الثورة تدخل طريقا مسدودا في انتظار تحرك «السوريين المترددين»

كتلة مهمة في سوريا تخشى الحكومة والثوار في آن.. وتقف عاجزة عن اتخاذ القرار

TT

داخل حجرة مكتبه الحكومي في العاصمة السورية دمشق، يتحاشى ذلك الموظف العام تماما الحديث عما يسميه السوريون «الموقف»، إلا أنه سرعان ما يبدأ في رسم تصوره الخاص لنهاية اللعبة، حيث يدرس إمكانية الانشقاق والانضمام إلى الثوار، إلا أنه يظل متشبثا بمنصبه، مدفوعا بإحساس متزايد بالثقة في أنه لا يوجد مقاتلون يستحقون أن ينضم إليهم. ويقول الرجل، وهو ضابط عسكري سابق يتحدث عدة لغات، إنه واحد من بين الكثير من الأصدقاء والزملاء الذين يشعرون بأنهم عالقون في شرك: فقد تحرروا من وهم الرئيس بشار الأسد، ويشعرون بالاشمئزاز من موجة العنف التي تغلف سوريا، ويخشون الحكومة بنفس قدر خشيتهم للثوار، حيث إن كلا الجانبين على حد تعبيره مستعد للتضحية بـ«الأبرياء».

ومن أسباب استمرار الأسد في السلطة حتى الآن أنه بعد عامين من الثورة، ما زالت هناك كتلة هامة في سوريا تقف عاجزة عن اتخاذ القرار، مثل أصحاب الشركات الذين يقودون الاقتصاد، والمصرفيين الذين يمولونه، والمسؤولين الأمنيين والموظفين الحكوميين الذين يملكون في أيديهم مفاتيح المهمة العادية ولكنها حيوية والمتمثلة في الحفاظ على وجود دولة استبدادية. ولو أنهم تخلوا عن النظام أو اقتنعوا بالثوار ككل، لربما كانوا قد غيروا من اتجاه التيار، ولكن بدلا من ذلك، فإن ترددهم هذا يزيد المأزق تفاقما.

وقد وصلت الثورتان المصرية والتونسية اللتان ألهمتا الثورة السورية التي كانت سلمية في البداية إلى نقطة التحول في غضون أسابيع، وبقدر أقل بكثير من إراقة الدماء، ففي كلتا هاتين الحالتين كانت رغبة الكثيرين في التغيير تطغى على الخوف من المجهول، وتمكنت هذه الرغبة من إسقاط النظامين - أو بالأحرى الطغمتين الديكتاتوريتين اللتين كانتا تجثمان فوق صدريهما. أما في سوريا، فقد أراق كل جانب من الجانبين دماء الآخر، بينما يبقى الكثيرون واقفين على الهامش، وهناك مجموعة أساسية من المؤيدين تشعر بأنها ملزمة بالبقاء مع النظام حتى في ظل تزايد شكوكها، ويعود هذا في جزء منه إلى أن القبضة الحديدية التي استخدمها النظام بلا رحمة جعلت التظاهر أكثر مخاطرة بكثير من الثورتين الأخريين، وإن كان يعود كذلك إلى الشكوك التي ثارت بين النخبة في المدن وغيرها حول اتجاه الثورة وما سيكون عليه شكل سوريا تحت حكم الثوار.

وتقول سمر حداد، وهي سيدة في أواخر الأربعينيات من عمرها وتدير دار نشر سورية وأصبحت الآن تقضي معظم وقتها خارج دمشق: «أنا وجيراني كنا أول من نزل إلى الشوارع وهتف بأننا نريد بلدا، بلدا حقيقيا وليس ضيعة. أما هذه الثورة المسلحة، فأنا أرفضها بقدر ما أرفض النظام». وأشارت سمر إلى أنها هي ودائرة معارفها من المفكرين وأصحاب المهن ينظرون إلى المتظاهرين السوريين غير المسلحين على أنهم أبطال، في حين أنهم يرون أن الثورة المسلحة تخلق أمراء حرب وحلقات مفرغة من الانتقام سوف يكون من الصعب استئصال شأفتها.

ومن بين الواقفين في دائرة التردد الموظفون الحكوميون وقوات الأمن والمفكرون والأثرياء السوريون، ويقول البعض - ومن بينهم أفراد من طائفة الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد - إنهم يخشون من حكم الإسلاميين، أو دعوات الانتقام التي تأتي من بعض فصائل الثورة التي يغلب عليها السنة، والبعض منهم جنود سابقون يقولون إنهم انشقوا عن النظام ليواجهوا خيبة الأمل من الثوار الذين يفتقرون إلى الانضباط أو تستبد بهم الآيديولوجية الدينية. وقد ذكر شاب يدعى نور أنه تخلى عن الثورة عندما حاول الانضمام إلى واحد من ألوية الإسلاميين وهو «لواء التوحيد»، إلا أنه تم رفضه بسبب ارتدائه سروالا ضيقا من الجينز. وهناك آخرون - مثل ذلك الموظف العام في دمشق، وهو سني - يخشون ببساطة من حدوث فراغ بعد رحيل الأسد، كما تعتريهم الحيرة بشأن السبيل الأسلم بالنسبة لعائلاتهم وبالنسبة للبلاد بأسرها.

ويتضاءل تدريجيا عدد السوريين الذين يبدون مقتنعين بقدرة الحكومة على إعادة النظام والانضباط، حيث لم يعد خافيا عن العين ما تعانيه البلاد من تمزق، وقد أدى هذا إلى ما لا حصر له من النقاشات الجدلية الشخصية حول سبيل النجاة، وسط تهديد متصاعد بأنه من دون التوصل إلى تسوية أو تدخل سياسي، فإن قتالا لا نهاية له سوف ينتزع أحشاء الدولة السورية انتزاعا. وقد تحولت الحياة بالنسبة لمن لا يؤيدون الأسد أو خصومه إلى حالة من الانتظار المشوب بالخوف، ففي دمشق يتم إنجاز القليل من العمل داخل حجرات المكاتب التي ترتج بالانفجارات وتصير خاوية على عروشها ما إن يحل الظلام، ويقول الموظفون الحكوميون إن الحكومة ما زالت تدفع رواتبهم، إلا أن حضور العمال في تراجع مستمر. وتشير سمر حداد إلى أن موظفي النشر العاملين لديها ما زالوا يأتون إلى العمل، فيما أصبح أسلوب تحد لإظهار أن الحياة مستمرة.

ويعرب الكثيرون عن الأمل في التوصل إلى حل سياسي - وربما يتلخص هذا الحل في تشكيل حكومة انتقالية تضم مسؤولين حكوميين معتدلين - إلا أنهم يرون أن القرارات في كلا الجانبين يتخذها رجال مسلحون يرفضون الحلول الوسط. ويقول أبو توني، وهو صاحب متجر في وسط دمشق يفضل التوصل إلى حل وسط ولم يذكر سوى لقبه لأسباب تتعلق بسلامته: «كلا الجانبين له نفس العقلية. هذه ليست حياة أن تقضي نصف اليوم من دون كهرباء ومن دون زيت تدفئة وحتى من دون خبز لأن الجانبين يرفضان التنازل عن بعض من مطالبهما». وذكرت سمر حداد أنها وأصدقاءها الذين يتفقون معها في العقلية يحاولون في صمت بناء مجتمع مدني، إلا أنها تضيف: «نحن نشعر بالاكتئاب والعجز وعدم الجدوى. إننا لسنا صناع قرار».

وحتى مع شعور بعض العلويين بالإحباط من الأسد - إذ يرون أنه سمم مستقبلهم في سوريا - فإن الكثيرين منهم يرون أنه لا يوجد مكان آمن لهم على الجانب الآخر، ويعتبر هذا أحد الأسباب في عدم حدوث حالات انشقاق جماعي بين كبار الضباط العسكريين العلويين. ولكن حتى الجنود السنة الذين يتعرضون لضغوط قوية من أجل الانشقاق أحيانا ما يشعرون بأنه «لا يمكننا أن نقدم الكثير إليهم»، وذلك بحسب ما ذكره قائد من قادة الثوار يقيم في محافظة إدلب الشمالية، مؤكدا أن هناك الكثيرين ممن هم على اتصال بزملاء انشقوا من قبل، حيث يتحدثون عن مرور أشهر من دون الحصول على رواتب، بالإضافة إلى المذلة والمهانة التي يعانيها الضباط السابقون من ذوي الرتب الكبيرة على يد المقاتلين الأدنى رتبة ممن لديهم إحساس عالٍ بالذات.

وواحد من هؤلاء المنشقين الذين يشعرون بخيبة الأمل هو نور، الذي يقول إنه كان يخدم في الفرقة الرابعة ذات الهيبة والسطوة بقيادة ماهر شقيق الأسد، ويوضح أنه أقدم على الانشقاق بعد أن قامت قوات الأمن باغتصاب خطيبته وقتلها، وبعد أن توسل إليه الكثير من أصدقائه للانضمام إلى الثوار، ولكن خذله أولا المقاتلون الذين يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات وسبق أن عرضوا عليه أموالا مقابل القيام بممارسات جنسية، ثم «لواء التوحيد» الذي يقول إن مقاتليه سخروا منه قائلين: «أتريد الانضمام إلينا وأنت ترتدي سروالا ضيقا؟» وذكر نور أنه قرر البقاء في تركيا وتحاشي كلا الجانبين في هذا النزاع. ويقول الموظف العام الدمشقي الذي يفكر في الانشقاق - والذي ظل أشهرا يتحدث عن الانشقاق، أولا مع الثوار من بلدته ثم مع أحد المراسلين الصحافيين - إنه يشعر بالتردد تجاه أسئلة كثيرة عن الثوار وخططهم: «هل الناس لديهم ما يكفي من الوعي؟ وهل يمكنهم ممارسة ضبط النفس؟ وهل يستطيع الثوار إقامة منطقة أمنية؟» ثم علق بقوله: «الكثير من الأسئلة في حاجة إلى إجابات». وتابع الرجل قائلا إن الحكومة توقفت منذ وقت طويل عن إجباره على المشاركة في المظاهرات المؤيدة للأسد، إلا أن أنصار الثورة يدعونه بالخائن لأنه يطرح بعض الأسئلة. وأنهى حديثه متسائلا: «لماذا علي أن أنضم إلى جماعة أكون ملزما فيها بالانحناء احتراما؟».

* خدمة «نيويورك تايمز»