعة ذات الألف عام قريبا في ظل الدستور الجديد. ويضيف نصير أنه يرى أن السلفيين يصرون على هذا البند لأنهم «يظنون أنهم سيسيطرون على الأزهر».

وهذا القتال الدائر حول طبيعة الأزهر ودوره له انعكاسات عميقة على مصر، إلا أنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حيث إن ثورات الربيع العربي والاضطرابات التي أعقبتها تثير من بين ما تثيره السؤال المتعلق بالموضع الملائم للإسلام في المجتمع ومن الذي يتولى تفسير الإسلام. وقد ظل الأزهر عبر القرون يلعب دورا يحظى بالتقدير في ذلك الجدل، كما يعتبره الكثيرون أهم مراكز الفكر السني، حيث يتولى سنويا تعليم ملايين الطلاب الذين يفد الكثيرون منهم إلى هنا من جميع أنحاء العالم. وفي فترة تشهد صعود أشكال أكثر تزمتا وتعصبا من أشكال الإسلام، ظل الأزهر يقدم الترياق من ذلك الداء، حيث دعا إلى التعددية واحترام ثقافات غير المسلمين، وكذلك احترام حقوق المرأة والأقليات. ويشعر الكثير من العلمانيين والمسيحيين في مصر بالقلق من أن يؤدي تحول الأزهر نحو الآيديولوجية المتزمتة إلى اعتناق تفسير أكثر تشددا للشريعة الإسلامية، التي تشكل سواء في ظل الدستور القديم أو الجديد أساس التشريع في مصر، مما قد يعني بدوره تقليص الحريات التي يتمتع بها الفنانون والأكاديميون المصريون، وتقييد حقوق المرأة في بيتها وفي العمل، وانتشار رفع قضايا التكفير ضد كل ما يعتقد أنه تعد على الإسلام.

ويرقب الزعماء العرب المعتدلون من جميع أرجاء الشرق الأوسط في قلق ذلك الصراع الدائر على اتجاه الأزهر، وحتى المسؤولون الحكوميون الذين تعاطفوا مع أهداف ثورات الربيع العربي التي اندلعت العام الماضي يبدون تخوفهم من التأثير المحتمل لإضفاء المذهبية على الأزهر في استثارة المعارضة ضد الحكومات والدساتير العلمانية.

ويقول مسؤول حكومي شرق أوسطي كبير يعيش في بلاده ملايين السنة «إن جماعة الإخوان المسلمين ترغب منذ سنوات في السيطرة عليه، وبمجرد أن تفعل ذلك، فإن الإسلام المعتدل سيموت. وهذا يمثل تحديا كبيرا أمام المنطقة». وأصر ذلك المسؤول على عدم الإفصاح عن هويته أو بلده، خشية أن يؤدي ذلك إلى إثارة انتقادات من جانب رجال الدين المتشددين.

ورغم ما للأزهر من تاريخ طويل وسمعة كبيرة، فقد تأثرت صورته كثيرا بسبب ارتباطه الوثيق بسلسلة من الحكام المستبدين في مصر، كان آخرهم الرئيس حسني مبارك الذي استمر في الحكم لمدة 30 عاما، وعندما تم خلع مبارك في أوائل العام الماضي خرج الأزهر من هذه التجربة ضعيفا، وصار يبدو لقمة سائغة في انتظار من يتقدم لالتهامها. إلا أن ذلك لم يحدث، حيث تمكن الإمام الأكبر أحمد الطيب، الذي عينه مبارك، من البقاء في منصبه، وأصبح من أشد المؤيدين لاستخدام الحوار في سد الهوة الآخذة في الاتساع داخل مصر بين الرئيس محمد مرسي وأنصاره الإسلاميين من ناحية والائتلاف الرخو المعارض له الذي يضم الليبراليين واليساريين والمسيحيين من الناحية الأخرى. إلا أن المنتقدين يقولون إن الطيب يدين باستمراره في منصب الإمام الأكبر إلى إبدائه الاستعداد للركوع أمام النظام الإسلامي الجديد.

وقد شكلت ساحة الأزهر الرخامية ومناراته الجميلة هذا العام خلفية لمشاهد لم يكن من الممكن تصورها في عهد مبارك، الذي كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون يعانون فيه من الاضطهاد بسبب آرائهم. واستغلت سلسلة من الدعاة المهيجين للجماهير، ومن بينهم رئيس وزراء حركة حماس إسماعيل هنية والشخصية التلفزيونية ذات الشعبية الكبيرة يوسف القرضاوي، منبر الأزهر لمهاجمة إسرائيل بعنف. والشهر الحالي، جعلت جماعة الإخوان المسلمين الأزهر مسرحا لجنازات صاخبة لأفراد الجماعة الذين قتلوا في الصدامات التي وقعت مع المتظاهرين العلمانيين.

وقد أبدى العديد من المسؤولين الحكوميين الشرق أوسطيين قلقا خاصا من خطبة القرضاوي، التي ندد فيها بالحكومات المسلمة العلمانية في أنحاء المنطقة، وأعلن أن توحد الأمة الإسلامية فيه دمار إسرائيل. وذكر القرضاوي، الذي يشغل عضوية مجلس العلماء الأزهري الذي سيتولى تفسير الطابع الإسلامي للقوانين المصرية «نقول لإسرائيل: إن لك يوما، حيث إن الله يملي للظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر». ويقول مسؤول حكومي شرق أوسطي آخر إنه يخشى من أن تستحوذ آراء القرضاوي والمؤمنين بآيديولوجيته على الأزهر في النهاية، أيا كان من يتولى منصب الإمام الأكبر. وذكر هذا المسؤول «إن السنة سوف يتأثرون بهذه الأصوات، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل داخل الجاليات المسلمة في أوروبا وحول العالم أيضا». ويسخر قيادات «الإخوان» والسلفيين من فكرة أنهم يخططون للاستيلاء على الأزهر، مصرين على أنهم منشغلون فقط بضمان استقلالية هذه المؤسسة، وهو ما تضمنه مسودة الدستور المصري، وهناك قانون جديد لتنظيم الأزهر ينص على اختيار الإمام الأكبر عن طريق علماء المؤسسة، وليس عن طريق الرئيس كما كان يحدث في الماضي. ويؤكد عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لـ«الإخوان»، أن هذه التغييرات مجتمعة «تعيد الأزهر إلى مكانته الأصلية كمؤسسة مستقلة» بعد عقود من التبعية للدولة. وأنكر نادر بكار، وهو مسؤول كبير في حزب النور السلفي، سعي جماعته إلى الفوز بنفوذ أكبر على الأزهر، موضحا «نحن لسنا حريصين على تحرير الأزهر لمجرد السيطرة عليه». إلا أنه ذكر أن السلفيين يريدون أن يكون للأزهر القول الفصل في تفسير الشريعة الإسلامية، ثم تابع قائلا «الأزهر ليس مثل الفاتيكان. لا أحد في الإسلام لديه وجهة النظر النهائية».

صحيح أن مسودة الدستور لا تنص سوى على منح الأزهر دور استشاري وليس إلزاميا في تفسير قوانين البلاد، غير أن علماء القانون يقولون إن قضاة وساسة البلاد سوف تكون لديهم ممانعة شديدة تجاه تحدي الأزهر ما إن ينطق بكلمته. وفي مجمع الأزهر الإداري الحديث بوسط القاهرة، الذي يتولى تسيير العمل به رجال يرتدون سترات غربية ويتحدثون بمزيج من العربية والإنجليزية والفرنسية، يقول المسؤولون إن الشيخ أحمد الطيب ومجلس العلماء الذي يرأسه والمكون من 40 عضوا سوف يكون حذرا في استخدام سلطاته الجديدة، إذ يؤكد إبراهيم نجم، وهو أحد مستشاري مفتي الديار المصرية علي جمعة، أن «الإمام الحالي يحاول إبقاءنا بعيدين عن مستنقع السياسة الذي يغرق فيه». إلا أن البرلمان، الذي سيتم انتخابه مطلع العام القادم، قد يحاول إبعاد الطيب تدريجيا بحجة أنه ليس شخصا محل ترحيب لأنه من بقايا عهد مبارك. ويقول نجم إن الإسلاميين المتشددين يسعون إلى تشويه سمعة الطيب ويرغبون في تعيين إمام تابع لهم، واستطرد الرجل قائلا «إذا تم تغييره، فسوف تكون هذه كارثة خطيرة».

وحتى من دون إجراء تغيير داخل الأزهر، فإن أنصار حقوق الإنسان يشعرون بالقلق من أن يكون الدستور المصري الجديد قد جر البلاد بالفعل إلى طريق سوف يمنح السلطات الدينية دورا كبيرا في تحديد الحقوق الفردية. ويقول المحامي الحقوقي المصري أحمد عزت «إن إسناد مسؤولية تفسير القانون إلى مؤسسة دينية يتعارض مع فكرة الدولة الحديثة برمتها. لقد انتهى ذلك الدور في العصور الوسطى، ومحاولة إعادته الآن سوف تؤدي إلى موجة من القمع والطغيان».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»