قرويو تركيا البسطاء يكفلون لاجئين تخلت عنهم المنظمات

النساء يعلمن السوريات الخبز بالأفران.. والعمدة تنازل عن منزله لإعاشة 60 فردا

TT

كان الجميع يتأهبون لتناول العشاء في هذا المنزل المتهالك المكون من أربع غرف، والذي يعيش فيه 75 فردا على الأقل من عائلة جاسم منذ رحيلهم عن الكهف الذي غمرته المياه في سوريا.. ذلك الكهف الذي لجأوا إليه في أول الأمر كمأوى عندما تعرضت قريتهم للقصف.

وكان حسنان جاسم ينوي تقديم البطاطس والخبز، إذ لم يكن هناك شيء آخر سواهما. كانت الثلاجة خاوية تقريبا، فلم تكن تحوي سوى قدر صغير من الزبادي الجاف الذي جلبه أحد الجيران، ونصف باذنجانة محشوة؛ متبقية من وجبة الإفطار، وقدر من البقدونس جمعته العائلة من الحقل. وعلى طاولة المطبخ استقرت ستة أرغفة من الخبز وطبقان من شرائح البطاطس المقلية. كان ذلك هو عشاء 75 أو 80 فردا.. فلم يتم إحصاؤهم بشكل دقيق. وقالت سيدة، كان زوجها عمرو عمدة لقرية شاهرناز القريبة من حماه والتي دمرها القصف «لم نذق الخضراوات الخضراء منذ وطئت أقدامنا هنا قبل شهر ونصف الشهر. لم نأكل سوى الأرز والبرغل. أعطانا العمدة بعض اللحم عندما وصلنا، لكننا لم نحصل على أي شيء آخر منذ ذلك الحين».

ورغم ملايين الدولارات التي تنفق على تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين في دول الجوار مثل تركيا، يعاني الآلاف منهم الجوع والحرمان، كل ذلك لأنهم دخلوا إلى الدول المجاورة بصورة غير شرعية.. ومن ثم لا يمكنهم الذهاب إلى المعسكرات التي أنشئت للاجئين الذين تم تسجيلهم.

استقبل 13 معسكرا أقامتها الحكومة التركية أكثر من 140.000 لاجئ. والآن ترفض الحكومة رسميا دخول مزيد من اللاجئين الذين يحاولون الهرب من الحرب الأهلية الوحشية في سوريا. لم تمنح تركيا الكثير من المنظمات الإنسانية تصريحا للعمل في أراضيها، ومن ثم تركز غالبية المنظمات الحكومية أنشطتها في معسكرات اللاجئين داخل الأراضي السورية بالقرب من الحدود التركية؛ غير المعرضة لقصف طائرات النظام السوري.

لكن فرار اللاجئين إلى تركيا، متجاوزين الجبال وحقول الألغام وعبور الأنهار في قوارب صغيرة يتم سحبها من الناحية الأخرى من النهر، لم يتوقف. وعادة ما يستقبلهم المواطنون الأتراك كهؤلاء القرويين في قرية دافوتباسا الصغيرة، الذين يقدمون للاجئين الطعام والمأوى. استقبل سكان القرية الصغيرة - التي يعمل غالبية أبنائها في الزراعة أو كموظفين في الحكومة - 400 لاجئ سوري خلال الشهرين الماضيين. ويمدهم أبناء القرية بخشب التدفئة، وتقوم النساء التركيات بتعليم السوريات كيفية إعداد الخبز في الأفران خارج المنزل التي يتقاسمها الجميع في القرية.

ويقول شمس الدين كونيديوغلو، عمدة دافوتباسا «فر السوريون من الموت، ولا يمكننا أن نوصد الباب في وجوههم». ورغم كثرة السكان العلويين في المنطقة المحيطة، يعيش الكثير من السنة حول دافوتباسا ويتعاطفون مع الثورة السورية. ويقول كونيديوغلو «أنا في الأصل مزارع ومسلم أيضا».

تخلى العمدة عن منزله المكون من ثلاث غرف، حيث تعيش عائلته المكونة من خمسة أفراد، لعائلة سوريا من 60 شخصا، وانتقل إلى شقة يمتلكها بالقرب من ريهانلي حيث يستقبل المزيد من السوريين. وعرض قسائم بأكثر من 500 دولار من الطعام ومجموعة منفصلة من إيصالات الخدمات، التي يدفعها من جيبه الخاص. وتقول زوجته يوسكيل – حانقة - إنهم سيضطرون إلى سحب بناتهم الثلاث من الجامعة بسبب الفواتير التي عادة ما يدفعها من جيبه الخاص، على الرغم من المساعدات الضئيلة التي يحصل عليها من عمال الإغاثة الإنسانية. وتؤكد يوسكيل أنها ليست غاضبة من كرم زوجها؛ لكنها قلقة بشأن النفقات. ويبدي زوجها قلق بشأن نفاذ المال أيضا، فيقول «نحن نساعدهم بأي صورة كانت، لكن لدينا حدودا، وفي مرحلة ما قد نحتاج إلى من يساعدنا أيضا».

وتشغل عائلة الشيخ أحمد، المكونة من أربعة إخوة وزوجاتهم وأخت له وخمسين طفلا، منزل العمدة ذا الطابق الواحد، والذي زين باللون الأصفر الذهبي. كانت ثلاث من النساء حوامل، إحداهن تنتظر وضع مولودها. تعمل كل الأسرة في الزراعة وقالوا إنهم فروا من قريتهم القريبة من مطار حلب لأن القوات الحكومة تقصف مواقع الثوار.

وقال طلال (45 عاما) أكبر الإخوة الخمسة «لم نتوقع على الإطلاق أن يقصف الشعب أبناءه». وأضاف «استقلت العائلة السيارات إلى الحدود مع تركيا ثم عبرنا الجبال في ليلة غزيرة الأمطار لنصل إلى دافوتباسا قبل شهر». منزل كونيديوغلو مؤثث بشكل جيد حيث يغطي السجاد الحوائط، والرجال ينامون في غرفة الضيوف المستقلة عن المنزل، فيما تنام النساء في المنزل الرئيس، و13 شخصا في غرفة المعيشة بالأسفل، التي اكتظت بالمراتب ذات اللون الأصفر الباهت، التي تستخدم كأرائك أثناء اليوم وأسرة خلال الليل. أما البقية فموزعون على المراتب الخفيفة التي تنتشر في الغرف الثلاث والصالة وحتى في أرضية المطبخ.

وتقول بشرى، زوجة الشيخ أحمد، وهي تضحك «نحن مكدسون في هذا المنزل، وننام فوق بعضنا البعض».

أما المنزل الذي تقيم فيه عائلة جاسم فهو صغير وغير مؤثث، وبه بعض المفروشات القليلة التي تغطي حوائط إحدى الغرف. كان المنزل خاويا قبل حضورهم ومن ثم كانت حالته سيئة للغاية. شعر كونيديوغلو بالمسؤولية عن العائلة، واشترى الأقمشة البلاستيكية لوضعها على النوافذ المفتوحة لإبعاد المطر. كانت غرفتا المنزل مفروشتين بالسجاد. ومصدر الحرارة الوحيد موقد يعمل بالخشب؛ حتى إن الأطفال الأكبر سنا كانوا يزودونه بالأفرع الصغيرة لإشعال اللهب.

بيد أنهم غادروا الكهف الذي عاشوا فيه عدة أسابيع بعد قصف القوات السورية لقرية شاهارناز، وكان بين عشرات الكهوف الجبلية التي كان أهالي المدينة يستخدمونها كمأوى للأغنام والماشية قبل أن يلجأوا إليها كبشر. ظلت العائلة داخل الكهف ولم تكن تغامر بالخروج منه، ربما لعشرة أيام متتالية في بعض الأحيان.

وبحسب عامر جاسم، فقد أنقذهم الكهف من القصف، لكنه أثر على صحتهم، فأصيب الأطفال بضيق التنفس بسبب الهواء العفن. وأصيب الأفراد أيضا بالأمراض الجلدية بسبب الروث. وعندما فاض الكهف بالماء قرر جاسم أن يغادره إلى تركيا. كانت البقية الباقية من حياتهم القديمة التي جلبوها معهم هي عائلة والده التي تضم 39 طفلا أنجبهم مع زوجاته الأربع. وأبدى الأب، الذي حضر بصحبتهم، ندما على ذلك.

وقال جاسم، الذي يبلغ من العمر 40 عاما «قال والدي لي إنه نادم على أنه أنجب كل هؤلاء الأولاد وجاء بشار ليقتلهم».

وضع كل هذا العدد من الأفراد في مثل هذه المنطقة البسيطة يتطلب إقامة ملائمة، فلا يوجد فراش كاف ليتحمل كل هؤلاء الأفراد، ولذلك ينامون مكدسين إلى جوار بعضهم البعض، حيث ينام كل شخصين على مرتبة صغيرة الحجم. ولم يكن لديهم بطاطين كافية، ومن ثم كان ينبغي على أربعة أطفال أن يتشاركوا غطاء واحدا. جلب لهم القرويون بعض الطعام، لكنه لم يكن كافيا. كان الجميع يتشاركون مرحاضا واحدا، وهناك دائما طابور متوقف أمامه لاستخدامه.

وفي إطار ذلك، وجد بعض الرجال عملا في قطف الزيتون ويحصلون على ما يقرب من 11 دولارا يوميا، حتى إن ابن جاسم البالغ من العمر 12 عاما حصل على عمل هو الآخر ويجني 3 دولارات يوميا من العمل في صناعة الطوب اللبن. لكن المال شحيح للغاية. وعندما أصيب والد جاسم بالتهاب شعبي حاد استدعوا طبيبا ودفعوا له المال، لكنهم لم يتمكنوا سوى من شراء نصف الدواء الذي وصفه الطبيب.

وقال جاسم «أكثر ما يؤلمني هو سؤال الأطفال للطعام ونومهم جوعى لأننا لم نستطع أن نقدم لهم أي شيء». وبينما كانوا في طريقهم خارج سوريا، قال والد جاسم له «ينبغي أن نحافظ على كرامتنا خارج بلدنا». وقد ألح جاسم وزوجته على الضيف الذي غادر المنزل المزدحم أن يقبل منهم الشيء الوحيد الذي يمكنهم تقديمه: رغيف من الخبز.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»