عتيقة: الليبيون صاروا يكرهون فكرة «السلطة» التي اختلطت في أذهانهم بـ«السلطان»

النائب الأول لرئيس البرلمان الليبي في حوار مع «الشرق الأوسط»: الرمزية العالية لبنغازي تسببت في الانفلات الأمني

TT

قال جمعة أحمد عتيقة، النائب الأول لرئيس المؤتمر الوطني العام (البرلمان) في ليبيا إن الليبيين بعد تحررهم من سلطة استبداد مقيت، وخروجهم من قبضة خانقة، صاروا يكرهون فكرة «السلطة» التي اختلطت في أذهانهم بفكرة «السلطان» التي كان يمارسها العقيد معمر القذافي «وهذا أمر قد يبدو طبيعيا في سياقاته النفسية، ولكنه خطير في تداعياته السياسية»، موضحا أن «السلطة بضوابطها وأطرها القانونية هي ضرورة لقيام الدولة»، مشيرا إلى أن محاولة هدمها أو إلغائها أو التعدي عليها بغرض إضعافها ستخلق فراغا ربما ملأته جهات وتشكيلات تعمل لحسابها الخاص، وربما أفضى إلى متاهة الفوضى.

وذكر عتيقة وهو نائب مستقل عن مدينة مصراتة، في حوار مع «الشرق الأوسط» أن المؤتمر لم يؤجل النظر في طرح مسألة الدستور. وقال: «هناك عقبات وإرباكات واجهت المؤتمر منذ اليوم الأول؛ بسبب غياب دور الحكومة «الانتقالية» عن أداء دورها. عندما قيل للحكومة (بنص الإعلان الدستوري) إنها حكومة تسيير أعمال، فسرت ذلك تفسيرا خاطئا، وغابت عن ساحة الفعل التنفيذي، وصارت تلملم أوراقها وتستعد للرحيل. فانهالت علينا المطالب والاحتجاجات والاقتحامات والطلبات ذات الطابع التنفيذي». كل ذلك والحكومة تتفرج علينا ولسان حالها يقول «اللهم لا شماتة»، يضيف عتيقة.

وبشأن مثول المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي السابق أمام المحكمة ومنعه من السفر بسبب قضية مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، قال عتيقة إن مثول المستشار عبد الجليل أمام المحكمة هو أمر يسجل له، ويدل على أن الرجل واثق من موقفه، ولا يرى نفسه فوق القانون. لكنه أشار إلى الاعتراض على الخلل في إجراءات التحقيق المعيبة، والمظاهر المخالفة لمعايير المحاكمة العادلة التي بدرت من هيئة التحقيق، مما أفقدها الاعتبار والحيادية، وصار تحقيقها للعدالة محل شك كبير.

وشدد على أن عبد الجليل يسكن وجدان الليبيين وقلوبهم بموقفه الوطني الناجح، ووجدان وقلوب الشعوب لا تصلها ألسنة النيران.

وتحدث عتيقة عن عدد من قضايا الساعة في ليبيا.

وعتيقة شاعر، وكاتب، ومحام تشهد له المحاكم الليبية دفاعه عن معارضي نظام العقيد معمر القذافي، ونشطاء حقوق الإنسان، وهو أيضا معارض سياسي عرفته المنافي، وعانى مع غيره من المناضلين محنة السجن الأليمة، وكان من شهود مذبحة سجن أبو سليم عام 1996، وتحدث عن تلك التجربة القاسية في مذكراته «في السجن والغربة» الصادرة عن «دار الرواد» 2012. وفي ما يلي نص الحوار.

* باعتبارك من رجال المعارضة لنظام القذافي وسجينا سابقا وحقوقيا وناشطا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والآن نائبا أول لرئيس المؤتمر الوطني العام.. ما تقييمك لمسيرة ثورة 17 فبراير (شباط) لبناء الدولة الليبية الجديدة.. ماذا تحقق وماذا لم يتحقق؟

- ثورة 17 فبراير.. اختزنت عذابات ومعاناة الشعب الليبي طوال عقود من الاستبداد، وحينما حانت اللحظة التاريخية التي يسميها نيتشه «مكر التاريخ» تفجرت فعلا بطوليا وفدائيا، ونجحت بتضحيات غير مسبوقة، وفي وجه آلة حربية شرسة، أما «مسارها» فهو محفوف بالتحديات والمخاطر، وفي الوقت ذاته مفعم بالآمال العريضة في صنع أول تجربة ديمقراطية في ليبيا.. إن الطريق ما زال شائكا، ومرحلة الانتقال بطبيعتها شاقة، ولا يضطلع بها إلا ذوو العزم من الرجال.

* هل تؤيد أو تعارض وضع قانون العزل السياسي؟

- المسألة ليست في التأييد أو الرفض لقانون العزل السياسي.. ولكن يظل السؤال هو: ما الغاية المبتغاة من القانون إذا كانت إصلاح المؤسسات وتنقية الأجواء السياسية مما شابها من هواء فاسد وسموم مدمرة طيلة عقود من الزمن؟ فهذا أحد الموجبات الرئيسية للعدالة الانتقالية؛ إذ لا يمكن أن يتحقق التغيير في الاتجاه الصحيح، وهو هدف الثورة، بثقافة وسلوكيات وممارسات من كانوا جزءا من النظام السابق وساهموا في تكريس الاستبداد.

الشرط الوحيد هو أن تكون المعايير موضوعية تهدف إلى إدانة السلوك والأداء والدور الذي قام به الأشخاص الذين عملوا مع النظام السابق، وأن يبتعد عن الاستهدافات الإقصائية وتصفية الحسابات السياسية والشخصية؛ لأن ذلك سينجم عنه نتائج خطيرة جدا وسيعيق مسيرة بناء الدولة الجديدة.. فنظام حكم امتد لأربعة عقود بشموليته واحتكاره وبشاعته لا يمكن تجاوز آثاره بإشاعة روح الانتقام والتشفي من دون ضوابط ومعايير عادلة تحسم ولا تظلم.. تبني ولا تهدم.

* يرى البعض أن عدم وجود تحديد واضح لصلاحيات رئيس المؤتمر الوطني العام (البرلمان) سبب الكثير من الإرباك للحكومة.. ما قولك؟

- صلاحيات رئيس المؤتمر الوطني العـام منصوص عليها في النظام الداخلي للمؤتمر؛ مادة 6 على سبيل الحصر.. وما أشرت إليه ربما سببه الإعلان الدستوري الذي ربما أعطى اختصاصات للمؤتمر الوطني العام لها طابع تنفيذي (تعيين السفراء والمناصب السيادية)، وهو أمر لا يمثل إشكالية كبيرة، ومعمول به في بعض الأنظمة الدستورية في العالم..

وتجب الإشارة إلا أن الليبيين بعد تحررهم من سلطة استبداد مقيت، وخروجهم من قبضة خانقة.. صاروا يكرهون فكرة «السلطة» التي اختلطت في أذهانهم بفكرة «السلطان» التي كان يمارسها القذافي، وهذا أمر قد يبدو طبيعيا في سياقاته النفسية، ولكنه خطير في تداعياته السياسية؛ إذ إن السلطة بضوابطها وأطرها القانونية هي ضرورة لقيام الدولة.. ومحاولة هدمها أو إلغائها أو التعدي عليها بغرض إضعافها ستخلق فراغا ربما ملأته جهات وتشكيلات تعمل لحسابها الخاص، وربما أفضى إلى متاهة الفوضى.

* لماذا يؤجل المؤتمر الوطني العام النظر في طرح مسألة الدستور؟ ولماذا يسعى أيضا إلى تفادي إجراء انتخابات لاختيار لجنة الستين؟ - المؤتمر لم يؤجل النظر في طرح مسألة الدستور.. هناك عقبات وإرباكات واجهت المؤتمر منذ اليوم الأول؛ بسبب غياب دور الحكومة «الانتقالية» عن أداء دورها. عندما قيل للحكومة (بنص الإعلان الدستوري) إنها حكومة تسيير أعمال، فسرت ذلك تفسيرا خاطئا، وغابت عن ساحة الفعل التنفيذي، وصارت تلملم أوراقها وتستعد للرحيل. فانهالت علينا المطالب والاحتجاجات والاقتحامات والطلبات ذات الطابع التنفيذي.. كل ذلك والحكومة تتفرج علينا ولسان حالها يقول «اللهم لا شماتة».

موضوع الدستور أساسي، ونحن نعالج إشكالية التعديل الدستوري الذي صدر يوم 5 يوليو، أي أثناء العملية الانتخابية، حيث إن الليبيين في الخارج قد أدلوا بأصواتهم يوم 3 يوليو، وجاء معيبا من الناحية الشكلية باعتراف السيد مصطفى عبد الجليل في إحدى مقابلاته الصحافية.. هذا التعديل نص على «الاقتراع المباشر» لاختيار لجنة الستين.. ونحن شكلنا لجنة تقود الحوار المجتمعي بدأت أعمالها للتشاور مع كافة أطياف المشهد السياسي والمجتمع المدني وكافة المواطنين لأخذ رأيهم.. ثم بعد ذلك تقرر الإبقاء على التعديل أو إلغاءه بما يوافق آراء الناس.

وأود الإشارة أيضا إلى أن هناك طعنا أمام المحكمة العليا بعدم الدستورية بالخصوص.. وربما تقول المحكمة حكمها في الفترة القصيرة المقبلة.

* يرى البعض أن مثول المستشار عبد الجليل أمام المحكمة ومنعه من السفر بسبب قضية مقتل اللواء عبد الفتاح يونس ليس إلا محاولة لحرق الرجل سياسيا، في حين أن الجناة يسرحون ويمرحون في الشوارع دون أن يتعرض لهم أحد.. فماذا تقول بشأن ذلك؟ - بداية مثول المستشار مصطفى عبد الجليل أمام المحكمة هو أمر يسجل له، ويدل على أن الرجل واثق من موقفه ولا يرى نفسه فوق القانون.. لكن الاعتراض على الخلل في إجراءات التحقيق المعيبة، والمظاهر المخالفة لمعايير المحاكمة العادلة التي بدرت من هيئة التحقيق، مما أفقدها الاعتبار والحيادية، وصار تحقيقها للعدالة محل شك كبير. ومعروض الآن أمام المؤتمر تعديل في قانون الإجراءات العسكرية لا يسمح بأن يمثل شخص مدني أمام القضاء العسكري، وحتى إن وجد معه عسكريون متهمون فالقاضي الطبيعي (القضاء المدني) هو صاحب الاختصاص؛ لأن قانون العقوبات والإجراءات العسكرية تجعل من القضاء العسكري قضاء استثنائيا. وبخصوص مسألة «الحرق السياسي» أقول إن مصطفى عبد الجليل يسكن وجدان الليبيين وقلوبهم بموقفه الوطني الناجح، ووجدان وقلوب الشعوب لا تصلها ألسنة النيران.

* لماذا لم تتم محاسبة حكومة الكيب عن الأموال التي صرفت من خزينة الدولة دون بناء طوبة واحدة؟ ولماذا تم تجاهل التصريحات التي أدلت بها وزيرة الصحة بهذه الخصوص؟

- المحاسبة أمر حتمي لكل المسؤولين.. وعندما تم تسليم حكومة الكيب لمهامها وتسلم الحكومة الجديدة، شكلت لجنة للتسليم والتسلم.. تشكلت من ديوان المحاسبة، ومصرف ليبيا المركزي، وأعضاء آخرين بصفاتهم، تقوم الآن على فحص مستندات الحكومة، وإذا ما تبين أن هناك مخالفات تستوجب المحاسبة أو أفعالا تشكل جرائم تتعلق بالمال العام، أو أي ممارسات أخرى، ستحال إلى القضاء ليقول كلمته فيها.

* كيف الخروج من مأزق الميليشيات المسلحة التي ترفض بعناد تأسيس جيش ليبي وجهاز أمني؟ وكيف يمكن تأسيس نظام ديمقراطي في وجود جماعات سياسية مسلحة ترفض الديمقراطية شكلا وموضوعا؟ - مشكلة السلاح أفرزتها حرب طاحنة فرضها القذافي وقبل الشعب الليبي التحدي وحمل السلاح.. بعد نجاح الثورة كان من الطبيعي أن نواجه هذه المشكلة، دون خوض في التفاصيل.. كل هذه التشكيلات المسلحة إذا ما رفضت الانصياع للشرعية التي فرضها وأرادها الشعب الليبي من خلال انتخابات حرة نزيهة شهد لها العالم، يبقى مصيرها الزوال؛ لأنه ليس لأحد مهما كانت مبرراته أن يقف ضد إرادة الناس.. الآن هناك خطوات واثقة لبناء الجيش ومؤسسات الأمن.

* الانفلات الأمني والاغتيالات التي تتم والانفلات الأمني، وخاصة في الجزء الشرقي من البلاد، بشكل يومي، وعجز الحكومة عن مواجهة ما يحدث وإيقافه.. بماذا تفسرونه؟

- الانفلات الأمني والاغتيالات التي تشهدها المنطقة الشرقية وتحديدا «بنغازي» لها أسباب، لعل من أهمها الرمزية العالية التي تمثلها بنغازي في مسيرة الثورة الليبية.. كذلك الخطأ التاريخي الذي ارتكب في حقها، وذلك بالانتقال المفاجئ والسريع وغير المدروس للمجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي إلى طرابلس عقب التحرير؛ فبعد أن كانت بنغازي مركز الحدث وحاضنته.. صارت تعاني فراغا فجائيا، وكان لا بد أن تملأ هذا الفراغ قوى أخرى.. كمراكز نفوذ وقوة تعمل لحسابها الخاص. ولكنني أحيلك إلى إجابة السؤال السابق، فالباقي هو إرادة الناس التي عبروا عنها في بنغازي وغيرها عدة مرات، وعنوان هذه الإرادة «نريد دولة العدل والقانون»، «لا للخروج عن الشرعية»، وهي ضمانات في رأيي مهما بدا السبيل وعرا وشائكا لدى البعض.

* هل اللجنة الأمنية العليا المؤقتة ستكون دائمة؟ - اللجنة الأمنية ليست دائمة، بل بدأت بالفعل خطوات فاعلة وفعالة لضم عناصر اللجنة الأمنية لمؤسسات الدولة الأمنية، وأعضاء اللجنة الأمنية من الشباب الثوار «الحقيقيين» هم أحرص الناس على الانخراط وبناء المؤسسات الأمنية.

* يقول البعض في ليبيا إن نهب المال العام ما زال ساري المفعول وكأن شيئا لم يحدث! - إن ليبيا في عهد القذافي لم تكن دولة بها فساد، بل كانت دولة فاسدة، وهذا خلق مناخا وثقافة تستبيح المال العام وتنتهك حرمته. ما زالت للأسف ذيول ومؤثرات هذه الثقافة سائدة، ولا بد لإنجاح وبلوغ غايات بناء الدولة من التصدي «لسرطان المال العام»، وخلخلة الثقافة السائدة، وردع الممارسات الإجرامية المتعلقة بالمال العام بكل قوة وحزم.

* طيلة 4 عقود حظر القذافي على الشعب الليبي التفكير خارج نطاق كتابه الأخضر، والآن برزت جماعات تحظر على الناس التفكير وتحرم التمتع بجماليات الفن والإبداع. ما قولك؟ وهل ترى إمكانية التعامل مع هذه الجماعات؟ - معالجة النظام السابق الأمنية الإجرامية وتعامله مع مخالفيه بالبطش والتنكيل، ساهما في خلق مواقف تماهت مع النظام السابق، من حيث رفضها للآخر وادعاء ملك الحقيقة، ولا تؤمن بالاختلاف، وتخلط في مسألة الدين «بين أحكام التنزيل وأهواء التأويل».. ويقيني أنه لا سبيل للتعامل مع كل مظاهر التطرف والغلو إلا بالحوار، والحوار وحده.

* من خلال وجودك في المؤتمر الوطني العام.. هل أنت راض عن عمل المؤتمر؟ وهل مستوى النقاش والقضايا المطروحة يشعرك بالقلق أم بالرضا؟ - أولا، أنا شخصية قلقة بطبيعتها، ومصدر قلقي العام هو نشدان الأفضل.. فلم أشعر في يوم الأيام بأنني راض عن نفسي أو عمل عملته أو نص كتبته. دائما أرى أن الأفق مفتوح على التطور والتطوير الذي هو سنة من سنن الله.. ولعل في ذلك إجابة عن سؤالك. وكما يقول أحد المفكرين الكبار «التجربة محك الحقيقة».