الفخ الفرنسي في جمهورية أفريقيا الوسطى

باريس تريد الدفاع عن مصالحها في مستعمرتها السابقة من غير تدخل مباشر في النزاع

نساء يتظاهرن في عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، بانغي، أمس، احتجاجاً على النزاع الذي اندلع مؤخراً بين نظام حكم الرئيس بوزيزي والمتمردين (رويترز)
TT

المنطقة التي أصبحت لاحقا جمهورية أفريقيا الوسطى كانت مستعمرة فرنسية منذ أواسط القرن التاسع عشر. وفي عام 1960 حازت هذه الجمهورية الناشئة التي أبقت على الفرنسية لغة رسمية لها على استقلالها مع احتفاظها بعلاقات وثيقة مع باريس التي أبقت على قواعد عسكرية مهمة لها في بانغي، العاصمة وفي الشمال حيث كان لها قاعدة جوية مهمة.

وخلال الستين عاما المنقضية، كانت فرنسا اللاعب الأول في جمهورية وسط أفريقيا التي تزخر أرضها بثروات «استراتيجية» مثل اليورانيوم والألماس والنفط والأخشاب الثمينة والقطن. وخلال حكم الرئيس فاليري جيسكار ديستان اندلعت فضيحة ما يسمى «ألماسات بوكاسا» العريف السابق في الجيش الفرنسي الذي ساعدته باريس على تنفيذ انقلاب عسكري أوصله إلى السلطة. وبلغ به «جنون العظمة» إلى حد إعلان نفسه «إمبراطورا». وشكر بوكاسا الرئيس الفرنسي على دعمه بأن أكرم عقيلته أنمون جيسكار ديستان بمجموعة نادرة من الماسات التي تحولت لاحقا إلى فضيحة مدوية.

ومنذ استقلالها عاشت جمهورية وسط أفريقيا على وقع الانقلابات والانقلابات المضادة والحروب الداخلية التي تغذيها التدخلات الخارجية. ورغم أن الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا ميتران الذي وصل إلى قصر الإليزيه أوائل الثمانينات سعى إلى إحداث قطيعة مع سياسة الانغماس في الشؤون الأفريقية، إلا أن الأمور بقيت على حالها وبقيت أفريقيا «الخزينة» التي تغرف منها السلطة المال السياسي وغير السياسي. وإبان ولاية الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، عمدت باريس إلى إعادة النظر في الاتفاقيات الدفاعية التي تربطها بمستعمراتها السابقة. والجديد الذي جاءت به أنها، من جهة، أفصحت عن مضامينها ومن جهة أخرى نصت على أن فرنسا «لن تتدخل في الشؤون الداخلية» للبلدان الأفريقية وأن قواتها المرابطة عبر القارة «ليس غرضها حماية الأنظمة». وباسم المبدأ الأخير، أعلن الرئيس فرنسوا هولاند، ردا على نداءات الاستغاثة الصادرة عن رئيس أفريقيا الوسطى فرنسوا بوزيزي أن القوة الفرنسية المرابطة في مطار العاصمة بانغي هي «لحماية الفرنسيين والمصالح الفرنسية وليست بالطبع لحماية النظام ولن تتدخل بالتالي في الشؤون الداخلية» لهذا البلد. واستطرد هولاند قائلا: «إن زمن التدخل (في شؤون أفريقيا) انتهى إلى غير رجعة».

ويرى مراقبون في العاصمة الفرنسية أن موقف هولاند هو بمثابة «حكم بالإعدام» على نظام الرئيس بوزيزي المعروف بفساده. ويعتبر هؤلاء أن المظاهرات التي جرت أمام السفارة الفرنسية في العاصمة بانغي ومحاولة اقتحامها والتهديدات الصادرة عن المتظاهرين تمثل وسائل ضغط على باريس لدفعها إلى إنقاذ النظام من المتمردين الذين نجحوا في الأسابيع الأخيرة في اجتياح معاقل الشمال والشرق، والذين يهددون باجتياح العاصمة وإطاحة النظام.

وتحافظ باريس على حامية عسكرية صغيرة من 250 رجلا في مطار العاصمة وبالتالي فإنها، عمليا، غير قادرة على توفير حماية للنظام لو أرادت ذلك من غير إرسال تعزيزات إضافية إلى جمهورية أفريقيا الوسطى. وعمليا، لا يتمتع نظام بوزيزي إلا بدعم القوات التشادية المرابطة في محيط العاصمة، بينما أعلنت القوة الأفريقية المنتشرة في البلاد منذ عام 2008 والمكونة من عناصر من الغابون والكونغو وتشاد أنها ستقف على الحياد وأن دورها ليس حماية النظام بل العاصمة بانغي.

وحتى الآن، لم تعرف بدقة هوية الأطراف الإقليمية الضالعة في دعم قوات المعارضة المسماة «حركة سيليكا» ولا حقيقة أهدافها. ولكن ما يهم باريس بالدرجة الأولى، إلى جانب المحافظة على سفارتها ومواطنيها البالغ عددهم 1200 شخص ومصالحها الأساسية هو ألا تتحول أفريقيا الوسطى إلى منطقة عدم استقرار تضاف إلى مناطق عدم الاستقرار الأخرى في أفريقيا إن في بلدان ما يسمى «الساحل» وغيرها من البقاع الأفريقية. وتريد باريس الحاضرة عسكريا في بلدين مجاورين لأفريقيا الوسطى هما تشاد والغابون، تحاشي انهيار المستعمرة السابقة وتهدد بلدان الجوار التي لها فيها مصالح أكثر أهمية. ولكن السؤال يبقى كيف يمكن لباريس أن تحقق أهدافها من غير التدخل بدرجات مختلفة في أفريقيا الوسطى والقارة بمجملها؟.

يبدو أن باريس التي لم تعد راغبة في أن تلعب دور «شرطي أفريقيا» تراهن على الدور الذي يمكن أن تقوم به المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا التي تريد القيام بدور الوساطة من أجل تثبيت الوضع ميدانيا والبحث في مرحلة لاحقة عن حلول سياسية والتفاوض بين الحكومة القائمة وبين المتمردين. وفي هذا السياق، فإن المجموعة بدأت بالتحرك وأرسلت بعثة لها إلى بانغي أمس وهي تسعى لعقد لقاء بين السلطة والمتمردين في مدينة ليبرفيل، العاصمة السياسية والإدارية للغابون بداية الشهر المقبل مقدمة لعملية تفاوض بين الأطراف في العاصمة بانغي نفسها.

وتستطيع باريس الضغط على بانغي من خلال حليفها التشادي أو من خلال المجموعة نفسها لإيجاد حل سيمر على الأرجح في تنحي الرئيس الحالي لصالح عملية سياسية انتخابية تأتي بموجبها سلطة جديدة. لكن جمهورية أفريقيا الوسطى اعتادت أن تعيش على وقع الانقلابات والحروب الأهلية قد تكذب كافة التوقعات لتغرق أكثر فأكثر في حالة من الفوضى والعنف.