العالم في 2012: لعبة «القط والفأر» بين القضاة و«الإخوان»

«البرلمان» فجر العلاقة.. و«إعلانات» مرسي الدستورية أدخلتها نفقا مظلما

الرئيس المصري محمد مرسي يحيي مناصريه، في ميدان التحرير بالقاهرة، ويبدو محاطا بضباط يقومون بحمايته في 26 يونيو 2012 (رويترز)
TT

«قرار حل مجلس الشعب (البرلمان) موجود في المحكمة الدستورية ويمكن أن يصدر في أي وقت».. كلمات قصيرة موجزة، قالها كمال الجنزوري رئيس الحكومة المصرية السابق، مهددا بها جماعة الإخوان المسلمين بحل المجلس، الذي تمتلك أغلبيته، ما لم تتوقف عن انتقاداتها للحكومة ومطالبتها بعزله.. لكنه لم يدر أن هذه الكلمات سوف تفتح نار المواجهة بين جماعة الإخوان والقضاء المصري في لعبة سياسية أشبه بصراع «القط والفأر» استمرت فصولها على مدار عام (2012)، ولم تزل تداعياتها تعصف بكل أركان الدولة، وهي على مشارف العام الجديد، الذي يشهد الذكرى الثالثة للثورة.

تلك الكلمات، التي كشف عنها الدكتور سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب (المنحل)، في أبريل (نيسان) العام الماضي، والتي نفاها الجنزوري فيما بعد، أججت مخاوف كبيرة لدى جماعة الإخوان، حول ضياع حلمها في الوصول إلى السلطة، بعد أن خطت أولى خطواتها بنجاح، حين فازت في أول انتخابات برلمانية، ومقبلة على الخطوة الثانية وهي استحقاق رئاسة الجمهورية.

في تلك اللحظة أدركت جماعة الإخوان وحزبها «الحرية والعدالة» أن عليهم التخلي عن عقيدة كانت راسخة لدى المجتمع المصري وهي «عدم المساس بمؤسسة القضاء»، باعتبار أن هدمها يعني انهيارا للدولة المصرية ومؤسساتها، ومن حينها أصبح الحديث يدور بقوة حول ضرورة تطهير القضاء من عناصر النظام السابق، خاصة في «المحكمة الدستورية العليا».

فرغم تباهي القوى الثورية في مصر بسلمية الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك في فبراير (شباط) عام 2011، ولجوئها إلى القضاء الطبيعي في التعامل مع خصومها السياسيين، فإن حالة من التململ بدت في صفوف النخبة الحاكمة من تيار الإخوان المسلمين وأنصارها من السلفيين والجماعات الإسلامية، استشعروا من خلالها أن خارطة المرحلة الانتقالية التي رسموها لأنفسهم باتت مهددة بالتغيير وربما الانهيار، بعدما أصبح مصير هذه المرحلة الحرجة بيد القضاء المصري.

وفصل القضاء هذا العام في قضايا مصيرية تتعلق بشرعية البرلمان، ودستورية قانون «العزل السياسي»، الذي أقره مجلس الشعب قبل حله، وهي الأحكام التي صدرت بعد حكم تاريخي سابق أبطل الجمعية التأسيسية الأولى لصياغة الدستور، كما كان يستعد للفصل في شرعية الجمعية التأسيسية الثانية ومجلس الشورى (الغرفة الثانية من البرلمان) لولا إعلان دستوري أصدره الرئيس «الإخواني» محمد مرسي في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بتحصينهما من أي أحكام قضائية.

فبمجرد أن بدأت المحكمة الدستورية العليا النظر في الطعن على دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، كشف الكتاتني في 2 مايو (أيار) الماضي، عن «مشروع قانون لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية»، وتغيير رئيسها، وهو ما أثار القضاة ضد البرلمان حينها، مؤكدين أن ما تفعله جماعة الإخوان في البرلمان هو خطوة استباقية لحكم متوقع من المحكمة الدستورية بحل البرلمان، ومع تواصل هذا الضغط اضطر البرلمان إلى نفي نيته التدخل في قانون المحكمة الدستورية.

لكن ما خشي منه الإخوان حدث بالفعل، عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكما في 14 يونيو (حزيران) 2012 ببطلان قانون انتخابات مجلس الشعب، وبالتالي حله. وكما هو متوقع رفضت جماعة الإخوان الحكم، واعتبرته تدخلا من المحكمة في السلطة التشريعية وتغولا عليها.

وفور تنصيبه رئيسا للجمهورية في يوليو (تموز) الماضي، أصدر الرئيس محمد مرسي، قرارا يقضي بعودة مجلس الشعب (البرلمان) المنتخب لممارسة اختصاصاته، وهو ما تسبب في أزمة بين مؤسسة الرئاسة والمحكمة الدستورية انتهت بتراجع الرئاسة عن موقفها.

تقول المستشارة تهاني الجبالي، نائب رئيس المحكمة الدستورية، في تعليقها على تلك الأزمة ومواجهة الرئاسة لحكم المحكمة: إن «جماعة الإخوان المسلمين تسعى لتنفيذ مخطط هدم الدولة المصرية.. يريدون أن ينقلبوا على الثورة، التي قامت من أجل تطبيق دولة القانون والحرية والعدالة».

وبرغم اضطرار الرئيس وجماعته لتنفيذ هذا الحكم حينذاك، فإن هذا الانصياع ولد مواجهة مباشرة بين الرئيس محمد مرسي وجماعته والقضاء، وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا، التي طالما وصفت من جانب عدد من قيادات من جماعة الإخوان المسلمين بأنها «مسيسة» مبدين تحفظات على أحكامها، زادت حدته يوم 22 نوفمبر بإعلان دستوري أصدره الرئيس المصري محصنا من رقابة القضاء على القرارات الرئاسية والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، حيث كان متوقعا أن تصدر المحكمة الدستورية العليا حكما بحل الجمعية التأسيسية للدستور، بسبب عدم دستورية تشكيلها وفقا لمقيمي الدعوة، فقرر الرئيس سد هذا الباب على المعارضين والقضاء معا. قبل أن يكمله أنصاره بحصارهم مقر المحكمة الدستورية العليا ويمنعون قضاتها من دخول المحكمة ونظرهم القضايا.

اندلعت احتجاجات القضاة عندما منح مرسي نفسه هذه السلطات بمقتضى الإعلان الدستوري، فقرر الكثير منهم رفض الإشراف على الاستفتاء على الدستور الجديد، احتجاجا على الإعلان الدستوري الذي قالوا: إنه «قوض سلطتهم»، وهو ما اضطر اللجنة المشرفة على الاستفتاء إلى إجرائه على مرحلتين لعدم توافر القضاة للإشراف عليه في يوم واحد.

لكن هذا الدستور الجديد، الذي اتخذ آلاف القضاة موقفا منه، برفض الإشراف عليه، أجهز على المحكمة الدستورية تماما فعزل 8 من قضاتها، وأعاد تشكيلها من جديد، فيما اعتبره الكثير من المراقبين نوعا من رد الصاع لها. يقول الفقيه الدستوري المستشار طارق البشري، رئيس اللجنة التي صاغت الإعلان الدستوري الذي كان معمولا به قبل إقرار الدستور الجديد والذي صدر في مارس (آذار) 2011، ومهدت لكتابة هذا الدستور الجديد: «هذا الدستور تضمن عددا من الألغام والنقاط الشائكة، لا يجب تجاهلها، لعل أبرزها المادة المتعلقة بالمحكمة الدستورية، والتي تنص على (يستمر رئيس المحكمة الدستورية العليا وأقدم عشرة أعضاء بالعمل في المحكمة، على أن يعود باقي الأعضاء إلى أماكن عملهم التي كانوا يعملون بها قبل تعيينهم بالمحكمة)».

وتساءل البشري: «أليس في ذلك نوع من التدليس؟»، مشيرا إلى أن «وجه التدليس أنك تفصل قضاة بأسمائهم في صيغة نص دستوري شديد العمومية والتجريد، وتختلس عليه موافقة الناخبين دون أن يدركوا»، مؤكدا أن «الدستور الجديد يعزل قضاة من المحكمة الدستورية ويكون لرئيس الجمهورية من بعد سلطة التعيين في هذه المحكمة، فيحمل هذا الدستور الديمقراطي الناتج عن إرادة الشعب وثورته، وصمة الاعتداء على السلطة القضائية في تشكيل من أعلى تشكيلاتها، مع أن من أهم المطالب الديمقراطية ومن أهم خصائص الدستور الديمقراطي أن يصون مؤسسة القضاء ويحصن قضاتها».

وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى حكم مصر بعد الثورة، قد أصدر في 18 يونيو 2011 مرسوما بقانون برقم 48 لسنة 2011 أكسب المحكمة الدستورية استقلاليتها في تعيين رئيسها وقضاتها، بالنص على أن ذلك يكون بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة يصدر بعد القرار الجمهوري. ويتابع البشري: «لنا أن نقلق على مصير استقلال القضاء كله».

حلقة جديدة وأزمة أخرى عاشتها مصر في أواخر عام 2012. في مسلسل صراع (القط والفأر) بين الإخوان والقضاء، الذي أصبح وكأنه لعبة متواصلة. كشفت عنها الأزمة المتعلقة بإقالة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود. فقد استبق الرئيس محمد مرسي مظاهرات غاضبة للاحتجاج على حكم صدر في أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ببراءة مساعدين كبار للرئيس السابق حسني مبارك ورجال أعمال في قضية قتل متظاهرين في ميدان التحرير والتي عرفت إعلاميا بـ«موقعة الجمل»، بقرار ثوري بإقالة المستشار عبد المجيد محمود من منصبه وتعيينه سفيرا لدى دولة الفاتيكان.

إلا أن هذا القرار أثار غضب القضاة والقوى السياسية المعارضة للرئيس مرسي، واعتبرته تدخلا في شؤون القضاء وانتهاكا لاستقلاليته، حيث لا يسمح القانون بعزل النائب العام من منصبه، وهو ما شجع النائب العام على رفض القرار الرئاسي، بضغط من القضاة الذين أعلنوا تضامنهم مع محمود.

ووفقا لقانون السلطة القضائية والإعلان الدستوري المؤقت فإن النائب العام يتمتع بحصانة قضائية ولا يجوز عزله أو إقالته من منصبه حرصا على استقلاليته وعدم التأثير عليه حال التلويح بالإقالة، حيث لا يبعده عن منصبه أي شيء سوى الوفاة أو بلوغ سن التقاعد (70 سنة) أو تقديم استقالته بمبادرة منه شخصيا.

وإثر هذه الضغوط اضطر الرئيس مرسي، وللمرة الثانية في مواجهاته مع السلطة القضائية، إلى التراجع عن قراراه السابق والإبقاء على المستشار عبد المجيد محمود، مع التربص له في مواجهة قادمة. المواجهة، جاءت سريعة هذه المرة، فبعد أقل من شهرين، وفي 22 نوفمبر الماضي، أصدر الرئيس مرسي إعلانا دستوريا، أقال فيه النائب العام عبد المجيد محمود، وجاءت الإقالة بموجب إعلان دستوري أصدره مرسي يحدد مدة تولي منصب النائب العام بأربع سنوات ويطبق ذلك على من يتولى المنصب حاليا. كما عين مرسي المستشار طلعت عبد الله إبراهيم نائبا عاما جديدا.

ومنذ تعيينه نائبا عاما، يواجه المستشار طلعت عاصفة من الغضب داخل أعضاء النيابة العامة، الذين يطالبون بإقالته، فاضطر المستشار طلعت لتقديم استقالته منذ أسبوع بعد احتشاد نحو 1300 من رؤساء ووكلاء النيابة أمام مكتبه مطالبين باستقالته قائلين إنه شغل المنصب بسلطة الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي.

وفي مفاجأة لا تزال تداعياتها سارية، عدل النائب العام المصري فجأة عن استقالته وقال: إنه أجبر على تقديمها هذا الأسبوع بضغط من معاونيه، الأمر الذي يهدد بمزيد من القلاقل.

وفور إعلان نبأ عدول إبراهيم عن استقالته قال عدد من رؤساء ووكلاء النيابة إنهم علقوا العمل وسيبدأون اعتصاما مفتوحا بدار القضاء العالي، التي تضم مكتب النائب العام وعددا من المحاكم العليا، لحين قبول استقالة إبراهيم.

بدوره أصدر المجلس الأعلى للقضاء بيانا الأسبوع الماضي، قال فيه إن النائب العام المستشار طلعت عبد الله قد تقدم بطلب إلى المجلس، يعرب فيه عن رغبته في العدول عن استقالته، وأنه على أثر ذلك انعقد المجلس في اجتماع طارئ لبحث طلب النائب العام، وأنه تم بحث طلب النائب العام، وبعد مداولات ومشاورات في أسباب عدول النائب العام عن موقف الاستقالة، تم إحالة أوراق الطلب إلى وزير العدل لاتخاذ الإجراءات اللازمة.. وهو ما يعني استمرار الأزمة عالقة.

المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق، يفسر الهجمات التي تشن على القضاء والقضاة، وهذا النزاع بين السلطات، الذي شهدته مصر على مدار عام 2012 بالكامل، ويتوقع مواصلته في عام 2013. قائلا: «إنه ومنذ بداية هذا المرحلة الانتقالية بعد تنحي الرئيس السابق حسني مبارك في فبراير 2011، تعمدت أحزاب الأكثرية البرلمانية وهما جماعة الإخوان المسلمين وحزب النور السلفي، السعي إلى تحقيق مرحلة التمكين الكامل للتيار الإخواني والسلفي.. والسيطرة على كل سلطات الدولة بما فيها السلطة القضائية».

ويرى الجمل في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن «هذه الجماعات الدينية، وكما يصور زعماؤهم، يريدون إعادة تشكيل السلطة وتطهير القضاء لغرض سياسي أساسي هو أن يتم أخونة مرافق الدولة كافة وكل المناصب القيادية فيها، بحيث تكون من بين الإخوان أو السلفيين.. وإزاء ذلك فإنهم يستخدمون في هذا الغرض الضغط السياسي بالمظاهرات المليونية في الشوارع والميادين، وفي الوقت نفسه يعملون على استخدام السلطة التشريعية في وضع قوانين غير دستورية وغير موضوعية تحقق لهم أهدافهم، بحجة وشعار إعادة تطهير القضاء».

وببقاء النائب العام الجديد في موقعه، وإقرار الدستور (غير المتوافق عليه) بنحو 63%، عبر استفتاء قاطعه آلاف القضاة، وأحكام ما زال القضاء ينظرها تشكك في مشروعية قرارات الرئيس محمد مرسي، لا تزال لعبة «القط والفأر» تراوح في حلبة شائكة يرى الكثير من المتابعين أنها تنذر بالخطر الجسيم على كل المستويات.