غموض يكتنف أبرز زعيم في شمال مالي المضطرب

إياد غالي تحول من قنصل إلى متشدد.. والقذافي لعب دورا كبيرا في صعود مسيرته

إياد غالي (أ.ف.ب)
TT

في نهاية خمسينات القرن الماضي خلال المفاوضات بين الماليين والفرنسيين بشأن استقلال مالي عن فرنسا؛ كتب قادة الطوارق إلى الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديغول «إن الطوارق ينوون منطقة انفصالية في شمال البلاد»، وعندما رفض الفرنسيون الطلب، اندلعت حركة تمرد حقيقية.

في تلك الأجواء ولد إياد أغ غالي في منطقة كيدال بشمال مالي؛ وهو يتحدر من أسرة أفاقوس وهي أسرة عريقة في الطوارق. كانت منطقة الشمال؛ في ذالك الوقت؛ مزدهرة نتيجة التنمية الحيوانية؛ قبل أن تصاب بجفاف قاس دمر الحياة في المنطقة، مما أفضى بالسكان إلى الهجرة إلى بلاد نائية وصل مداها إلى تشاد وليبيا. وقد استغل معمر القذافي فرصة الهجرة الطوارقية من الشمال فأنشأ جيشا مستقلا من مكونات الطوارق وسماه «الكتيبة الإسلامية». انضم إياد غالي إلى هذه الكتيبة بداية الثمانينات فأظهر شجاعة فائقة؛ مما حدا بالقذافي إلى إرساله إلى لبنان لقتال الكتائب المسيحية، كما اشترك في حرب تشاد قبل أن يعود إلى مالي عندما أعلن القذافي حل الكتيبة الإسلامية؛ لكنه ما لبث أن عاد إلى مالي وساهم في التمرد العسكري 1990 وأصبح من القيادات المتميزة في حركة التمرد وهو الذي قاد الهجوم النهائي للحركة الوطنية من أجل تحرير أزواد ضد القوات المالية في مدينة ماناكا في 28 يونيو (حزيران) 1990.

ساهم غالي في مفاوضات المصالحة التي رعتها الجزائر وأفضت إلى اتفاقيات تمنراست بجنوب الجزائر (1991) التي كان ضمن بنودها إقامة اللامركزية في شمال مالي واستيعاب مقاتلي الطوارق في الجيش المالي إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار بعض المناوشات في بعض أجزاء شمال مالي.

وبعد ذلك أسس إياد غالي «الحركة الوطنية لأزواد» التي تضم الجناح المعتدل من الطوارق وتحالف مع الجيش المالي في القضاء على العناصر الراديكالية؛ وأصبح مقربا من السلطات المالية؛ إلا أنه فيما بعد، اقترب من «جماعة الدعوة والتبليغ» الدينية في نهاية التسعينات. صار حينها يقضي أغلب أوقاته في المساجد، ويعترض عن مصافحة النساء وفرض الحجاب على زوجته مع تنامي شعوره لمعاداة الغرب؛ خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 إلا أنه كان يرفض فكر الحركات الجهادية المسلحة؛ ولعل ذلك هو السبب الرئيسي الذي حدا بالغرب إلى عدم وصفه بـ«المتطرف»، لكنه بقي يؤدي دورا مهما كوسيط ناجح لتحرير الرهائن الذين تمسك بهم حركة الجهاد والقتال التكفيرية. ويقال: إنه لعب دورا في إطلاق سراح السياح الأوروبيين المختطفين في الجزائر في عام 2004.

وعندما اندلعت حركة التمرد في شمال مالي مجددا في عام 2006. كلفه الرئيس السابق توماني توري بالمفاوضات مع الطوارق وقد أفضت تلك المفاوضات إلى اتفاقيات الجزائر في أغسطس (آب) 2006، وفي 2007 عينه الرئيس مستشارا قنصليا بجدة بالمملكة العربية السعودية لكنه رجع 2010 بعد ما برزت شبهات ارتباطه بتنظيم القاعدة. تم إبعاده إلى بلده الأصلي وعاد إلى أداء دوره السابق كوسيط في تحرير الرهائن وقد أصبح غنيا. وفي 2011 انفصل عن «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»؛ وأنشأ حركة «أنصار الدين» وأصبح مسيطرا على الأرض بالتحالف مع الحركات الجهادية.

وفي أول تحرك عسكري له منذ أن غير قناعاته الفكرية والآيديولوجية قام إياد غالي بالهجوم على مدينة اغيلهوك في أقصى الشمال المالي حيث توجد قاعدة عسكرية محصنة تابعة للجيش سيطر عليها؛ ولاحقا صعدت جماعته عملياتها العسكرية وكثفت هجماتها ضد ثكنات الجيش المالي حيث هاجم رتلا من السيارات على متنها راجمات صواريخ ومدافع ثقيلة قاعدة تساليت العسكرية. وبعد نجاح تلك العمليات العسكرية، أعلن إياد غالي عزمه تطبيق الشريعة في المناطق الخاضعة لسيطرة حركته، وأسس مجالس محلية تسير شؤون المدن والبلدات التي سقطت في يد مقاتليه.

وقد شكلت تلك الهجمات بداية التمرد المسلح الأخير في شمال مالي، والذي تعزز مع الانقلاب الذي شهدته باماكو في مارس (آذار) 2012 وسقوط نظام القذافي في ليبيا. ومن حينها، باتت حركة إياد غالي (أنصار الدين) تسيطر مع جماعتين مسلحتين أخريين، على شمال مالي.

يطلق على إياد أغ غالي لقب «ثعلب الصحراء»، وينظر إليه على أنه الرجل الأكثر نفوذا وقوة في صحراء أزواد المترامية الأطراف. وقال محمد ولد عبد الله، أحد أعيان مدينة تمبكتو لـ«الشرق الأوسط» عبر الهاتف متحدثا عن إياد أنه الحاكم الفعلي للمدينة يصدر الأوامر ويتسابق الرجال لتنفيذ مهامه والجماعات الإسلامية الأخرى المتواجدة في المدينة هو من يحدد لها الأدوار التي تقوم بها. وقال زعيم آخر من المدينة طلب عدم الكشف عن اسمه لـ«الشرق الأوسط» إن الكثيرين في أزواد يستغربون كيف تحول إياد من «رجل ظريف ومستهتر يبدد الأموال ومقبل على الحياة وغارق في الملذات إلى إسلامي متشدد ومتزمت يحمل السلاح لفرض معتقداته الخاصة على الناس» بحسب تعبيره.

وتطبق المجموعات الإسلامية المتطرفة المسيطرة على شمال مالي وفي مقدمتها جماعة أنصار الدين التي يتزعمها إياد أغ غالي ما ترى أنه أحكام الشريعة الإسلامية.

وتقوم عناصر الشرطة الدينية التابعة للمتشددين في المدن المحتلة من قبلهم بتطبيق صارم للحدود الواردة في المدونة الفقهية وقد قطعت أيدي عشرات الشباب وجلدت المئات منهم بعد أن وجهت لهم تهما بالسرقة والفاحشة كما أغلقت دور المسرح والسينما والنوادي الثقافية والملاهي الليلية وقامت بالفصل بين الجنسين وبفرض البرقع والحجاب الإسلامي في مدينة كانت تضج بالحياة وشكلت قبل أن يحتلها المتشددون الإسلاميون وجهة سياحية جذابة.

وينظر سكان تمبكتو التي شكلت في السابق معقلا للإسلام السني المالكي المعتدل في أفريقيا بريبة إلى ما يسمونه الدين الجديد القادم مع الحركات الجهادية المتطرفة. وعلى مدى قرون شكلت تمبكتو منارة علمية وثقافية معروفة وتشتهر المدينة المصنفة من قبل اليونيسكو ضمن التراث الإنساني العالمي بمخطوطاتها الهائلة والنادرة وبكثرة أضرحة الأولياء فيها. ودمر متشددو جماعة «أنصار الدين» هذه الأضرحة وقالوا: إن السكان المحليين كان يعظمون أصحابها كما عبثوا ببعض المخطوطات وأتلفوا بعضها الآخر وأغلقوا المكتبات العامرة بها والتي اعتاد ارتيادها السياح الأجانب.