الانسحابان الأميركي والسوفياتي من أفغانستان: ما أشبه الليلة بالبارحة!

كلاهما حرص في أيامه الأخيرة على تفادي جر أذيال الخيبة عبر التعهد بمواصلة الدعم لنظام كابل

ضباط وجنود سوفيات قرب كابل في عام 1998أي قبل عام من الانسحاب من أفغانستان (رويترز)
TT

قرر الرئيس الشاب، الذي صعد إلى سدة الحكم كرمز للتغيير، إنهاء الحرب باهظة الثمن التي لا تحظى بتأييد كبير في أفغانستان، ويسعى للخروج منها بشكل مشرف من خلال التعهد بتقديم دعم مالي طويل الأجل لحلفائه في كابل، في نفس الوقت الذي يسعى فيه للتوصل إلى مصالحة وتسوية مع المتمردين. ومع ذلك، يسعى بعض كبار المستشارين إلى إبطاء عملية الانسحاب ويقترحون ترك آلاف الجنود في كابل لتدريب ودعم قوات الأمن الأفغانية.

ربما يكون هذا هو الوصف الدقيق للمشكلة المعقدة التي تواجه الرئيس الأميركي باراك أوباما، في الوقت الذي يستعد فيه لاستقبال الرئيس الأفغاني حميد كرزاي في بداية شهر يناير (كانون الثاني)، ولكن الأمر الغريب حقا هو أن هذه الكلمات مأخوذة في حقيقة الأمر من الملفات السوفياتية السرية التي تصف صراع الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف مع مكتبه السياسي وقادة الجيش بهدف إنهاء تدخل «الكرملين» في أفغانستان - وهي الحرب التي بدأت بغارة من القوات الخاصة، والسعي لتحقيق أهداف متواضعة خلال أسبوع أعياد الميلاد لعام 1979. ولكنها تحولت بعد عقد من الزمن إلى ما وصفه غورباتشوف نفسه بأنها «جرح ينزف».

ولعل أكثر شيء نتذكره من ذلك الانسحاب هو الإذلال الذي تعرض له الاتحاد السوفياتي، ونزيف الدماء بين الفصائل الأفغانية المتناحرة بالشكل الذي أدى إلى انزلاق البلاد في حرب أهلية، قبل أن تسيطر حركة طالبان على مقاليد الأمور وتقيم ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة قبل الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2011.

ولكن الخبراء الذين درسوا الملفات السوفياتية قد أشاروا إلى درس آخر يجب أن تتعلمه إدارة أوباما، وهو أن تعد نفسها لسحب القوات الأميركية وقوات التحالف من أفغانستان بنهاية عام ،014. حيث يقول مارك كاتز، وهو أستاذ بجامعة جورج ماسون ومؤلف كتاب «الانسحاب من دون خسارة: الحرب على الإرهاب بعد العراق وأفغانستان»: «الشيء الرئيسي الذي قام به الاتحاد السوفياتي على نحو صحيح هو استمراره في تقديم الدعم العسكري على نطاق واسع للنظام الذي تركه خلفه بعد الانسحاب النهائي عام 1989. طالما كان النظام الأفغاني يحصل على المال والأسلحة، كان يقوم بعمل جيد - وتمكن من البقاء في السلطة لمدة ثلاث سنوات». وقد زادت الفعالية القتالية للقوات الأمنية في كابل عقب الانسحاب السوفياتي، عندما أصبح القتال من أجل البقاء يمثل معركتهم الخاصة. وبعد ذلك، انهار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991. واستجاب الرئيس الروسي بوريس يلتسين لمطالب الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية بإيقاف دعم القيادة الشيوعية في أفغانستان، ليس فقط السلاح والمال، ولكن أيضا الطعام والوقود، وهو ما أدى إلى سقوط الحكومة في كابل، التي كانت مدعومة من «الكرملين»، بعد ثلاثة أشهر فقط. بالتأكيد، هناك اختلافات جوهرية بين التدخل السوفياتي والتدخل الأميركي في أفغانستان، حيث كان يجري النظر إلى الغزو والاحتلال السوفياتي على أنه عدوان غير مشروع، في حين تم تبني الموقف الأميركي من جانب المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا، وتم وصفها بأنها «حرب عادلة» وكان لها أهداف محدودة تتمثل في القضاء على حركة طالبان وتنظيم القاعدة. وقد تحولت هذه الحرب الضرورية إلى حرب بالاختيار الآن، لذا يعمل الرئيس أوباما على إنهائها في أسرع وقت.

ورغم هذه الاختلافات، فإن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة سرعان ما أدركا أن أي دولة أجنبية تسعى لتطبيق سياستها في أفغانستان لن تخوض حربا ضد حركة طالبان فحسب، وإنما تخوض حربا ضد القبلية والمعتقدات والفساد ونظرة القرون الوسطى للمرأة، علاوة على أن المصالح الباكستانية تختلف عن مصالح الحكومة الأفغانية، سواء كانت كابل حليفا لموسكو أو لواشنطن.

وقالت سفيتلانا سافرانسكايا، وهي مديرة البرامج الروسية بمركز ملف الأمن القومي المستقل للأبحاث بجامعة جورج واشنطن: «لم يفهم الاتحاد السوفياتي العوامل الدينية والعرقية بما فيه الكفاية، وبالغ في قدرة المجتمع الأفغاني على التحرك سريعا باتجاه حياة عصرية، في هذه الحالة الاشتراكية». وأضافت سافرانسكايا: «أرى هنا أوجه تشابه مع التوجه الأميركي، لا سيما في ما يتعلق بالنقاشات حول إمكانية الرحيل من أفغانستان بعد تحويلها إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وهي الأفكار التي لا تلقى قبولا كبيرا من قبل القاعدة العريضة للمجتمع الأفغاني». وإذا كان هناك شيء يجب أن تتعلمه الولايات المتحدة من التجربة السوفياتية، على حد قول سافرانسكايا، فهو أنه يتعين عليها أن تسرع في الرحيل بقواتها من أفغانستان، على أن تترك هناك «قوات دولية لعدة سنوات تشارك في التدريب العسكري والتعليم ومشروعات البنية التحتية المدنية، ولا تركز على إرساء قواعد الديمقراطية بقدر تركيزها على تحسين حياة الشعب الأفغاني».

وأشارت سافرانسكايا إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة أن تسعى للدخول في شراكة وتعاون مع قادة أفغان غير كرزاي، الذي يجري النظر إليه من قبل شريحة عريضة من المجتمع على أنه شخصية فاسدة بسبب علاقته مع الولايات المتحدة. وقد أشار مسؤولون بوزارة الدفاع الأميركية إلى أنهم يأملون أن يبقى نحو 10.000 جندي أو أكثر في أفغانستان، ولكن ربما يتعين عليهم القبول بأقل من ذلك، بهدف تعزيز التقدم المحرز خلال سنوات القتال. وسوف تركز هذه القوات على التدريب وتقديم الدعم للقوات الأفغانية، جنبا إلى جنب مع تشكيل وحدات لمكافحة الإرهاب ومطاردة عناصر تنظيم القاعدة والمتطرفين.

وكان وزير الخارجية السوفياتي السابق إدوارد شيفرنادزه، الذي كان واحدا من أقرب الشخصيات لغورباتشوف، قد طالب بانسحاب بطيء للقوات السوفياتية من أفغانستان، وطالب بإبقاء ما يتراوح بين 10.000 و15.000 جندي هناك بهدف تقديم الدعم اللازم للحكومة الشيوعية، ولكن الاتحاد السوفياتي لم يترك سوى 300 مستشار فقط، ورحل بعدما فقد أكثر من 15.000 جندي وملايين الروبلات.

وقال السفير البريطاني السابق في موسكو رودريك بريثويت، صاحب كتاب «الروس في أفغانستان» الذي اعتمد فيه على وثائق الحزب الشيوعي السوفياتي، إن غورباتشوف قد واجه مشكلة صعبة في السياسة الداخلية التي حيرت الدول الأخرى التي وجدت نفسها في ظروف متشابهة، وظل السؤال هو: كيف يمكن للروس أن يسحبوا قواتهم بأمان وشرف، من دون أن يظهروا أمام العالم كأنهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة أو كأنهم قد خانوا حلفاءهم الأفغان أو جنودهم الذين لقوا حتفهم؟»، في إشارة إلى النقاشات الداخلية لـ«الكرملين» التي تشبه إلى حد كبير المناقشات الأميركية الحالية.

وقبيل الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، كتبت صحيفة «ألبرافدا»، وهي الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي السوفياتي، عن تعدد الجوانب الإيجابية للجيش السوفياتي وقت الانسحاب، وهو نفس ما يحدث الآن من قبل البيانات الصحافية التي تصدرها وزارة الدفاع الأميركية للحديث عن المساعدة في عمليات إعادة إعمار أفغانستان. ونشرت «ألبرافدا» مقالا آنذاك تقول فيه: «قام الجنود السوفيات في أفغانستان بإصلاح وإعادة بناء وإنشاء مئات المدارس والكليات المتخصصة وأكثر من 30 مستشفى وعددا مماثلا من مدارس رياض الأطفال ونحو 400 مبنى سكنيا و35 مسجدا، وحفروا عشرات الآبار ونحو 150 كيلومترا من قنوات الري، كما قاموا بحراسة المنشآت العسكرية والمدنية المعرضة للخطر».

لقد أدرك «الكرملين» أن جيوشه لن تتمكن من تحقيق نصر سياسي، ولكن القادة السوفيات خرجوا علينا بنفس الادعاءات التي يتغنى بها مسؤولو حلف شمال الأطلسي اليوم: لم نخسر أي حرب أمام العصابات، ولم تقع أي نقطة أو قاعدة عسكرية في أيدي المتمردين. ويبدو أن هذا الفهم قد دفع وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا إلى تفقد قواته في أفغانستان في الآونة الأخيرة خلال زيارته المعتادة إلى كابل. وأشار بانيتا مرارا إلى أنه ما زال هناك الكثير من التحديات المهمة لانسحاب القوات الأميركية بشكل منظم والحفاظ على استقرار أفغانستان بعد الانسحاب، مستشهدا بنظام الحكم الأفغاني الذي لا يمكن الاعتماد عليه والفساد المستمر ووجود ملاذات آمنة للمتمردين في باكستان. ولكن لا يبدو أن القوة الأميركية ستنجح في علاج أي من هذه التحديات.

* خدمة «نيويورك تايمز»