معركة حلب.. انعكاس واقعي للمواجهة بين القوات النظامية والثوار

كشف القتال فيها عن التقديرات الخاطئة الفادحة للنظام

رجل يجلس أمام أكوام حطب يعرضها للبيع في حلب أمس (رويترز)
TT

سار القناص عبر الأنقاض بالقرب من الخطوط الأمامية لمدينة حلب. كان يبحث عن موضع آخر ربما يمكنه أن يلتقط منه ضابطا سوريا في نطاق بندقيته. وقال، متحدثا بلغة إنجليزية بلكنة فرنسية، إنه ليس سوريا، بل جهادي متجول جاء إلى هنا لدعم ثورة السنة ضد الحكم العلوي العلماني للرئيس بشار الأسد.

وقال: «إنني مسلم. حينما تشاهد العديد من أشقائك وشقيقاتك يقتلون على شاشة التلفزيون، يتعين عليك أن تذهب لمد يد العون لهم. هذا واجب في الإسلام».

إن وجود هذا المقاتل الأجنبي المعارض للنظام، الذي ادعى أنه من باريس وأن اسمه أبو عبد الله، أشار إلى سؤال متكرر بشأن معركة أكبر المدن السورية: إلى متى ستستمر المعركة؟ وماذا ستكون تأثيراتها؟

أصبحت معركة حلب، التي دخلت شهرها السادس الآن، معركة من أجل سوريا في عالم مصغر، على نحو يكشف النقاب عن موطن ضعف الطرفين، بينما يبرز من جديد مخاطر وتكاليف اندلاع حرب أهلية عنيفة في الدولة.

لقد أوضحت جليا الصعوبات التي يواجهها الثوار في تنظيم حملة مترابطة، من بينها افتقارهم إلى أسلحة ضباط المشاة الأثقل من المدافع الرشاشة، وتورط بعض مقاتليهم في انتهاكات حقوق الإنسان نفسها التي يدينون النظام عليها، من بينها القتل الجماعي للسجناء.. فضلا عن ذلك، فقد جعل ذلك الثوار عرضة لاتهامات بالفساد، من بينها سرقة الطعام والمساعدات الأخرى التي يعتبر الشعب في أمس الحاجة لها.

في الوقت نفسه، كشف القتال عن التقديرات الخاطئة الفادحة للنظام.. فكل التصريحات مناقضة تماما للحقيقة، وبصرف النظر عن جهود هذه التقديرات لحشد الضباط وقوة السلاح هنا، لم تحشد الدعم الشعبي أو القوة العسكرية المطلوبة لوقف الزخم البطيء للثوار، فما بالك بإلحاق الهزيمة بهم؟! في هذه الأيام، ثمة شائعات رائجة حيال معضلة الأسد: هل سيفر هاربا من دمشق، أم سيموت خلف بوابة القصر؟

وقال العقيد عبد الجبار العقيدي، الضابط السابق بالجيش السوري، والذي يعتبر الآن أحد أبرز قادة الثوار في منطقة حلب: «نحن نحقق تقدما جيدا جدا الآن»، وأضاف: «لقد تم تطويق معظم القواعد العسكرية وقوات النظام في حلب».

ومع حلول الشتاء، متسببا في تفاقم الأزمة الإنسانية بالنسبة للمدنيين في حلب، فقد تغير اتجاه المعركة بشكل حاسم.

لقد عزلت وحدات الجيش السوري بشكل كبير عن العاصمة. على مدى أسابيع، ظلت تستسلم، متقلصة تحت ضغوط الهجمات المستمرة من الثوار من معظم الاتجاهات والصعوبات وثيقة الصلة المرتبطة بإعادة الإمداد.

إن أسلوب العقاب الجماعي الذي انتهجه الجيش - والذي تجلى من خلال غارات جوية عشوائية وقصف مدفعي على الأحياء السكنية - لم يجلب له سوى الغضب والسخط الشعبي.

وأشار أحد نشطاء المعارضة إلى نهج الجيش الممثل في إطلاق بعض قذائف المدفعية على الأحياء، ثم الانتظار لمدة تتراوح ما بين خمس إلى عشر دقائق حتى يتجمع المدنيون لمساعدة الجرحى، ثم معاودة القصف مرة أخرى – على نحو يحاكي الغارات الجوية المتكررة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في حملته عام 2011 لخلع العقيد الليبي معمر القذافي. «أحيانا ننتظر ولا نغادر منازلنا بعد عمليات القصف الأولى، نظرا لأننا نعلم أن ثمة عمليات قصف أخرى قادمة».. هذا ما قاله الناشط ممتاز محمد. وأضاف: «هناك كثير من الضحايا الذين لقوا مصرعهم بسبب هذه السياسة».

وبدأ الجيش، الذي كان قادرا في ما سبق على التجول بحرية داخل صفوفه المسلحة، الشتاء بالتمركز في جنوب وغرب المدينة. علاوة على ذلك، فإنه يحتفظ بسيطرة جزئية على المطار الواقع في الجنوب الشرقي، على الرغم من أن الثوار قد اندفعوا ليصبحوا على مقربة من أسواره، ويزعمون أنهم قد وضعوا العديد من الأسلحة المضادة للطائرات هناك.

لقد تقلص دعم القوات الجوية السورية، الذي استمر في المدينة طوال الصيف تقريبا. ولم يعد صوت المروحيات روسية الصنع، الذي كان مستمرا من قبل، يسمع كثيرا الآن.

عادة ما تنشر الطائرات الهجومية العابرة خيوطا لامعة من الأضواء التمويهية – إشارة إلى أن الطيارين يخشون من قذائف الثوار المحمولة الباحثة عن الحرارة، التي دأبت على إسقاط طائرة واحدة على الأقل أواخر الخريف. غير أن هذه النجاحات المتراكمة للثوار لم تأت من دون معوقات وتكاليف وتساؤلات تتعلق بمستقبل سوريا. على الرغم من أن الجيش ضعيف، فإنه لا يزال يملك الإمكانات ومن الصعب إزاحته من المناطق التي تمركزت فيها قواته في حلب، مثلما حدث في معظم مدن سوريا.

في أحد الأيام الأخيرة، تجمع الثوار في مواقعهم بالخطوط الأمامية بالقرب من قاعدة هنانو العسكرية. لقد استحوذ الثوار على القاعدة في الصيف، ليفقدوها بسبب هجوم مضاد من الجيش، بعد أن ترك الثوار عددا قليلا جدا من الحرس وعجزوا عن تعزيز مكاسبهم.

الآن، حاول الثوار استعادة ما قد امتلكوه من قبل، مندفعين في إطار 65 ياردة من أعدائهم عبر متاهة من الأزقة.

في أحد الشوارع، يقبع جثمان ضابط سوري وسط الأنقاض. فحص الطرفان جثمانه، حيث لم يكن أي منهما قادرا على المخاطرة في وضح النهار باستعادته من دون أن يتعرض لإطلاق نار.

وقال أحد القادة بالخط الأمامي، وهو محمد بكار، 36 سنة، إنه قد دفع من دون قصد إلى حياته هذه على مضض كمشارك في حرب عصابات مدنية.

وقال: «اعتبر النظام كل شخص ليس في صفهم مطلوبا للقبض عليه. وبدأوا زيارة منزلي والسؤال عني. تركوا مذكرة يطلبون مني فيها القدوم لزيارتهم في قسم الاستخبارات».

وواصل قائلا: «بدلا من ذلك، انضممت إلى صفوف الجيش السوري الحر».

تحدث بكار، على غرار آخرين عن العودة إلى حياة سلمية بعد إيقاع الهزيمة بالأسد. غير أن هؤلاء الرجال أشاروا أيضا إلى أنه ربما يثبت كون الجيش أكثر خطورة في تدهوره. ربما تقاتل الوحدات البعيدة عن المركز، والتي تعلم أن الثوار قد قتلوا سجناء، حتى الموت. كذلك، كانت هناك إشارات عديدة على مدار العام دالة على أن النظام لم يفرض كثيرا من المعوقات، مع تنامي قوة الثوار.

قال العقيد العقيدي إن «الثوار عادة ما يحاولون اتخاذ مواقع الجيش خطوة بخطوة، آملين، من خلال تقدمهم، في إقناع الضباط بالاستسلام».

وأشار المقاتلون ونشطاء المعارضة إلى أن الحرب قد غيرت سكان سوريا، وأنهم أصبحوا أكثر تعصبا وتدينا وأقوى تسليحا وفي حالة من الإحباط الشديد، وفي حالة من الغضب الشديد، من صمت الغرب.

إن وجود مقاتلين أجانب أمثال أبو عبد الله، والمطالبات بتطبيق الشريعة التي أصبحت تسمع في أماكن عديدة بالأراضي التي يسيطر عليها الثوار، جعلت كثيرين يقولون إن إسقاط الأسد، حتى وإن أتى مبكرا، سيسطر نهاية مرحلة من الحرب، وربما بداية مرحلة جديدة. وبهذه الصورة قدمت حلب لمحة.

من جانبه، جاب أبو عبد الله، الصف الأمامي بتصديق مؤكد من المقاتلين السوريين المحيطين به. ورفع أبو عبد الله، الذي كانت خصلات شعره الطويل تتدلى من أسفل قبعته السوداء، بندقيته طراز «دراغونوف»، وقام بمسح شامل للمباني المحطمة، بحثا عن موقع مرتفع يمكن أن يشاهد منه مواقع الجيش بالقرب من هنانو، في انتظار ظهور ضابط ليصبح هدفا له.

وقال إنه قد سبق له أن حارب في باكستان وأفغانستان وإنه كان قناصة في العراق. وأشار إلى أنه قد حان الآن دور سوريا في الحرب، والتي تمزج بين ثورة ضد نظام قمعي وبين صراع أقدم أكثر قبحا بين السنة والشيعة. وأشارت مهمته إلى أنه لا يبصر نهاية سريعة لأحداث العنف. يقول أبو عبد الله: «إنني هنا لتعليم السوريين القنص».

* خدمة «نيويورك تايمز»