مع تصاعد القتال في حلب.. السوريون يواجهون الجوع والأمراض

مواطنون: أكثر الأبطال صمودا بدءوا يشعرون باليأس

TT

خيم الظلام مبكرا على شوارع هذه المدينة القديمة، التي كانت في السابق رمزا لتاريخ سوريا المغرق في القدم، والتي باتت الآن في قلب الكابوس العميق الذي تحولت إليه الثورة السورية.

بحلول الساعة الخامسة مساء، ترك الناس منازلهم إلى الشوارع التي دمرتها قذائف المدفعية، متجاوزين أكوام الركام وجبال القمامة التي لم تجمع منذ شهور، لقضاء الليل مجتمعين في البرد دون تدفئة أو إنارة أو طعام.

ويقول عمر أبو محمد، 55 عاما، أحد السكان الذين لا يزالون يقطنون في حيه الذي دمره القصف، وهو يستعد للتوجه إلى داخل المنزل لقضاء الليل: «نرقد تحت الأغطية لأن البرد قارس للغاية، فلا عمل ولا مال، ولا حياة». وأضاف، عندما انفجرت قذيفة بهدوء في مكان بعيد للغاية: «لقد حان الوقت للذهاب الآن لأن القناصة سرعان ما سيخرجون».

تنفجر القذائف في مكان ما في حلب معظم الأوقات، لكن بعد خمسة شهور من القتال اعتاد الأفراد على التهديد الدائم. وقد أعاقت الأمطار والأجواء الغائمة الطائرات الحربية، ووفرت بعض الراحة من القصف الجوي الذي يمكن أن يزيل عمارة سكنية كاملة بسكانها في لحظة.

لكن بداية هذا الشتاء الثاني منذ بدء الانتفاضة السورية ضد الرئيس بشار الأسد قبل 22 شهرا، تنذر بمواجهة الأفراد الذين أثقلت كواهلهم بالفعل وطأة العنف والحرب كارثة جديدة؛ حيث برز البرد والجوع والأمراض كتحديات عميقة تقف على قدم المساواة مع الصراع اليومي اليائس الذي أصبحت عليه حياة الملايين - لا في حلب وحدها - بل في عموم سوريا؛ حيث تحولت المطالب بحريات أوسع التي نادى بها الربيع العربي إلى خطأ جسيم لا يغتفر. وتساءل عبد الله عوف، 29 عاما، سائق يناضل لإطعام طفله وسط الارتفاع الصارخ في أسعار الوقود والغذاء: «يمكنك الاختباء من القصف، لكن إذا أحس ابنك بالجوع ولم يكن هناك خبز، فماذا أنت فاعل؟».

لم تكن حلب المكان الوحيد في سوريا الذي يعاني ظروفا أليمة، فتشير التقارير الواردة من مختلف المدن السورية إلى لجوء الأفراد إلى القمامة بحثا عن الطعام، وتفريغ الأبنية من الأخشاب لاستخدامها في الوقود والاصطفاف لساعات للحصول على الخبز حيث تعطلت شبكة التوزيع التي تديرها الحكومة.

وأوضح بانوس مومتيزس، منسق الإغاثة الإقليمي لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أن الأمم المتحدة ناشدت الأسبوع الماضي الدول الأعضاء لجمع 1.5 مليار دولار لمساعدة 4.5 مليون سوري يعانون الفقر، وهو رقم قياسي بالنسبة لعمليات الإغاثة. وهذا الأمر يتضح تماما في الأغلب بعيدا عن الأنظار؛ لأن غالبية الأماكن من الخطورة بحيث يتعذر على عمال الإغاثة أو الصحافيين الوصول إليها.

سيتم إنفاق غالبية أموال الإغاثة، مليار دولار، على مساعدة 500.000 لاجئ فروا إلى دول الجوار، وهناك 4 ملايين آخرين داخل سوريا بحاجة إلى الطعام والمساعدة الطبية. لكن بسبب القيود الحكومية تتحكم القوات النظامية في دخول الأمم المتحدة إلى المناطق السورية حيث لا يتوقع الأفراد القاطنون في المناطق التي يسيطر عليها الثوار الحصول على الكثير من الدعم.

ويبرز البؤس في مناطق حلب التي تخضع لسيطرة الثوار. وكان مقاتلو الجيش السوري الحر قد دخلوا المدينة في يوليو (تموز) أملا في تحقيق انتصار سريع بعد طرد القوات الحكومية من أنحاء واسعة من ريف المدينة. لكن هجومهم كان سيئ التخطيط ومتعجلا، وسرعان ما توقف محولا المدينة إلى مجموعة من جبهات القتال التي يتبادل فيها الجانبان النار والقصف المدفعي، وأي مدنيين قد يتصادف وجودهم في المكان.

تسيطر القوات الحكومية على منطقة وسط المدينة والمنطقة الأكثر ثراء في الغرب، بينما يسيطر الثوار على مناطق الشمال والشرق والجنوب الأكثر فقرا، في الوقت الذي تحول فيه المركز التاريخي، موقع التراث العالمي، المشهور بقلعته وسوقه القديمة إلى ساحة للمعارك.

ومع احتدام واتساع القتال، بدأت البنية التحتية التي تخدم مدينة يقطنها ثلاثة ملايين شخص في التداعي؛ حيث تستهدف الطائرات الحربية المنشآت التي سقطت في أيدي الثوار كالمستشفيات والمخابز. وتم فصل التيار الكهربي، الذي كان يقدم بشكل متقطع، بعدما شن الثوار عملية للاستيلاء على محطة الكهرباء الرئيسة قبل أكثر من أسبوعين.

ويتم تشكيل المجلس الثوري الانتقالي في حلب للقيام بمهام الحكومة المحلية. وقد نجح في تخفيف النقص الحاد في الخبز، وإن لم تحل بشكل كامل، الذي دفع الأفراد إلى الوقوف في طابور للحصول على الخبز لمدة 16 ساعة، فلا تزال هناك صفوف لكنها قصيرة ويقول الأفراد الآن إنهم لا يضطرون إلى الانتظار لأكثر من ساعة لشراء الخبز.

لكن طول طوابير الخبز ليس سوى حل جزئي للأزمة، فقد أغلقت المصانع والشركات أبوابها وأصبحت الوظائف شبه معدومة. وتتوافر اللحوم الطازجة لكن الأسعار تفوق قدرة غالبية الأفراد الذين لم يعملوا منذ شهور. وبالنسبة للكثيرين فإن الخبز المستدير الرقيق، الذي ارتفعت أسعاره إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب هو كل ما يمكنهم جميعهم شراؤها. وبالنسبة للبعض فحتى هذا يفوق طاقتهم.

وتقول ناديا لبهان، 25 عاما، التي قتل زوجها صانع الطوب، قبل شهرين على يد قناص أثناء عودته إلى منزله من شراء الخبز، تاركا إياها دون معين لتربية طفليها براء، 7 سنوات، وفاطمة، 5 سنوات. وكان عليها أن تنضم إلى عدد متزايد من الشحاذين في الشوارع: «لا نحصل على الطعام في بعض الأيام». وأضافت وهي تلملم ثوبها الرقيق في وجه الريح القوية والمطر: «إنه صعب للغاية».

من جهة أخرى، تستشري الأمراض بين من ضعفت أجهزتهم المناعية بسبب الجوع، في مدينة انهارت فيها الصحة العامة. ويضرب مرض السل بعض الأحياء، كما كانت هناك مئات من حالات الإصابة بداء الليشمانيات، وهو عبارة عن مرض جلدي ينتقل عن طريق ذباب الرمل، الذي تتضاعف أعداده وسط أكوام القمامة المبعثرة، بحسب سعد وفائي، الذي يعمل ضمن لجنة الأزمات بمجلس حلب.

وفي عيادة صغيرة في مركز تسوق مهجور – أنشأها أطباء أجبروا على مغادرة مستشفى دمر في غارة جوية – زاد عدد المرضى مؤخرا، ليصل إلى نحو 150 مريضا يوميا. للمرة الأولى، على حد قول الطبيب عزت المزياد، لا تكون معظم الحالات التي ترد للمستشفى إصابات جراء الحرب، بل حالات أمراض معدية، من بينها التهاب الكبد الوبائي وأمراض تصيب الجهاز التنفسي والجرب.

كذلك، على حد قوله، يتم الإتيان بفردين إلى ثلاثة أفراد يوميا بعد سقوطهم متضورين من الجوع وهم يقفون في طوابير أمام المخابز لمحاولة شراء الخبز. ويقول: «ستصبح هذه مشكلة ضخمة. إنها بالفعل مشكلة وهي تزداد يوما بعد يوم. أتوقع أن يبدأ حدوث حالات وفاة».

لا يبصر أهالي حلب المكدرون نهاية في الأفق للحرب الدائرة.. «بدأت المعركة بالكلمات، ثم تحولت إلى طلقات رصاص، ثم إلى قنابل وصواريخ وغارات جوية. والآن، نتوقع أسلحة كيماوية»، هذا ما قاله السائق عوف، مشيرا إلى مسار الثورة، التي بدأت بمظاهرات سلمية في مارس (آذار) 2011، ثم تحولت إلى حرب أهلية حامية الوطيس.

ويلقي البعض باللوم على الجيش السوري الحر في بدء معركة لا يستطيع إنهاؤها. ويلقي آخرون باللوم على النظام في تصعيد استخدام القوة بشكل مطرد لمحاولة قمع الثوار. ويلقي كثيرون، أمثال عوف، باللوم على الجانبين. يقول عوف: «نحن مدنيون عالقون بين شقي رحى الطرفين، وهم يستخدموننا كحطب لإذكاء النار. الطرفان مخطئان».

إن أكثر أبطال الثورة صمودا بدءوا يصابون بحالة من اليأس. شاركت المعلمة آمال علابي في المظاهرات الأولى، وتطوع زوجها بالجيش السوري الحر بمجرد وصول الثورة إلى المدينة. وبعد مرور شهر، لقي مصرعه قتيلا في المعركة الدائرة على الخطوط الأمامية. وتعرض منزلها في البلدة القديمة المحاصرة لقصف بالمدفعية وانتقلت إلى منزل والديها بصحبة أطفالها الخمسة. وهم يعانون أزمة صدرية، وجميعهم مصابون بعدوى تنفسية، لكن لا يوجد دواء متاح لعلاجهم.

«كانت الثورة هي الإجراء الصائب، لكن التوقيت لم يكن مناسبا»، هكذا جاءت كلمات علابي في حسرة من داخل عيادة أنشأتها مجموعة تعرف باسم «ذوي الحاجة» في انتظار ممرضة للكشف على طفلها البالغ من العمر 18 شهرا. وأضافت: «كان علينا أن نبدأ بالتدريج، بأن نطالب بمحاربة الفساد وغيرها من المطالب المشابهة؛ لأن النظام لم يستطع تقبل أننا أردنا فجأة أن ننال حريتنا، ومن ثم، أطلقت قواته نيرانها صوبنا».

وأضافت: «النظام سيسقط، لكنني أخشى أن يستغرق ذلك وقتا طويلا. على الأقل في ظل ما قاسيناه بالفعل حتى الآن، لا أرى بارقة أمل في حدوث أي شيء إيجابي».

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»