أول ضابط من «سي آي إيه» يواجه السجن لتسريب معلومات لصحافي

تعقب «القاعدة» والتنظيمات الإرهابية وأول من تحدث عن عمليات «الإيهام بالغرق».. وكان له الفضل في اعتقال «أبو زبيدة»

TT

عندما يسترجع ذكرياته السابقة، يعترف جون كرياكو بأنه كان ينبغي له أن يعرف أكثر مما كان يعرف. لكن عندما اتصل به مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» قبل عام ودعاه لزيارتهم ومساعدتهم في القضية، لم يتردد.

خلال سنوات عمله عميلا لوكالة الاستخبارات الأميركية، عمل كرياكو عن قرب مع عملاء مكتب التحقيقات في الخارج. وقبل عدة شهور كشفت إلى المكتب عن محاولة لتجنيده من قبل شخص يعتقد أنه جاسوس آسيوي. ورد كرياكو: «سأبذل كل ما بوسعي لمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي».

بعد ساعة من الحديث الذي كان هادئا في بدايته مع عميلين (تحدث معه أصغرهما عن فريق (بيتسبيرغ ستيلر) فيما كان كبير المحققين مستغرقا في التفكير) بدأ في إدراك الهدف من تحقيقهما.

في النهاية، اقترب منه العميل الأكبر سنا وقال، بحسب كرياكو: «ينبغي أن أخبرك الآن أننا أصدرنا مذكرة تفتيش لمنزلك وحصلنا على أجهزتك الإلكترونية بهدف الكشف الكامل عن الحقيقة».

يتوقع أن يواجه كرياكو في الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) الحالي حكما بالسجن ثلاثين شهرا وذلك جزءا من صفقة الإقرار بالذنب الذي اعترف بموجبه بانتهاك قانون حماية هويات عملاء الاستخبارات بالتصريح باسم عميل تابع للوكالة إلى صحافي حر لم ينشره. كان القانون قد أقر عام 1982 ليستهدف المطبوعات الراديكالية التي تسعى بشكل حثيث إلى نشر أسماء العملاء في الخارج، وكشف عملهم السري وتعريض حياتهم للخطر.

وسيكون جون كرياكو أول عميل سابق أو حالي تتم إدانته بالكشف عن معلومات سرية لمراسل، خلال أكثر من ستة عقود من التفاعل المثير للقلق بين الوكالة ووسائل الإعلام.

حصل كرياكو، 48 عاما، على العديد من الميداليات خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من عمله بوكالة الاستخبارات، التي قضى بعضها في تعقب «القاعدة» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، كما قاد في عام 2002 الفريق الذي تمكن من القبض على أبو زبيدة، اختصاصي الإمداد في «القاعدة»، والمقاتلين الآخرين الذين لقي القبض عليهم في باكستان الثناء والذي اعتبر انتصار حاسما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

حصل كرياكو على مراجعات متضاربة في الوكالة، التي غادرها عام 2004 بعد مشاورة وظيفية. وقد امتدح البعض مهاراته، في البداية بوصفه محللا ثم عميلا خارجيا، فيما اعتبره آخرون شخصا يصعب السيطرة عليه.

دخل كرياكو إلى دائرة الضوء للمرة الأولى عندما تحدث للمرة الأولى عن عمليات الإيهام بالغرق أثناء مقابلة تلفزيونية عام 2007، وسرعان ما أصبح مصدرا لصحافيي الأمن القومي، ومن بينهم كاتب هذا التقرير، الذي حضر جلسة توجيه الاتهام العام الماضي، التي أكد خلالها كرياكو أنه عندما أعطى اسم العميل السري لصحافي حر كان بغرض مساعدة الكاتب في العثور على مصدر محتمل ولم تكن لديه نوايا أو توقعات بأن ينشر الاسم على الإطلاق. والحقيقة أن الاسم لم ينشر إلا بعد توجيه الاتهام إلى كرياكو بوقت طويل.

وأوضح كرياكو، الذي أبدى قدرا كبير من الأسف، يوم الجمعة في أحدث سلسلة من المقابلات: «ما كان ينبغي أن أقدم اسم العميل، وأنا نادم على ذلك، ولن أفعل ذلك مرة أخرى».

في الوقت ذاته أكد، بدعم بعض زملائه السابقين في الوكالة، أن القضية (واحدة من سلسلة غير مسبوقة من المحاكمات التي جرت في عهد الرئيس أوباما لتسريت معلومات إلى وسائل الإعلام) كانت غير عادلة وغير حكيمة بوصفها سياسة عامة.

مؤيدو كرياكو هم مجموعة غير متوقعة من الأصدقاء القدامى والجواسيس السابقين ومنتقدي الإدارة ذوي التوجهات اليسارية ومسيحيين متشددين رافضين للتعذيب. وقد بعث المخرج أوليفر ستون برسالة تشجيع إلى كرياكو كما بعث عدد كبير من الأساتذة في جامعة ليبرتي، حيث تلقى تعليمه، برسائل مماثلة. وكان الجميع يرى القضية غضبا ضد رجل خاطر بحياته للدفاع عن بلده.

وأكدوا على أنه مهما كانت ثرثراته مع الصحافيين، فإنه لم ينو على الإطلاق الإضرار بالأمن القومي للولايات المتحدة، ولم يفعل. والبعض يرى في حكم السجن الذي ينتظره ظلما موجها إلى كرياكو، الذي ظهر للمرة الأولى عام 2007 على قناة «إيه بي سي نيوز» مدافعا عن لجوء الوكالة إلى إجراءات استثنائية، لكنه قال أيضا إنه خلص إلى الاعتقاد بأن الإيهام بالغرق كان تعذيبا، وأنه لا ينبغي أن يستخدم ضمن وسائل الاستجواب.

ويرى بروس ريدل، ضابط متقاعد في وكالة الاستخبارات المركزية، الذي قاد مراجعة الحرب الأفغانية في إدارة أوباما ورفض عرضا بتولي إدارة الوكالة عام 2009، أن كرياكو الذي عمل معه في التسعينات كان ضابط استخبارات فذا لا يستحق أن يدخل السجن.

وقال ريدل: «المفارقة بالنسبة لي في الأمر كله بسيطة للغاية، وهي أنه سيكون ضابط الاستخبارات الوحيد الذي يدخل السجن بدعوى التعذيب، على الرغم من رفضه التعذيب علنا. إنها مفارقة سخيفة في ظل رئيس ديمقراطي أنهى التعذيب».

وأوضح جون ريزو، محامي وكالة الاستخبارات البارز إنه لا يعتقد أن كرياكو تعمد الإضرار بالأمن القومي أو تعريض أي شخص للخطر، لكن ما قام به كان خطيرا.

وقال: «أعتقد أنه أراد أن يتحول إلى بطل شعبي، ولا أعتقد أن هناك مشكلة في ذلك، لكن كشف الأسماء ليس بالأمر الهين». وأشاد كثيرون بما قام به الكونغرس من محاكمات بشأن تسريب معلومات بوصفه ردا طال انتظاره على سلسلة من كشف خطر للمعلومات ودافع عن هذا الإجراء أوباما ونائبه العام إريك هولدر، لكن مساعديهما قالوا إن أيا من الرجلين لم يأمر بإجراءات قمعية، وإن القضايا لم تكن نتيجة تغيير مقصود في السياسات بقدر ما كانت ناتجة عن انتشار بريد إلكتروني وتعقب مصدر كشف معلومات دون إلحاح من الصحافيين للكشف عن مصادر سرية. وعندما أقر كرياكو بالذنب في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أمام المحكمة الفيدرالية في الإسكندرية بولاية فرجينيا، أصدر ديفيد بترايوس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، بيانا أشاد فيه بالمحاكمة «بوصفها انتصارا مهما للوكالة، ولمجتمعنا الاستخباراتي وبلدنا».

ومضى إلى القول: «القسم أمر مهم. وهناك بالفعل عواقب لمن يعتقدون أنهم فوق القوانين التي تحمي رفاقنا الضباط وتمكن وكالات الاستخبارات الأميركية من العمل بالدرجات المطلوبة من السرية».

بعد أقل من ثلاثة أسابيع، راح بترايوس ذاته ضحية رسائل البريد الإلكتروني، فاستقال بعد تنفيذ محققي مكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيقا مستقلا اكتشفوا خلاله، عبر فحص دقيق لحسابه الخاص على شبكة الإنترنت، أنه أقام علاقة خارج إطار الزواج.

وأثنى نيل ماكبرايد، ممثل الادعاء العام لشرق فيرجينيا، على اعتراف كرياكو في بيانه الذي قال فيه: «لدى الحكومة مصلحة حيوية في حماية هويات الأشخاص المشاركين في العمليات السرية. وتسريب معلومات بالغة الحساسية والسرية يشكل تهديدا للأمن القومي ويعرض حياة الأفراد للخطر».

تشكل قضية التسريب تحولا مدمرا بالنسبة لكرياكو الذي هو أب لخمسة أطفال ويعتبر نفسه وطنيا وفخورا بأصوله اليونانية، والذي عاش في بنسلفانيا، والذي كان جده، بحسب كرياكو: «دائما ما يتحدث كما لو كان فرانكلين روزفلت سمح له شخصيا بدخول هذه البلاد». وعندما اكتشف شغفه بالشؤون الدولية، حصل على منحة للدراسة في جامعة جورج واشنطن، حيث اختاره أستاذه، الطبيب النفسي السابق في وكالة الاستخبارات، للعمل بالوكالة.

وبعد توجيه الاتهام إليه في يناير (كانون الثاني) الماضي، استقالت زوجته، رغم عدم توجيه اتهام لها، تحت ضغوط من رؤسائها في الوكالة حيث كانت كبيرة المتخصصين في الشأن الإيراني. وكان على العائلة أن تلجأ لكوبونات الطعام لعدة أشهر قبل أن تحصل على عمل جديد في آرلينغتون وانتقلوا إلى شقة مستأجرة كانت في ثلث حجم الشقة التي عاشوا فيها مع أطفالهما الثلاثة الصغار وولدين كبيرين من زيجة سابقة.

تعقدت المصاعب المالية التي يواجهونها نتيجة المصاريف القانونية لكرياكو، الذي قال إنه دفع لمحامي الدفاع أكثر من 100.000 دولار ولا يزال يدين لهم بأكثر من 500.000، ما يزيد المشهد تعقيدا هو احتمالية الإفلاس بسبب الرسوم القانونية إلى جانب المخاطرة بدخول السجن لفترة طويلة قد تفصله عن زوجته وأبنائه لعقد أو أكثر وهو ما دفعه إلى تقديم الالتماس.

ورغم الألم بسبب الاتهامات والدمار اللذين أحدثاهما للعائلة، فإنه أحيانا ما يتكلم بتوقير بالغ لوكالة الاستخبارات المركزية ومهمتها.

لكن الصفات نفسها التي أهلته للعمل في الوكالة خلال الفترة السابقة ضابط استخبارات ميدانيا، تدرب ليشكل خلية مع مجندين محتملين، ربما كانت سقطته خلال دوره بوصفه خبير استخبارات يسعى الصحافيون إلى طلب استشاراته.

وقال كرياكو: «وظيفتك بصفتك ضابطا هي تجنيد جواسيس لسرقة الأسرار؛ الواضحة والبسيطة. ينبغي لك أن تقنع الأفراد أنك أفضل أصدقائهم، ولم يكن ذلك بالأمر الهين بالنسبة لي. يمكنني القول إن نصف الأفراد الذين قمت بتجنيدهم ستمتد صداقتي معهم طوال العمر حتى وإن كان بعضهم شيوعيين أو مجرمين أو إرهابيين. أنا أحب تكوين الصداقات وأحب سماع قصصهم وإعادة روايتها»، وأضاف: «هذا يشكل عونا كبيرا إذا ما كنت ضابطا ميدانيا. لقد اتضح لي أن الأمر ليس عظيما، إن كنت ضابطا ميدانيا سابقا».

* مشاعر مختلطة

* بعد أن ظهر كرياكو للمرة الأولى على قناة «إيه بي سي» وتحدث مع براين روس ببعض التفصيل عن التعذيب عن طريق الإيهام بالغرق، حاول كثير من الصحافيين في واشنطن التواصل معه، وكنت أنا من بينهم. لقد كان أول مسؤول في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يتحدث علنا عن هذه الطريقة سيئة السمعة في التعذيب منذ محاكم التفتيش، لكن صرحت وزارة العدل بشكل سري بأنها قانونية قبل التراجع عن التصريحات بعد ذلك. ورغم أنه قضى ساعات مع أبو زبيدة بعد القبض عليه، فإنه لم يكن حاضرا عندما تم تعذيب أبو زبيدة بهذه الطريقة. وقد أوضح لي ولبعض المحاورين الآخرين ذلك. مع ذلك؛ استنادا إلى ما سمعه وقرأه في الوكالة، أخبر قناة «إيه بي سي» ومؤسسات إخبارية أخرى أن أبو زبيدة انهار بعد 30 أو 35 ثانية من هذا التعذيب واعترف للمحققين بكل ما يعرفه. وكان هذا غير دقيق، حيث تم تعذيب ذلك السجين نحو 83 مرة كما تبين بعد ذلك. ويعتقد كرياكو أنه وعاملين آخرين في وكالة الاستخبارات المركزية تعرضوا للتضليل من قبل عاملين آخرين كانوا يعلمون الحقيقة.

واكتشف كرياكو، الذي منح صحيفة «نيويورك تايمز» تصريحا لاستعراض محادثات كانت سرية في السابق، مصادفة وبطريقة ودية لطيفة ما تطلق عليه وكالة الاستخبارات المركزية «وسائل التحقيق المطورة». لقد تحدث عن حياته المهنية، حيث بدأ محللا في شؤون الشرق الأوسط بالمقر في فرجينيا، ثم انتقل للعمل في البحرين، ثم انتقل كالمعتاد للعمل في «عمليات» الوكالة، وخدم فترة مسؤولا متخفيا في مكافحة الإرهاب في اليونان، ثم في باكستان. لذا يجيد تحدث اليونانية والعربية. وعندما فجر الإرهابيون مجمع الخُبر في المملكة العربية السعودية عام 1996، مما أسفر عن مقتل 19 فردا أميركيا، وصل الانفجار إلى نوافذ شقته في البحرين التي كانت تبعد 16 ميلا وتفصلها المياه عنه. واتصل مرتين في الخارج بإرهابيين، كانوا يحاولون قتل مسؤولين غربيين.

وقال إنه حظي بفرصة التدريب على طرق التحقيق القاسية، لكنه رفض. ورغم أنه خلص إلى أن طريقة التعذيب بالإيهام بالغرق كانت بالفعل تعذيبا، فإنه شعر أن قسوة منتقدي وكالة الاستخبارات المركزية، الذين حركهم كشف جديد أوضح إتلاف المقاطع المصورة للتحقيقات، في الحكم على الإجراءات، التي اتخذت خلال الأشهر المحمومة التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، كانت غير مبررة، مشيرا إلى أن المزيد من الهجمات كانت متوقعة خلال تلك الفترة. وأوضح قائلا في حديثنا الأول: «أعتقد أن توقعات قرارات عام 2002 غير عادلة. لقد كان العالم خلال عام 2002 مختلفا تماما عن العالم عام 2007. أعتقد أنه من العدل فتح نقاش وطني حول ما إذا كان علينا استخدام طريقة الإيهام بالغرق أم لا». لقد كانت مشاعره تجاه هذه الطريقة مختلطة، حيث تصوره بعض التقارير الإخبارية خلال عام 2007 على انه منتقد للتعذيب الذي تمارسه وكالة الاستخبارات المركزية، في حين يصوره البعض الآخر على أنه مدافع عن الوكالة. وشك بعض النشطاء في مجال حقوق الإنسان أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت توجه ما يعلنه من تعليقات، لكن تبين عدم صحة هذه الشكوك في ما بعد.

وبدا كرياكو مرتكبا ومنزعجا وربما مخدرا بسبب انتشار ملاحظاته وأقواله على «إي بي سي»، وما انهال عليه من طلبات هائلة لعمل مقابلات معه. لقد تقابلنا على الغداء بضع مرات في واشنطن وتحدثنا عبر الهاتف أكثر من مرة. وحكى لي عن تجاربه في باكستان، التي سمحت له الوكالة في ما بعد بذكر بعضها في مذكراته «The Reluctant Spy» «الجاسوس المتردد» عام 2009. وأجاب عن بعض الأسئلة حول ما يعرفه عن الوكالة أو مسؤوليها رفيعي المستوى الذين عمل معهم. مع ذلك، كان يرفض الإجابة عندما يكون الموضوع حساسا جدا. ويمكنني استخدام ما أعطاني من معلومات في الخلفية دون أن أذكره، لكن علينا الاتفاق بوضوح على أي شيء أنسبه إليه. وتعد هذه هي القواعد الأساسية التي تحكم مثل هذه العلاقات. عندما بدأت العمل على مقال عن التحقيق مع خالد شيخ محمد عام 2008، سألته عن محقق سمعت اسمه وهو ديوس مارتينيز. وأخبرني أنه عمل معه للقبض على أبو زبيدة وأنه سيكون مصدرا ثريا للمعلومات عن محمد، مدبر هجمات الحادي عشر من سبتمبر. لقد كان قادرا على تتبع بطاقة التعريف التي أعطاها له مارتينيز فضلا عن معلومات اتصال أخرى في شركة «ميتشل جيسين آند أسوسياتز» التي تعاقدت معها وكالة الاستخبارات المركزية وساعدتها في ابتكار برنامج التحقيقات التي عمل بها مارتينيز بعد ذلك. وتقاعد مارتينيز، الذي تلقى تدريبات حتى يصبح محللا، ولم يعمل بشكل سري، حيث لم يعمل دبلوماسيا أو رجل أعمال في الخارج. وأتاح عنوان منزله وعنوان بريده الإلكتروني ووظيفته بصفته ضابط استخبارات والتفاصيل الشخصية الأخرى الخاصة به على موقع إلكتروني علني استخدامها من قبل الطلبة بجامعته الأم. وتم القبض على أبو زبيدة قبل ست سنوات، وعلى محمد قبل خمس سنوات، وكانت قصتيهما أبعد ما تكون عن السرية.

لم يوافق مارتينيز أبدا على التحدث معي، لكن ظهرت بعض الرسائل عبر البريد الإلكتروني مع كرياكو وأنا أفتش عن زميله القديم في اتهام كرياكو. لقد اتُهم بالكشف لي عن مشاركة مارتينيز في عملية القبض على أبو زبيدة، وهو أمر أكدت الحكومة سريته.

* توترات بسبب السرية

* لم يكن هناك في محادثاتي مع كرياكو أي شيء غير عادي بالنسبة إلى صحافي يغطي أخبار وكالات الاستخبارات، رغم أنه كان يتسم بالصراحة بين صفوف عملاء وكالة الاستخبارات السابقين. دائما ما يكون المسؤولون الحاليون أقل صراحة من المتقاعدين. وعادة ما يكون المسؤولون السابقون أكثر ترددا في الحديث عن رؤسائهم، الذين يكونون على ثقة أكبر في السير نحو حدود حماية معلومات سرية أو تخطي هذه الحدود أحيانا. لماذا يتحدث المسؤولون عن البرامج التي تبدو سرية؟ يكون الدافع أحيانا هو تضخيم الذات أو دعم مخطط شخصي أو سياسي. مع ذلك، يتحدث كثير من المسؤولين لأنهم يشعرون أن الأميركيين لديهم الحق في معرفة ما تفعله الحكومة بأموالهم وباسمهم، وإن كان ذلك في حدود. هناك اتفاق واسع النطاق داخل الحكومة على وجود كثير من المعلومات التي تحاط بالسرية، وحتى المسؤولون رفيعو المستوى لا يكونون على يقين أحيانا بما ينبغي أن يكون سرا.

على سبيل المثال أقر مايكل هايدن، الذي تولى رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية منذ عام 2006 حتى عام 2009، في شهادة له أمام مجلس الشيوخ خلال شهر يوليو (تموز) الماضي، باضطرابه وارتباكه بسبب «المعضلة» المتعلقة بما يجوز ولا يجوز له أن يقوله بشأن استهداف عناصر تنظيم القاعدة بالطائرات التي تعمل من دون طيار في تلك المرة، فمثل هذه المعلومات تصنف رسميا بأنها سرية، لكن يتم تداولها عبر وسائل الإعلام يوميا وأحيانا يتطرق إليها أوباما.

وقال هايدن: «نظرا لتداول كثير من تلك الأمور، بصفتي شاهدا، ورغم خبرتي، من غير الواضح لي ما الذي يجوز لي أن أناقشه علنا مما أعرفه شخصيا عن هذا الأمر. هكذا أصبح الوضع مربكا ومشوشا».

ليست التنازلات من أجل الحصول على شيء والتوترات بشأن أسرار الحكومة في دولة ديمقراطية بالأمر الجديد؛ ففي عام 1971 عندما لجأت إدارة نيكسون إلى المحكمة في محاولة لمنع صحيفة «نيويورك تايمز» من نشر أوراق خاصة بوزارة الدفاع الأميركية تتضمن معلومات سرية عن حرب فيتنام، أدلى ماكس فرانكل، مدير مكتب الصحيفة في واشنطن آنذاك، بشهادة مشفوعة بقسم حول كيفية تبادل المسؤولين الأسرار مع الصحافيين.

وكتب فرانكل منذ 42 عاما: «من دون استخدام (الأسرار) التي سأحاول أن أوضحها في شهادتي المشفوعة بقسم، لم يكن ليوجد ما يكفي من الأخبار الدبلوماسية والعسكرية والسياسية التي يتعامل معها الناس كأنها أمر مسلم به سواء في الخارج أو في واشنطن. كذلك لم يكن ليوجد نظام متقدم من الاتصالات بين الحكومة والناس». وقبل تولي أوباما منصبه رئيسا للولايات المتحدة، كانت القضايا المطالبة بكشف معلومات سرية للإعلام نادرة. وكانت هذه حقيقة تبعث الراحة في نفوس الصحافيين الذين يغطون أخبار الأمن القومي ومصادرهم، لكنها تدعو للحسرة في نفوس مسؤولي الاستخبارات الذين يشكون من آثار تسريب المعلومات السلبية على العمليات الاستخباراتية وتعريضها حياة العناصر الاستخباراتية الأميركية والمخبرين للخطر والتسبب في توتر العلاقات مع استخبارات الدول الحليفة.

طبقا لأغلب الإحصاءات، لا يوجد سوى ثلاث قضايا حتى هذه اللحظة؛ إحداها ضد دانييل إيلسبيرغ وزميل لتسريب أوراق خاصة بوزارة الدفاع عام 1971، والثانية ضد صامويل لورينغ موريسون، محلل الاستخبارات البحرية، على خلفية بيع صور سرية التقطت بالقمر الاصطناعي إلى «جينز»، الناشر العسكري، عام 1985. أما الثالثة فضد لورانس فرانكلين، مسؤول في وزارة الدفاع، اتُهم عام 2005 بالكشف عن أسرار لمسؤولين اثنين في مجموعة ضغط تعمل من أجل دعم إسرائيل كشفا عنها بدورهما لبعض الصحافيين. لذا تضاعف عدد القضايا من هذا النوع خلال فترة حكم أوباما مقارنة بعددها خلال فترات حكم الرؤساء السابقين جميعا، رغم أن التحقيقات الخاصة باثنتين على الأقل من الستة، التي شهدناها منذ عام 2009، بدأت خلال فترة حكم بوش. ودفع الغضب من سلسلة من حالات الكشف عن معلومات سرية خاصة بهجمات إلكترونية أميركية ضد إيران، وعميل مزدوج اخترق تنظيم القاعدة في اليمن، والقتل بالاستهداف، خلال العام الماضي هولدر إلى فتح تحقيقات جديدة عن تسريبات، لكنها لم تسفر عن أي اتهامات حتى الآن.

واستنكر صحافيون ومنادون بتبني الحكومة نهجا صريحا ما نتج عن هذا من فتور في رغبة المسؤولين في الحديث، حيث أشاروا إلى أنه من دون التسريبات، لم يكن ليعرف الأميركيون أي شيء عن طرق التحقيق داخل وكالة الاستخبارات المركزية أو ما تقوم به هيئة الأمن القومي من تنصت من دون إذن. على الجانب الآخر، يعد هذا الفتور هو بالضبط هدف مؤيدي إحاطة المعلومات بالسرية.

* الكشف عن اسم

* من وثائق المحكمة والمقابلات، يمكن تجميع المعلومات المتعلقة بالمنحى الذي اتخذته الدعوى المقامة ضد كرياكو. حينما تحدث لأول مرة إلى محطة «إيه بي سي» في عام 2007، أرسلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «تقرير جرائم» لوزارة العدل؛ وهي خطوة روتينية لتنبيه مسؤولي تطبيق القوانين إلى كشف واضح غير مصرح به عن معلومات سرية. أرسلت ستة خطابات إحالة إضافية على الأقل إلى وزارة العدل مع استمراره في إجراء مقابلات تغطي الموضوع نفسه.

بعد فترة قصيرة من تحوله إلى نجم إعلامي ثانوي، فقد كرياكو وظيفته في مجال استخبارات الأعمال في شركة الاستشارات العالمية «ديلويت» التي انضم إليها بعد ترك وكالة الاستخبارات المركزية. علاوة على ذلك، فقد بدأ أيضا العمل مع صناع السينما في هوليوود؛ على سبيل المثال، قام بزيارة أفغانستان قبل إسداء النصيحة لمنتجي فيلم «عداء الطائرة الورقية» بضرورة نقل الممثلين الشباب فيه إلى خارج الدولة لدواع أمنية. كان يعمل مع صحافي محنك، هو مايكل روبي، في كتابة مذكراته ويخوض معركة مع مجلس مراجعة المنشورات التابع للوكالة، مثلما فعل العديد من كتاب وكالة الاستخبارات المركزية، حول المسموح له بالكتابة عنه والمحظور تناوله.

وقال ريزو، الذي كان وقتها محاميا رفيع المستوى بالوكالة، إنه يتذكر انزعاج بعض الزملاء من أن كرياكو قد بدأ الحديث على الملأ عن برنامج الاستجواب. يقول ريزو: «كان أمرا مخزيا جدا؛ حديث ضابط سابق بالوكالة أمام الكاميرات». وأضاف: «بدأ يتم الاستشهاد بأقواله في المكان. كان يدلي بتعليقات حول الموضوعات كافة».

بالطبع، تمتع كرياكو بصحبة كبيرة. كان المزيد والمزيد من المتقاعدين من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يؤلفون كتبا أو يتحدثون إلى مراسلين صحافيين أو يظهرون على شاشات المحطات التلفزيونية. وأصبح ريزو نفسه موضوع خطاب إحالة مرسل من وزارة العدل عقب حديثه إلى أحد مراسلي «نيوزويك» في عام 2011 عن هجمات بطائرات من دون طيار، ومن المزمع نشر مذكراته التي تحمل عنوان «رجل الشركة» في العام المقبل.

وقال ريزو إنه لم يصدق أن ظهور كرياكو في وسائل الإعلام كان المحرك لإجراء تحقيق جنائي جاد. وقال: «لم تكن هناك في حقيقة الأمر حملة ضده».

بعدها، في عام 2009، فزع مسؤولون لاكتشافهم أن محامي دفاع عن محتجزين بمعتقل غوانتانامو بكوبا قد حصلوا على أسماء وصور لمحققين بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وغيرهم من ضباط مكافحة الإرهاب، بعضها لا يزال محاطا بالسرية. وتبين أن المحامين الذين يعملون تحت اسم «جون آدمز بروجكت» أرادوا الإشارة إلى ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بوصفهم شهودا في محاكمات عسكرية في المستقبل، ربما لتبرير روايات التعذيب أو المعاملة القاسية.

غير أن المخاوف الأولية من احتمال أن يكون تنظيم القاعدة قادرا إلى حد ما على ملاحقة آسريه السابقين حظيت بتغطية واسعة النطاق. في هذه المرة، كان هناك تقرير جرائم، على حد قول ريزو، الذي تم أخذه على محمل الجدية بكل من وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة العدل.

اكتشف عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أن ناشطا حقوقيا تم تعيينه من خلال مشروع «جون آدمز بروجكت»، هو جون سيفتون، قد جمع ملفا يضم صورا وأسماء لضباط بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية؛ وأن سيفتون قد تبادل رسائل بريد إلكتروني مع صحافيين، من بينهم ماثيو كول، الصحافي الحر الذي كان يعمل في ذلك الوقت في كتاب عن إحدى قضايا وكالة الاستخبارات المركزية المتعلقة بتسليم المشتبه بهم في إيطاليا والتي خرجت عن المسار الصحيح؛ وأن كول قد تبادل رسائل بريد إلكتروني مع كرياكو. استخدم مكتب التحقيقات الفيدرالي أوامر التفتيش في الدخول على حسابي البريد الإلكتروني الشخصيين لكرياكو.

وبحسب مستندات المحكمة، اكتشف عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه في أغسطس (آب)، سأل كول، الذي تمت الإشارة إليه برمز «صحافي A» في مستندات الاتهام، كرياكو عما إذا كان يعرف اسم عميل سري لعب دورا إشرافيا في برنامج تضمن اعتقال مشتبه في ارتكابهم جرائم إرهابية والزج بهم في السجون بالدول الأخرى.

قال كرياكو في البداية إنه لا يتذكر هذا الاسم، غير أنه أرسل في اليوم التالي رسالة بريد إلكتروني تحمل الاسم وأضاف فيها: «تذكرته الليلة الماضية»، حسب ما أظهرت المستندات. (رفض سيفتون وكول والمدعون العموميون الفيدراليون جميعا التعليق).

وفي مقابلات أجريت معه مؤخرا، قال كرياكو إنه يعتقد أن العميل السري، الذي كانت آخر مرة شاهده فيها في عام 2002، قد تقاعد؛ في حقيقة الأمر، كان العميل في تلك الفترة يعمل بالخارج. ولم تكن لديه أدنى فكرة أنه سيتم نقل الاسم إلى محامي دفاع غوانتانامو لينتهي به الحال إلى ملف حكومي، مثلما حدث، على حد قوله.

حينما دعا عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي كرياكو إلى مكتبهم في واشنطن قبل عام «لمساعدتهم في إحدى القضايا»، حسب ما ذكر، سألوه مرارا وتكرارا عما إذا كان قد كشف بشكل مقصود عن اسم عميل سري. وأجاب بأنه لا يتذكر أنه فعل ذلك؛ وما زال يؤكد على أن تلك هي الحقيقة.

وقال كرياكو: «لو لم أكن قد عرفت أن الشخص ما زال يدخل في نطاق السرية، لما ذكرته مطلقا».

لم يظهر اسم العميل للعلن خلال السنوات الأربع التي تلت إرساله من قبل كرياكو إلى كول. ظهر على موقع إلكتروني متخصص في كشف التجاوزات والخروقات لأول مرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولم يكن مصدره معروفا.

في ظهيرة أحد الأيام الباردة القريبة، قاد كرياكو سيارته الـ«هوندا» لاصطحاب ابنه ماكس، 8 سنوات، وابنته كيت، 6 سنوات، من المدرسة، تاركا ابنته الصغرى تشارلي التي يبلغ عمرها 14 شهرا في المنزل مع جليسة أطفال.

لقد كافح هو وزوجته كي يخبرا أطفالهما بأنه سيرحل، ربما في منتصف فبراير (شباط) المقبل. واستقر رأيهما على أن يحدثا الأطفال قائلين إن «أباهما قد خسر معركة كبيرة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي»، وأنه سيتعين عليه أن يعيش في مكان آخر لفترة. بكى ماكس لدى سماعه هذا الخبر، على حد قول كرياكو. وبكى مجددا بعد إدراكه أن موعد عيد ميلاده سيكون في أحد أيام العمل، ومن ثم، سيكون من المستحيل أن يقوم برحلة إلى السجن لمشاركة الاحتفال مع والده.

لقد أصبحت إعادته أبناءه من المدرسة إلى المنزل عادته الروتينية المفضلة منذ أن تقاعد من العمل. انتهت فترة عمله محققا لحساب لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ قبل أن توجه له الاتهامات؛ وقام صندوقا تحوط كانا قد تعاقدا معه لتقديم الاستشارات في ما يتعلق بقضايا الأمن الدولي بإسقاط اسمه عندما وجهت إليه الاتهامات.

كانت «ليبرتي يونيفيرستي»، المؤسسة المسيحية المحافظة التي أسسها جيري فالويل في لينشبورغ بولاية فيرجينيا، حيث تم تعيين كرياكو من قبل ضباط سابقين بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالكلية لتدريس دورات في الاستخبارات، هي فعليا المؤسسة التي زادت حجم العمل الذي قدمته له وقت مواجهته تلك الأزمة.

«يقولون إن التعذيب ضد المسيحية»، هكذا تحدث كرياكو، الذي أشار إلى أن أقوى مؤيديه الآن يضمون مسيحيين من «ليبرتي يونيفيرستي» ومجموعة من النشطاء المنتمين لليسار.

في الصيف الماضي، كان كرياكو يقوم بتدريس برنامج تدريبي عملي عن المراقبة والمراقبة المضادة لمجموعة من طلاب «ليبرتي» في واشنطن وجعلهم يتبعونه سيرا على الأقدام إلى الجانب الشرقي من جورج تاون، على حد قوله. وبعد عبور أكثر من مرة، أخبره الطلاب بحماسة شديدة أنهم قد تعقبوا عدة سيارات كانت تتبعه أيضا.

حينما اعترف كرياكو في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بكشفه عن اسم العميل السري، قامت الحكومة بإسقاط عدة اتهامات أخرى، من بينها الإفشاء لصحيفة «نيويورك تايمز» وادعاء بأنه قد خدع مجلس مراجعة المنشورات التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، على الرغم من أن تلك الانتهاكات تظل في بيان رسمي بالحقائق يصاحب الدعوى.

ويتوقع أن يتم إرساله إلى معسكر السجناء الفيدرالي الذي يخضع لأدنى حد من الإجراءات الأمنية في منطقة لوريتو الريفية بولاية بنسلفانيا، حيث سيضم نزلاؤه مسؤولين فاسدين (تضمن النزلاء في السنوات الأخيرة حاكم ولاية كونيكتيكت وعضو بمجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك) ومرتكبي جرائم مخدرات غير عنيفة (من بينهم في الوقت الحالي كاميرون ابن الممثل مايكل دوغلاس).

وقال إنه من دون توضيح، قام محاموه في «تراوت كاتشريس» شركة الدفاع الجنائي الكائنة في واشنطن، بخفض قيمة فاتورته الحالية المعلقة من أكثر من 700 ألف دولار إلى 492.264.16 دولار. كتبت إليه الشركة: «سوف نقدر أي جهود يمكنك أن تقوم بها من أجل تقليل المبلغ الحالي».

غير أن الفاتورة مستمرة في الزيادة: بند حديث: 1500 دولار لثلاث ساعات عمل - غداء حضره أحد محاميه مع كرياكو وأستاذ محلي قضى وقتا في لوريتو لسرقة أموال أبحاث حكومية، بحيث يتسنى له التعرف بشكل مباشر على نمط الحياة داخل معسكر السجناء.

* خدمة «نيويورك تايمز»