«الأحمر».. لون يسيطر على مخيلة أطفال سوريا

«الأفكار السوداوية» الناجمة عن الأزمة قد تهدد استقرارهم النفسي

TT

اذهب إلى جانب أي مدرسة للأطفال في مخيمات اللاجئين السوريين وستجد حوائط الفصول وقد ازدانت بالصور التي عند إمعان النظر بها، تصور مشاهد من المذبحة.. طائرات حربية تقصف المباني، وجنود يطلقون الرصاص على المدنيين ومنازل تأكلها ألسنة اللهب، ودبابات تجوب الشوارع محاطة بالورود.

كان لون الدم والعدوان واضحا وضوح القلم الرصاص على الورق. يقول مصطفى شاكر، مدير مدرسة سابق في دمشق، ويدير الآن مدرسة تضم أكثر من 300 طفل سوري في مدينة أنطاكية التركية القريبة من الحدود السورية: «اصطبغت أفكار الأطفال باللون الأحمر، حتى إن الكثير رسوماتهم يغلب عليها اللون الأحمر».

وألقت الثورة السورية ضد الرئيس بشار الأسد، التي دخلت شهرها الحادي والعشرين، بتأثيرات بالغة ومثيرة للقلق في الغالب على الأطفال. كان مئات الآلاف من الأطفال قد فروا مع عائلاتهم، بعد مشاهدة الموت والدمار لمبان وأحياء مألوفة كانت تعني بالنسبة لهم الأمان والاستمرارية. ويواجه الكثير من الأطفال الذين ظلوا في سوريا القصف ونقص الغذاء والبرد القارس من دون وقود أو تعليم. وفي منازلهم المؤقتة تخيم الأفكار السوداء على هؤلاء الضحايا الأبرياء. ويقول ماهر، البالغ من العمر 10 سنوات، الذي يقيم في مخيم للاجئين بالقرب من مدينة يايلاداغي: «أختي الصغيرة حلمت الليلة قبل الماضية أنها ذهبت إلى سوريا وقتلت بشار وعادت».

في الوقت ذاته يسعى الآباء ومنظمات الإغاثة الإنسانية لتقديم يد العون للصغار، حيث تضم الكثير من مدارس اللاجئين غرفا للعب وبرامج للرسم تشجع الأطفال على التعبير عن مخاوفهم والبدء في استعادة طبيعتهم السوية مرة أخرى. لكن هذه المخيمات تعاني من نقص في الاختصاصيين المؤهلين في مجال علم النفس، فالمدارس مكتظة بالمعلمين والإداريين الذين فروا من العنف ويتعاونون مع المتطوعين.

فتقول سيدة قدمت نفسها باسمها الأول، منار، تساعد الأطفال الذين تبدو عليهم علامات الاضطراب النفسي في المدرسة المكونة من سبع غرف تم إعدادها في مركز صغير للمؤتمرات في مدينة غازيانتيب التركية: «أنا طبيبة في أمراض النساء»، وأشارت إلى زميلة لها في الفريق «هذه مهندسة مدنية». وأضافت: «لسنا متخصصين، لكننا هنا لتقديم المساعدة للأطفال ليتعلموا بشكل أفضل.. نحن نشجعهم بالقول: كن مثلا طيبا لأصدقائك، ونتحدث إليهم عن المشكلات التي صاحبتهم من سوريا».

من الحالات التي تخضع للمساعدة طفل في الثامنة جاء من حلب ورفض الحديث لمدة 15 يوما بعد وصوله، وعندما تحدث في النهاية، كانت أولى كلماته «لقد أحرقوا مدرستي». وتلميذة في الصف الأول شاهدت عمها وقد قطعت دبابة مرت من فوقه رجله، وكانت دائمة التغيب عن الصف وعادة ما تعود إلى المنزل ودرجة حرارتها مرتفعة.. طفل آخر كان يلعب دور جندي صاح: «أنا مع الجيش السوري الحر»، وعندما اقترب المعلم اختبأ الطفل تحت المقعد وصرخ خائفا: «لا تخبر الجيش».

ويقوم الكثير من بين 290 طالبا في المدرسة الابتدائية بمظاهرات يومية مرتجلة ضد الأسد مرددين شعارات الثورة في الساحة. وتقول أم محمد، التي يظهر وجهها مشاعر مختلطة من الكبرياء والحزن على ابنها البالغ من العمر تسع سنوات: «ابني هو قائد المظاهرات. أنا لا أريد لابني أن يكره بلده.. لكنه يكره بلده ولا يريد العودة مرة أخرى».

وعلى الرغم من وضوح أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة، يشير مسؤولو المدارس والأطباء النفسيون إلى أن هؤلاء الأطفال يمثلون أقلية، وأن تجارب الأطفال في نيكاراغوا وكمبوديا والضفة الغربية وقطاع غزة تشير إلى أن غالبيتهم سيعودون إلى طبيعتهم دون آثار طويلة الأجل.

يقول نديم المشمش، رئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب في بريطانيا والذي ينسق جهود تقديم دعم الصحة العقلية للاجئين السوريين: «أظهرت الأبحاث أن الذكريات قصيرة الأجل. والغالبية العظمى منهم يشفون منها. وبطبيعة الحال كلما طال أمد هذه الاضطرابات، ازدادت تأثيراتها، لكن في النهاية يجد الجميع وسيلة للتأقلم معها والمضي في حياته».

وبحسب المشمش، تحظى الطبيعة التقليدية للمجتمع السوري بمميزات ومثالب في التعامل مع التأثيرات النفسية للحرب. فمن غير الشائع لدى السوري في أي سن الحصول على مساعدة متخصصة من طبيب بسبب أثر مرتبط بمشكلات نفسية، ويقول: «في سوريا لا يتلقى الأطفال تحفيزا للتعبير عما بداخلهم. لكن في العشرين شهرا الماضية التحم الأفراد بصورة ما في وجه عدو واحد. فالأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة جزء من المجتمع الذي يعطيهم الدعم».

تعتبر سوريا بلدا صغيرا، وما يقرب من نصف سكانه دون الثامنة عشرة، أي ضعف النسبة في الولايات المتحدة. وهؤلاء الشباب تعج بهم مخيمات اللاجئين، في دول الجوار حيث يعيش أكثر من 500 ألف شخص. وتفوق أعداد اللاجئين النازحين في الداخل، يعيش أغلبهم في مخيمات في مدن بعيدة عن منازلهم أو في أماكن معزولة، حيث تشكل المدارس آخر اهتماماتهم في البقاء على قيد الحياة. في مدرسة البشائر في أنطاكيا سمع الطبيب النفسي، مونتاسين بيلار أساسا، قدرا كبيرا من القصص المفجعة. فإحدى الفتيات، التي تبلغ من العمر 15 عاما، راودتها الكوابيس بعدما رأت مئات من رجال الميليشيا الموالين للنظام يقتربون من منزلها، وخشية الاغتصاب كانت تستعد لتلقي بنفسها من شرفة المنزل. أما الطفلة التي تبلغ من العمر خمس سنوات، والتي انتقل بها والداها من مخيم إلى آخر، ففقدت أي إحساس بالأمن وأصيبت بتبول لا إرادي عدة مرات خلال اليوم. وفتاة أخرى في الرابعة عشرة من العمر شاهدت شابا في العشرين من عمره يموت رميا بالرصاص أمام منزلها، وترفض أن تكون موجودة بمفردها ولو لدقيقة واحدة.

وأشار المشمش إلى أن المراهقين والبالغين قد يعانون أكثر من الأطفال الصغار لأنهم يدركون تماما وحشية ما عايشوه أو شاهدوه. لكن أساسا قال إنه يعتقد أن المراهقين يدركون أيضا المبادئ التي تخاض من أجلها الحرب، وهو ما يسهل عليهم التأقلم معها. وقال: «في سن الحادية عشرة فما فوق، يبدي الأطفال قدرة أكبر على التعامل مع الأحداث المخيفة. والأطفال في هذه السن يطورون التفكير التجريدي، ويعرفون قيم الحرية والعدالة.. وهذا يساعد كثيرا».

وفي المخيم تقدم رولا القاضي، وهي طالبة الفنون الأميركية من أصل سوري في جامعة واين ستيت بولاية ديترويت، دروسا في الفنون للطلاب في مدرسة البشائر. وعندما تطلب من الأطفال الذين تركوا وطنهم قبل شهور أن يرسوا ما يدور بعقولهم، يرسم الأطفال صور سوريا التي يحلمون بها.

وتقول: «إنهم يرسمون علم الثورة السورية وعليه عبارات مثل الحرية والسلام. وعاجلا أو آجر سيتوقف هؤلاء الأطفال عن رسم مياه البحر باللون الأحمر، يتحولون إلى الإمساك بالأقلام والألوان الزرقاء».

عادة ما يحيل مسؤولو المدرسة الحالات الصعبة التي تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة إلى الأطباء النفسيين، ويشفى الأطفال في الأغلب باتباع وسائل بسيطة للغاية. فيشير أساسا، الطبيب النفسي للمدرسة، إلى أن الأطفال الذين يخشون الظلام يوضعون في غرفة مع أمهاتهم إلى جوارهم مع خفت الإضاءة تدريجيا. وكل جلسة تستمر لفترة أطول من سابقتها وبعد أشهر قلائل يتغلبون على مخاوفهم.

قد تنقضي سنوات قبل أن يعرف أي منا ما إذا كانت الآثار النفسية التي سببها النزاع ستترك آثارا دائمة أم لا، لكن أساسا عبر عن أمله في ألا تلتهم «طموحات الحرب» الجيل القادم، وألا تدمرها الدماء التي أريقت فيها. وقال: «توقعاتي هي أن يتحلى الجيل القادم بالصفات الإيجابية لهذه الحرب، وأن يؤمنوا بالحرية ويرفضوا الظلم.. فهذا الجيل هو الذي سيعيد بناء سوريا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»